عقدة فرعون
محمد حايك
أتلانتا، جورجيا
قال اللورد البريطاني "أكتون" في نهاية القرن التاسع عشر: "السلطة مُفسدة، والسلطة المطلقة فساد مطلق". فالسلطة تفسد الصالح، وتجذب الطالح. والسلطة المطلقة قد تحول الرجل الوديع إلى وحش مفترس.
في أحد حلقات برنامج 60 دقيقة من قناة سي بي اس CBSفي يوم الأحد من 18 نوفمبر 2012، كان البرنامج يتكلم عن تجار المخدرات في كولومبيا.[1] فيقول أحد محققي تجار المخدرات لويس سيرا أنه كان من الصعوبة جداً تمييز تجار المخدرات من بين الناس، وكأننا نبحث عن أشباح، لأنهم يعيشون حياة بسيطة جداً في شقق صغيرة وبدون بذخ، يقودون سيارات عادية حتى لا يشدوا الأنظار إليهم. فسألته مذيعة البرنامج لارا لوقان: "ما هي الفائدة من جمع كل هذه الأموال إذا كانوا لا يستخدمونها؟". فأجابها المحقق لويس سيرا: "أذكر أنني سألت نفس السؤال لأحد أعضاء مافيا المخدرات، لأنني لم أستطع معرفة الجواب". فكان الجواب الذي قدمه لنا ذلك الشخص: "أنه من أجل الحصول على السلطة". وبمعنى آخر أن الغاية الرئيسية من تجارة المخدرات ليست جمع الأموال، بل من أجل الحصول على مهابة الناس لهم واحترامهم، لأن المال والعنف هما مصدران للقوة والسلطة أمام الناس. فالناس تخشى وتتجنب ازعاج من عنده هاتين الخصلتين.
رجل المافيا يعلم من تاريخ من سبقه أنه سَيُقتَل يوماً ما، أو قد يقضي بقية حياته في خلايا السجون. ذلك المستقبل العقيم لا يمنعه من الاستمرار بأعماله الخارجة عن القانون. لو كان يخشى هذه النهاية الوخيمة، لأخذ أمواله وذهب إلى جزيرة بعيدة يقضي فيها حياة هادئة بعيدة عن العنف والخطر. فالحياة الهادئة لا تستثيره ولا يستسيغها. فلذة السلطة وأن يكون الآمر الناهي لمن حوله ومهابة الناس له تفوق خطورة عمله حتى ولو أودت بحياته. فمتعة السلطان تحمل تقديراً واحتراماً من الناس لا يقدر بمال.
وفي حلقة أخرى من نفس البرنامج أذيعت منذ سنوات، كانت لمقابلة مع سجين من رجال المافيا أصله من مدينة بوسطن لم أعد أذكر اسمه. قال بما معناه، أنه لا شيء يضاهي متعة حياة رجل المافيا، لأن الناس تخشاه وتهابه سواء في الشارع أو في المنزل أو في السوق. فالناس تسعى لخدمته وإرضائه أينما كان وأينما ذهب، كل ما عليه أن يأمر فيطاع. ففي الشارع يسلم عليه الناس باحترام، وفي المطعم تقدم له أفضل أنواع الخمور.
ويوماً كنت أشاهد حلقة لمسلسل سوبرانوس، مسلسل المافيا المشهور. دخل رئيس عصابة المافيا سوبرانوس هو وزوجته إلى أحد المطاعم المشهورة في قلب المدينة، فإذ هناك خط طويل من الناس تنتظر دورها حتى يتاح لها الجلوس على طاولة. كان من بين المنتظرين في الخط الطبيبة الخاصة لزعيم المافيا سوبرانوس. قالت الطبيبة لنادل المطعم بأنها تنتظر على الخط مع الناس منذ ساعة مع العلم أنها حجزت طاولة في اليوم السابق، فاعتذر لها النادل على زحمة المطعم وطلب منها الصبر، فهناك خط طويل من الناس أمامها. ومجرد أن دخل سوبرانوس باب المطعم أتاه النادل مرحباً وأشار له إلى طاولة في صدر المطعم فارغة. رأى سوبرانوس طبيبته الخاصة تنتظر على الخط فسلم عليها ثم مشى هو وزوجته وراء النادل ليجلس على طاولته، وبعد أن جلس أشار بيده للنادل إلى طبيبته الخاصة. تقدم النادل من الطبيبة وهي مازالت تنتظر في منتصف الخط وطلب منها بكل احترام أن تتبعه إلى طاولة لتجلس عليها. لو كان سوبرانوس رجلاً عادياً لانتظر ساعة أو ساعتين من أجل طاولة في ذلك المطعم، كما كانت الطبيبة تنتظر. ولكنه جذب انتباه النادل إليه منذ ان دخل الباب، فتقدم النادل إليه مرحباً وقدم له طاولة على الفور رغم أنه لم يكن عنده حجز مسبق. هذا التبجيل والاحترام تخاطر بعض الناس بحياتها من أجل الحصول عليه. فإما عيش الملوك، وإما الذهاب إلى القبور.
هذا السلوك من الناس استفز غريزة بعض الباحثين من علماء النفس فدرسوه من خلال بعض التجارب. أشهرها تجربة حصلت في عام 1971 سميت بتجربة سجن ستانفورد، قادها البرفسور فيلب زيمباردو من جامعة ستانفورد. جرت وقائع التجربة في أحد أقبية جامعة ستانفورد في مدينة سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا، حيث صممت الغرف بشكل يماثل السجن تماما. وملخص التجربة أن علماء النفس اختاروا 24 طالباً أكثر ملائمة من بين 75 طالباً من جامعة ستانفورد استجابوا لإعلان في الجريدة الرسمية ليقوموا بدور الممثلين في التجربة مقابل أجر من المال. بعض هؤلاء الطلاب كانوا اصدقاء في الجامعة. المطلوب من الطلاب هو أن يمثلوا دور السجين والسجان لمدة اسبوعين. قسمت المجموعة عشوائياً إلى قسمين متساوين، مساجين وسجانين، من خلال القرعة عن طريق استخدام قطعة نقود. فبعد أن وزعت الأدوار زود الحراس بأزياء عسكرية وعصي ونظارات داكنة لتجنب التواصل البصري مع المساجين. ثم قبض على الطلاب الممثلين لدور المساجين من بيوتهم من قبل شرطة المدينة بعد الاتفاق معهم، ووجهت لهم تهمات بالسرقة والسطو المسلح على المنازل والمتاجر. وزجوا في أقبية سجن جامعة ستانفورد بعد أن تم تفتيشهم عراة، ورشوا بالماء ودواء القمل ثم طلب منهم أن يرتدوا ثياب المساجين. طبع على لباس كل سجين رقم خاص ينادى به عوضاً عن اسمه حتى يتأقلم مع الوضع الجديد. وضعت على كاحل المساجين سلاسل من حديد ليشعروا بالإهانة. وأخذت صور المساجين وبصمات أصابعهم وتليت عليهم حقوقهم كما يفعل بالمجرمين الحقيقين. بدأ التحقيق معهم وإهانتهم من قبل الطلاب الممثلين لدور السَجان أو الحرس. طلب من الحرس عدم استخدام العنف مع المساجين، وأن إدارة السجن تقع على عاتقهم خلال تلك الفترة، فلهم أن يتصرفوا بما يروه مناسباً على شرط أن يشعروا المساجين بالخوف. فليس للمساجين حياة خاصة يتمتعوا بها خلال هذه الفترة، بل هم رهن الوضع الجديد والسلطة الجديدة، فعليهم تنفيذ أوامر أربابهم الجدد من الحراس وإلا سيتعرضون للإهانة والتوبيخ.
على عكس المساجين فإن الحرس كانوا يتمتعون بميزات خاصة كأن يعودوا إلى بيوتهم بعد انقضاء ورديتهم. أثار اهتمام الباحثين في هذه التجربة أن بعض الطلاب المتطوعين بدور الحراس تطوعوا للعمل لساعات إضافية بدون أجر مقابل، فلقد التبس عليهم دورهم الجديد وأعجبهم وبدأوا يعاملون المساجين بإهانة أكثر مما هو مطلوب منهم، مما اضطر بالباحثين لأن يوقفوا التجربة بعد ستة أيام عوضاً عن المدة المفترضة لأسبوعين خوفاً من أن تجر التجربة عواقب وخيمة على المساجين. أدى هذا القرار إلى انزعاج بعض الحرس، لقد سرهم دورهم الجديد دور الآمر الناهي، دور "أنا ربكم الأعلى".
وبعد انتهاء التجربة جلس اثنان من الممثلين يتعاتبان، أحدهما كان السجين والآخر كان السجان، فقال السجين للسجان: "ألم نكن أصدقاء؟ فكيف تعاملني بهذا الأسلوب اللاإنساني؟". احتار صديقة السجان في الإجابة وقال: "لا أدري". هذا قد يشرح سلوك الدكتاتوريات ورجال المافيا ضد كل من يتعرض لسلطانهم. لكم اغتالوا من اصدقائهم ومن اقرب أقربائهم، لقد سمعنا بدكتاتور معاصر اغتال صهره خوفاً على كرسيه وسلطانه، وآخر اغتال زوجي ابنتيه.
وفي محاضرة لتاريخ الخلافة العثمانية للدكتور أحمد بن يوسف الدعيج، وكذلك في كتاب الإسلام والاستبداد السياسي لمحمد الغزالي، وكذلك في كتاب Empires of the Sea للمؤلف Roger Crowley يذكرون أن بعض السلاطين كانت تقتل أي منافس محتمل للسلطة من أخوة وأبناء أبرياء سواء كانوا كباراً أو صغاراً خوفاً من اغتصاب الملك منهم، حتى صار ذلك قانوناً في البلاط العثماني سمي بالعقوبة الوقائية. حب السلطة قد يقتل الأبرياء حتى ولو كان الحاكم يحكم باسم معتقد سماوي. ابتدأ هذا الإجراء الدموي من السلطان بايزيد الأول بن مراد، الذي قتل أخاه يعقوب بيديه خنقاً سنة 1389م ثم تحول الى قانون ثابت. وقتل السلطان محمد الثالث عام 1595م تسعة عشر أخاً له واثنين من أبنائه، في يوم توليه للعرش. إنها سنة فرعون في قتل الطفل حتى ولو كان رضيعاً خوفاً من أن يناطحه على السلطة في المستقبل.
يقول الشيخ محمد الغزالي: "إن اكثر السلاطين الذين جاءوا بعد سليمان القانوني، كانوا يقتلون إخوانهم بمجرد اعتلائهم للعرش، وكانوا يقضون حياتهم في القصور بين حاشية كبيرة العدد من الجواري والخصيان، عاكفين على ملذاتهم من لهو وشراب، تاركين إدارة الشؤون في يد الحظية التي تتسلط على أفكارهم. ومن أمثلة ذلك ان جارية من أهل البندقية اتخذها (مراد الثالث) ضمن حريمه، وارتقت حتى صارت السلطانة، وما لبثت حتى أصبحت المسيطرة على سياسة الدولة الداخلية والخارجية، وبقيت السلطة في يدها ثمانية وعشرين عاما، تعين من تشاء للصدارة العظمى وغيرها من الوظائف الكبرى. وانتقلت السلطة بعدها الى غيرها من نساء القصر، فبقين يدرن شؤون الدولة فوق الثمانين عاما".
تخلت الدولة العثمانية عن هذا القانون فيما بعد، ولكن بقي السلاطين يمارسون سياسة العقوبة الوقائية لكل من يخشون منافسته من أقاربهم على سلطان حكمهم، وذلك باحتجازهم داخل البيوت، ومنعهم من الاتصال مع الناس.
لقد حصلت حوادث تاريخية عديدة تفيد بأن الأبناء حاولوا سلب سلطان أبيهم أو أخيهم عن طريق الخلع أو القتل لاستلام الحكم مكانه. فتاريخ الإنسان مليء بالقتل من أجل كرسي الحكم.
ومن إحدى القصص التي أرَّقتني، قصة امرأة قتلت رضيعها من أجل الحصول السلطة، ففي كتاب "الـ 48 قانون للقوة"، يقول القانون رقم 15: "دمر عدوك كلياً وبدون رحمة"[2]. يذكر الكاتب مثالاً من التاريخ على ذلك عن إمبراطورة الصين اسمها "وو Wu". إنها امرأة عطشى للسلطة، وعديمة الرحمة من أجل الحصول على غايتها. عندها الاستعداد للتضحية بأغلى ما عندها من أجل الوصول لكرسي السلطة والسيطرة على زمام الحكم. لقد بدأت كإحدى حريم الإمبراطور. وبعد أن مات الإمبراطور، لم تَرد "وو" أن تسلك المسار التقليدي بأن تعيش بقية حياتها معزولة في دير حريم الإمبراطور الراحل. فحتى تحصل على غايتها، أغرت ابن الإمبراطور في إحدى الحفلات وصادقت زوجته، فأدخلها الإمبراطور الجديد إلى مملكة حريمه. حملت منه ثم قتلت طفلها لأنها تعلم أن المتهم الرئيسي سيكون الزوجة الغيورة للإمبراطور الجديد. اُتهمت زوجة الإمبراطور بالقتل وأعدمت. لقد تخلصت "وو" ممن يقف عقبة في الحصول على هدفها، وأخذت مكانها كإمبراطورة. تركها زوجها الجديد تحكم الإمبراطورية لأنه كان مشغولاً بملذاته. لقد حكمت الإمبراطورة الجديدة الصين حتى بلغت الثمانين من عمرها عندما أجبرت على التنازل عن العرش. وخلال فترة حكمها تخلصت من أولاد الإمبراطور، وكل من حاول أن يتحدى عرشها. إنه جنون السلطة. فالذي يحصل على السلطة بطريق فاسد، فهو طاغية فاسد، وسيكون حكمه فاسداً. لأن همه ليس الإصلاح والعدل، بل البقاء على العرش بأي ثمن. فهناك نشوة لا تقدر بثمن لمن تسلم زمام السلطة ليكون آمراً ناهياً على عباد الله، ولا يشعر بلذتها إلا من كان في قلبه مرض، وما أكثرهم.
هذا السلوك البشري الاستبدادي لم يقتصر على فئة معينة من الناس بل انتشر في أماكن العبادة بين رجال الدين من أجل التقرب من السلطان المطلق، ويكون جزءً من العصابة الحاكمة. إن أشد الفساد هو فساد الكاهن الذي تتبعه الناس، لأنه يغوي الناس بلسانه عن طريق ترديد آيات الكتاب المقدس، فلسان الكاهن أغوى من سيف السلطان. إن للسان لسعات لا يجاريها سيف قاطع. فلسان الكاهن شريك لسيف السلطان، لأنه أضفى على سيف السلطان قداسة دينية فجعله مباركاً. فالكاهن ضرورة تاريخية لاستمرار شرعية فرعون، وبالمصطلح الحديث (الدكتاتور)، سواء كان فرعون المذكور في الكتب المقدسة أو لفراعنة هذا الزمان. فأكثر الناس تتبع من له لسان رنان باسم الدين، ولا تفكر عندما تسمع من يبدأ كلامه باسم الله الرحمن الرحيم. فالكاهن يحصل على ما يبغاه بدعمه للسلطان. فكسب المال الغزير عند الكهنة بإرضاء السلطان صنعة رائجة منذ قديم الزمان. فما أكثر رجال الدين الذين تناقض أفعالهم أقوالهم، فلسان هؤلاء وعلمهم معروض دائماً في أسواق السلاطين ولمخابرات القوى العظمى في الأمصار. فأكبر نقمة دخلت على الدين أنه صار مصدر الرزق الوحيد لبعض المتفوهين منهم، ممن باعوا ضمائرهم وعلمهم من أجل متاع قليل.
لذلك نجد الدكتاتور لا يتنازل عن كرسيه رغم البلايين من الدولارات التي يملكها في حساباته في البنوك، فلا شيء عنده يعادل متعة الأضواء والتسلط على رقاب الناس. يأمر الناس فتفعل، وينهى فتقف. يرفع من ينفذ أوامره، ويقتل من يعارضه. إنها لذة الإنسان لأن يكون الآمر الناهي، إنها لذة قول كن فيكون.
فالمتعة عند رجل المافيا هي نفسها عند الدكتاتور، ليست بجمع الأموال. فعقلية الدكتاتور كعقلية رجل المافيا تقول: "ما فائدة الأموال إن لم يكن هناك سلطة استعبد بها رقاب الناس". إنها عقدة الإنسان منذ قديم الزمان لأن يكون إلهاً على الناس، إنها عقدة فرعون حين قال: "أنا ربكم الأعلى".
وبالمصطلح الفرعوني الحديث: "إما فرعون، وإما أن تخرب البلد".
[1] - , CBS News, 60 minutes, November 18, 2012."Taking down Colombia's "super cartel
[2] - The 48 Lows of Power, by Robert Greene and Joost Elffers