المواطنة ميثاق إنساني قبل أن يكون ميثاقا وطنيا

المواطنة ميثاق إنساني

قبل أن يكون ميثاقا وطنيا

د. سماح هدايا

قالوا إمارة؛ فجن جنون الناس، وقالوا ائتلافا؛ فجن جنون الناس، وقالوا مجلسا وطنيا؛ فجن جنون الناس، وقالوا  دولة علمانية فجن جنون الناس. وقالوا ديمقراطية ومدنيّة وخلافة ودولة عربية وسوريا؛ فجن حنون الناس. وقالوا حرية لا مذلة. وقالوا لا للطائفية؛ فجن جنون الناس. فماذا بعد؟ ماذا بعد ونحن مازال، يوميا، يستمر فينا اعتداء الآخر على الآخر، وتعالي الأول على الثاني والثاني على الأول؟. كأنّ نزيف دم الأبطال المناضلين والمجاهدين والشهداء والفدائيين والآمنين لا يحرك فينا ضميرنا لنحسن القول والفعل قبل أن ندفن موتانا، وقبل أن يدفننا من سيلحق بنا.

يرديدون دولة قبل أن يتحدوا جميعا ليسقطوا دولة الاستبداد والطغيان متمثلة بآل الأسد وأعوانه، ويختلفون على القادة وعلى التيارات؛ كأننا في باب الحارة. والحاكم هو العقيد والمختار. شيء يثير عارنا من قصور تفكيرنا.  فأما آن لنا  أن نفهم أن في سوريا الثائرة،  لا يمكن حمل الناس على رؤية واحدة؟ سوريا ليست ملكا  لوجهة واحدة ولا لفئة واحدة.  هي ملك للسوريين بمضامينهم العريقة. ولذلك من الطبيعي أن يكون هناك اختلاف وخلاف، ومن غير الطبيعي أن يكون هناك لاعب سياسي وحيد؛ لأنه سيتحوّل مع الزمن إلى استبداد جديد. سواء أكان تحت عنوان المدنية أو الخلافة أو العلمانية أو الشيوعية.... لذلك لابد من التنازع السياسي على القيادة، ولابد من تنوّع الفرقاء السياسيين المتنافسين على الاستحواذ الشعبي، لكن اختلافنا يجب ألا يكون مدمرا ومفككا لروح المجتمع ومتوجّها نحو الاستئثار بالسلطة. ويجب ألا يتحوّل إلى تعصب وتقاتل وتناحر تدميري تحت جحافل اختلافاتنا.

نعم لا مفر من الاختلاف. ولا مناص من الخلاف. وهما أمر محمود وواقعي. فليس هناك حقيقة مطلقة يحتكرها أحد.  وكل المجالات قابلة في فهما للتأويل. وذلك يشمل  السياسة والدولة وحتى تفسير الدين والتاريخ.  وقابلة في تنفيذ الأصلح فيها للمعادلة والمنطق والموازنة. المهم أن يكون يكون هناك حقيقة ثابتة مشتركة، وهي احترام كرامة الإنسان وحريته، وصون حرية  الوطن وكرامته.  ولا مجال أمامنا إلا نعمل على بناء تيارات وطنية فكرية  متنوعة ملونة تكون دليلنا ومرشدنا، يلتقي فيها المجتمعي بالثقاقي والسياسي

    إنّ النخب السورية السياسية والثقافية، خرجت عن متطلبات زمننا؛ فهي أخذت بما تنسخه وتكرره وتعلكه، تفقد منذ وقت غير قريب جاذبيتها. بعد أن تعذر عليها الاتحاد في عموم الشعب؛ فانعزل الشعب عنها، وانعزلت عنه تضغط على فكره بفكرها الفوقي.  وتاه الناس، وازداد ضياعهم في طل حكم مستبد طاغ، يوسّع قاعدة الجهل والتجهيل والتهميش. فما كان أمام  الناس إلا أن النهل من الموروث الديني الشعبي  الأوسع، بما فيه من قيم راقية، وبما فيه أيضا مافيه من رواسب سيئة.

 والذي لا يعجبه هذا الأمر عليه أن يعترف بواقعه ويتحمل هذه النتيجة، لأنه أسهم فيها، بشكل أو بآخر. فطول حكم الطغيان والتمييز الطائفي، أوقع الأمة في مأزق  وطني وفكري وقيمي ووجداني، شاركته فيه دوره السلبي المخيف جموع  النخب الثقافية التي فشلت في إقناع الناس بمالديها، وفشلت في تكوين حاضنة أخلاقية ووطنية وإنسانية تشعر الناس باحترام ذاتيتهم ومكوناتهم الثقافية والأخلاقيّة.  و لذلك الأفضل، الآن، هو نقد الذات قبل نقد الآخر. المواطنة لا تولد من دون ميثاق وطني إنساني تشاركي له أسس أخلاقية قبل أن تكون له أسس فكرية وسياسية.