معركة الهُويّة الإسلامية
مجاهد ديرانية
الحمد لله الذي حفظ الدين وسخّر له جيوشاً من الدعاة والعلماء العاملين المخلصين يَدْعون إليه ويدافعون عنه ويبيّنون أحكامه للناس. وأنا أقل بكثير من أن أكون في العلماء، ولكني أرجو أن أكون جندياً صغيراً في كتيبة الدعاة إلى الله، فأصرف في خدمة ديني ما بقي من أيامي كما صرفت في خدمته أكثر ما مضى منها بفضل الله.
والدعاة قد يختلفون في المنهج ولكنهم يتفقون على الغاية، ومن هنا ظهر بعض التباين بيني وبين غيري في فكرة طرحتها في مقالتي الأخيرة، حينما دعوت إلى عدم معارضة أي مشروع من شأنه أن يُنهي محنة السوريين ويوقف القتل والمعاناة، ولو لم يحقق إسلاميةَ سوريا على الفور، طالما لم يتضمن أيّ قيد علماني يقيّدها ويمنع أهلها من اختيار الإسلام حاكماً لحياتهم ودولتهم فيما يأتي من الأيام.
لم أخالف غيري من الدعاة في الغاية، فنحن كلنا متفقون على الهدف: نريد أن تصبح سوريا بلداً إسلامياً يُحكَم بالإسلام ويعيش أهله بالإسلام. وإنما اختلفنا في التوقيت فقط، فأنا لا أجد مشكلة في أن نصل إلى هذا الهدف "بعد" انتصار الثورة وسقوط النظام، وغيري قد يخالفني فيقول: بل يجب أن يكون هذا جزءاً من استحقاق الثورة وإنجازها الفوري ونصرها الكامل إن شاء الله.
* * *
أنا ومَن يوافقني في اجتهادي نعتمد على ثلاث مقدمات للوصول إلى النتيجة السابقة: (1) نضع بين أعيننا المحنة الفظيعة التي يعيشها أهلنا في سوريا، ونعلم أن اليوم من أيامها يحمل ما لا يوصَف من العذاب والقتل والتدمير، فإذا استطعنا أن نختصر من المحنة يوماً، بل ساعة، لم يَجُزْ أن لا نفعل. (2) ونعلم أن الثورة تسعى إلى سقوط النظام كاملاً وتعتبر ذلك هدفها الأعلى، فهي تريد سوريا الحرة، ولكنها تريد أيضاً سوريا المسلمة، ولولا ذلك لم يكن لهتاف الثوار "هي لله" و"لبّيك يا الله" أي معنى. (3) ثم إننا ندرك أن المجتمع الدولي بشرقه وغربه سيطوّل المحنةَ على أهل سوريا حتى يُلزمهم بحل يرضيه، وليس التزام السوريين بالإسلام وإعلان الإسلام هوية لسوريا ومصدراً للتشريع فيها مما يرضيه.
الولايات المتحدة وحلفاؤها يريدون أن يخلو أي دستور يوضَع لسوريا اليومَ من الارتباط بالإسلام تشريعاً وانتماء وهوية، ويريدون أن يكبّلوا سوريا الغد بقيود تمنعها من تحقيق ذلك في أي يوم من الأيام. أنا لا أجد أن الأمرين سواء، فنحن لا يمكننا الموافقة على تقييد سوريا بمبادئ دستورية عليا تضمن علمانيتها وتمنع إسلاميتها، ولكننا نستطيع تأجيل معركة الهوية إلى ما بعد سقوط النظام، لأن الشعب الذي أسقطه لن يعجز عن فرض مطالبه، والمعركة التي خضناها حرباً وصولاً إلى الحرية سنكملها سلماً وصولاً إلى إسلامية سوريا بعون الله.
إن معركتنا في سوريا هي معركة للحرية وللإسلام، والانتصارُ في الأولى انتصارٌ في الاثنتين معاً، لأن الإسلام لا يحتاج إلاّ إلى الحرية ليظهر وينتشر في الناس. لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، حينما منعه كفار مكة من دخولها معتمراً مسالماً غيرَ محارب: "يا ويح قريش، لقد أكلتهم الحرب! ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة". أي أنه عزم على قتالهم -عليه الصلاة والسلام- حتى يخلّوا بينه وبين الناس، وهذا ما نقوله في سوريا اليوم.
إن نظام الاحتلال الأسدي البعثي الطائفي كان عائقاً أمام إسلامية سوريا، فحارب الدينَ والفضيلة ونكّل بالدعاة والمتدينين، وإنّا قد ثرنا عليه لنسقطه ونسقط عوائقه، لذلك فإننا نشترط شرطاً أساسياً لا تهاونَ فيه ولا تَصالُحَ دونه؛ وسوف نصرّ عليه ولو امتدت الثورة مئة عام، وهو أن لا توجد في سوريا الحرة الجديدة أي قيود على التديّن ولا على الدعوة إلى الدين.
* * *
لكنْ لا يَفهمْ أحدٌ من ذلك أننا نعتزم إلزام الناس بالإسلام. قلت في مقالتي السابقة إنني أثق بأن الإسلام سيكون اختيار الشعب السوري بغالبيته العظمى، فإذا لم يكن كذلك فلا بد أننا قصّرنا في تقديمه للناس، ومن ثَمّ فإن الواجب على العلماء والدعاة أن يجتهدوا ويستمروا بالدعوة إلى الله. أمّا أن يُفرَض الإسلام على السوريين فرضاً فما أبعدَ هذا عن الصواب، لأن الإجبار ينفّر الناس ويرفع بينهم وبين الدين حجاباً نفسياً ثقيلاً، ولأن الإسلام يرفض الإكراه: {لا إكراهَ في الدين}، {أفأنتَ تُكْرهُ الناسَ حتى يكونوا مؤمنين؟}، ويقوم على الدعوة والبلاغ: {إنْ عليك إلاّ البلاغ، وما أنت عليهم بجبّار}.
يجب أن يكون الإسلام هو اختيار الشعب، وعندما يكون هو اختيار الأغلبية فلا يحق للباقين أن يرفضوه، ولو كانوا كارهين. أليس هذا من أهم أركان الديمقراطية التي وافقوا عليها؟
نعم أيها الكارهون؛ هذا منهجنا لا نخفيه ولا نخدع عنه الناس: نحن مسلمون ونحب أن يحكمنا الإسلام، ولقد قرأتم هذا الرأي في كتاباتي مرات ومرات، وقرأتموه في كتاباتٍ لا تُحصى كتبها غيري ممّن هم أكثر مني فضلاً وأكثر علماً، ولكنّا -مهما بلغ حبنا لديننا- لا نجيز لأنفسنا أن نُكره عليه الناس لأن هذا ليس من منهج الإسلام كما قلت قبل قليل. فمن أين يأتي المتقوّلون علينا بالأقاويل؟
علّق أحدُهم على بعض كتاباتي مرة فقال إنه لا يطيقني أنا وأمثالي. لماذا؟ قال: "نخاف منك أنت وأمثالك لأنكم تريدون الحكم بالإسلام وتريدون أن تُلزمونا به وتحملونا عليه بالإكراه". فقلت له: لقد أصبتَ في شطر حكمك وأخطأت في الشطر. إننا نريد الحكم بالإسلام، نعم، هذا صحيح، وإلا فبماذا تريدوننا أن نُحكَم؟ بالتلمود أم بالقانون الإنكليزي أم بشريعة الهندوس؟ وأما الإكراه والإلزام فمن أين جئت به؟ أتمنى ممن اتهمني به أن يأتي عليه بدليل؛ بمقالة أو فقرة أو سطر أو كلمة مما كتبته ونشرته على الملأ. وللعلم فليس عندي كتاب ظاهر وكتاب مستتر، ما أريد قوله أقوله أمام كل الناس، وإذا كتبت صدقت ولم أداور ولم أناور، لا خوفاً ولا تقيّة، فلا خُلُقي يسمح لي بالخوف ولا ديني يسمح لي بالتقيّة والنفاق.
أنا أريد إجبار الناس على الإسلام؟ يا له من بهتان عجيب! أنا لا أجبر أولادي على أمر حتى أجبر عليه أولاد الناس. لا، ليس أنا من يدعو إلى إكراه الناس على أمر لأنني أكره أن يُكرهني أحد على ما لا أريد. فلنتفق نحن وأنتم يا أيها العلمانيون: لا نلزمكم بإسلامنا ولا تلزموننا بعلمانيتكم. الميدان مفتوح لنا ولكم واختيار الناس هو الاختبار. أم أنكم تخافون من الاختبار وتخشون من حرية الناس في الاختيار، فتتوسلون إلى قهرهم بقيود قانونية أو دستورية أو فوق دستورية تحرصون على تثبيتها منذ اليوم؟
هذا بيان للناس كافة من شرق ومن غرب، ومن خصوم لنا يعيشون بيننا ويلبسون جلدتنا ويتكلمون لغتنا، ثم يكيدون لسوريا كما كاد لها في الماضي نفر من خَوَنة أبنائها: لقد قاتل الشعب السوري نظاماً من أسوأ أنظمة الحكم في التاريخ وأشدها قمعاً وأكثرها دموية، قاتله لينال حريته الكاملة، حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التديّن وحرية اختيار المصير، ولن يضرّه أن يكمل معركته مع أي قوة في الدنيا تحاول أن تسلبه أياً من تلك الحقوق، فإياكم أن تحاولوا فرضَ العلمانية عليه وحرمانَه من حق اختيار الإسلام الذي يريد.
انتبهوا إلى هذا التحذير، فإنه جِدٌّ لا هزلَ فيه: كم قدّم الشعب السوري العظيم إلى اليوم؟ مئة ألف شهيد؟ سيقدم مئة ألف شهيد غيرَهم لكيلا يسرق أحدٌ ثورته، وحتى لا يسلبَه أحدٌ دينه وحريته وكرامته ويعيدَه إلى قفص العبودية من جديد.