الشريعة ومعركة الدستور!!
حسام مقلد *
مذ أنشبت الفتن السياسية مخالبها في جسد الأمة الإسلامية في وقت مبكر من فجر الإسلام والمسلمون يخلطون خلطا شائنا شائها بين الاجتهادات واختلاف التفسيرات الدينية لبعض المسائل والفروع (وهذا وارد حدوثه في كل الأديان) وبين الصراعات السياسية الطبيعية التي تقع في كل الجماعات البشرية، وكثيرا جدا ما تتحول الخلافات البسيطة إلى صراعات شرسة قد تصبح دموية في بعض أطوارها ومراحلها.
ومحزن جدا أن يستمر هذا الخلط المشين حتى الآن بعد مرور كل تلك القرون والأزمان والتجارب التي كانت كفيلة بصقل خبرة الناس في المجتمعات المسلمة، والأكثر حزنا وإيلاما أن نرى هذه الآفة الفتاكة حاضرة في المشهد المصري بقوة بعد ثورة يناير المباركة(وأعني بها آفة تحويل كلا خلاف فكري أو سياسي أو ديني إلى صراع شرس قد يصبح دمويا لا قدر الله) وقد ظهرت هذه الآفة بوضوح في أوقات كثيرة خلال الفترة الانتقالية، أبرزها ما يحدث في المعركة المفتعلة الدائرة الآن بين مختلف القوى السياسية بخصوص الدستور!!
فبدلا من قراءة مسودات الدستور بعمق، وحصر المواد المختلف حولها للوصول إلى أفضل صياغة توافقية لها تحفظ المجتمع وتحقق مصالح الجميع، بدلا من ذلك هناك من يرفضون بداية هذا الدستور، بل ويرفضون الجمعية التأسيسية المكلفة بإعداده، ويدعون لإسقاطها، ويسعون بكل ما أوتوا من قوة لإفشال عملها، وهؤلاء ليسوا على استعداد أبدا للتوافق مع بقية القوى السياسية والمجتمعية في أي أمر كان!!
وهناك جزء من الإسلاميين (السلفيون تحديدا أو شطر كبير منهم) يصرون بشدة على مطالبهم الصارمة في صياغة تفاصيل بعض المواد، كحذف كلمة هنا أو إضافة كلمة هناك، بما يضمن من وجهة نظرهم تحقيق رؤيتهم الشرعية بشكل حاسم، وهناك فئات أخرى من المجتمع متخوفة جدا من إصرارهم هذا، وتتعامل معه بارتياب بالغ!!
وثمة مكونات أخرى من المجتمع المصري لها مطالبها الخاصة في الدستور، والجميع يضخم من مخاوفه ويعظم من قلقه؛ وذلك بسبب الحالة التي وصلنا إليها من التشظي وانعدام الثقة فيما بيننا!!
وقد سألني صديق سلفي باستنكار شديد: كيف لك ترفض تطبيق الشريعة الإسلامية؟ فقلت: بالعكس ربما أكون من أكثر الناس وأشدهم تعطشا وحماسة لتطبيق الشريعة بمفهومها الشامل الكامل كمنهج رباني للحياة، فتكون سلوكيات المجتمع المسلم وأخلاقه وأفعاله وأقواله ومعاملاته وفق هذا المنهج الإلهي ومنضبطة به، وأتمنى أن يجري بيننا حوار وطني جامع لشرح المقصود بتطبيق الشريعة، وإنجاز دستور توافقي يليق بمصر بعد ثورة يناير المباركة، وينص صراحة وبوضوح تام على تطبيق الشريعة وعدم مخالفة أية قوانين لها!!
لكنني أرفض وبشدة وإصرار استمرار الضغط بالمليونيات واستعراض القوة في الشارع من أي طرف كان، فالدستور من الأمور التي لا يصلح معها هذا الأسلوب؛ إذ ينبغي أن يتم التوصل إليه بالتراضي والتوافق بين الجميع، وهذا لن يحدث في ظل حالة الاستقطاب الحاد والتشرذم والانقسام التي يعيشها المجتمع وسط أجواء عاصفة من الاستفزاز وفقدان الثقة والصراعات الشرسة بين مختلف القوى السياسية!
وعلينا أن ننظر في مآلات الأمور، ونحرص على تحقيق المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية ومن بينها الحفاظ على وحدة الوطن وسلامته وتماسك نسيجه الاجتماعي؛ فهذا من هدي الإسلام؛ إذ يجب أن يحرص أي شعب على وحدته كي تَقْوَى شوكتُه ويَرْهَب الأعداء جانبه، ولكن مع الأسف الشديد فإن بعض الناس لديهم اندفاع وتهور غريب ولو أدى ذلك للفرقة والنزاع، أو حتى لاندلاع الحروب الأهلية الطاحنة لا قدر الله!!
ولنا في تجارب الآخرين العظة والعبرة ففي الثمانينات مثلا أصر (جعفر نميري) على تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان دون تهيئة الشعب لذلك؛ مما أدى لنشوب حرب أهلية استمرت نحو 20 عاما انتهت بانقسام السودان لدولتين، ولا تزال المخاطر تتهدده من كل جانب، والتجارب المأساوية ونتائجها الكارثية عديدة في عالمنا الإسلامي، منها اندلاع حرب أهلية ضروس بين المجاهدين الأفغان استمرت أربع سنوات كاملة (من: 1992 إلى: 1996م) والحرب الأهلية التي اشتعلت في الجزائر إبان التسعينيات، والحرب الأهلية الدائرة في الصومال منذ أكثر من عشرين عاما، وهناك حرب وشيكة تطل برأسها بين جماعة تسمى (أنصار الشريعة) في مالي وبين عدد من الدول تقودها فرنسا، ولا ننسى ما يحدث في سيناء...!!
وعلينا أن نعي حساسية وخطورة ما يجري حولنا في المنطقة، ولننظر للأمور من كل الزوايا، فنحن لا نعيش في الكون وحدنا، ويجب أن ندرك أن أجهزة المخابرات العالمية تسرح وتمرح في دول الربيع العربي، وبالأخص في مصر، وهناك قوى محلية وإقليمية ودولية (...!!) تنفق بسخاء شديد أموالا طائلة لإفشال الرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين، رغبة في إجهاض الثورة المصرية المباركة، وإفقاد شعوب المنطقة ثقتهم في الإسلاميين وفيما يقدمونه ويطرحونه من مشاريع حضارية للنهوض والتقدم، وهذه التحديات الخطيرة تفرض علينا جميعا مسئولية مضاعفة تجاه وطننا وثورتنا، فهل سنكون أهلا للتحدي وعلى قدر المسئولية الجسيمة الملقاة على عواتقنا أم سنسلك دروب الهزيمة والخسران ومسالك الفشل والبوار كما فعل غيرنا: باسم الشريعة حينا، وباسم الوطن حينا آخر!!
* كاتب إسلامي مصري