أسعار البشر في البورصة الأمريكية
كاظم فنجان الحمامي
ما تفرضه أمريكا علينا وعلى غيرنا من تعويضات عن أرواح موتاها الذين قتلوا بالخطأ, يختلف اختلافا كبيرا عن ما نستحقه نحن أو غيرنا من تعويضات عن أرواح أبنائنا, الذين سفكت دمائهم عمداً ببنادق الحقد والاستهتار, فأسعار البشر في البورصة الدولية يرسمها مزاج القوى الغاشمة بمعيار الكيل بمكيالين, إذ إن تعويض أي مواطن أمريكي لا يقل عن نصف مليون دولار في أسوأ الحسابات, بينما جاءت تعويضات ضحايا المجزرة, التي ارتكبتها أمريكا نفسها في ساحة النسور ببغداد متناقضة مع أبسط الأعراف الإنسانية في كوكب الأرض, فالمبلغ الإجمالي الذي دفعته منظمة (بلاك ووتر) الإرهابية إلى أربعين عائلة منكوبة كان (800000) دولار بالتمام والكمال, بمعنى ان قيمة الفرد الواحد كانت (20) ألف دولار فقط, لكنها اختزلت تعويضات شهداء (حديثة) في العراق إلى ألفين دولار فقط للشهيد الواحد, ودفعت في أفغانستان (50) ألف دولار تعويضا إلى (16) عائلة منكوبة, بمعنى انها دفعت ثلاثة آلاف دولار تقريبا عن كل ضحية في مدينة (بنجواي). .
من نماذج التعويضات العجيبة التي استوفتها أمريكا من العراق نذكر قرار المحكمة الأمريكية للمواطن الأمريكي (وليام بارلون), وتابعه (ديفيد دليبرتي) بتعويضهما بمبلغ (150) مليون دولار, على الرغم من تسللهما إلى الأراضي العراقية فجر يوم 13/3/1995, وقيامهما بزرع أجهزة التنصت عند مقتربات قيادة القوة البحرية العراقية في أم قصر, فحوكم الاثنان بالسجن ثماني سنوات بموجب أحكام المادة (24/1) إقامة, بحضور رئيس قسم رعاية المصالح الأمريكية, وثم أطلق سراحهما بعد تكرر الوساطات الدولية والعربية, لكنهما حال وصولهما إلى ديارهما قدما شكوى في المحاكم الأمريكية ضد العراق, ادعيّا فيها إن العراق احتجزهما (126) يوماُ بغير وجه حق, وطالبا بتعويضهما بمبلغ (150) مليون دولار, وحصلا على الحكم بالتعويض. .
ونذكر قصة (17) طيارا أمريكيا أسقطت طائراتهم فوق العراق عام 1991, فاحتجزهم العراق كأسرى حرب, ثم أطلق سراحهم بعد أقل من شهرين, لكنهم طالبوا العراق بدفع تعويضات بلغت (959) مليون دولار بدعوى سوء المعاملة في الأسر, وحصلوا على التعويض. .
ونذكر قصة الطفل الأمريكي الذي عوضه العراق بمبلغ (50) مليون دولار لأنه شعر بالخوف والذعر عندما احتجزه العراق ليوم واحد في القصر الجمهوري عام 1990. .
ونذكر أيضا قصة الشركة الأمريكية, التي باعت للعراق أفرانا لصناعة الأطراف البلاستيكية الصناعية, فادعّت أن العراق استخدمها لتصنيع الأسلحة النووية, فعوضها العراق بخمسين مليون دولار نزولا عند القرار الجائر الذي أصدرته أحدى المحاكم الأمريكية. .
ونذكر قرار المحكمة الأمريكية, التي حكمت ضد حكومة القذافي بتعويض ستة أمريكان قتلوا بتفجير طائرة في النيجر بمبلغ لا يقل عن خمسة مليارات دولار. .
اما طائرة البوينغ التابعة لشركة (بان أمريكان) والتي انفجرت فوق قرية لوكربي الاسكتلندية, وتسببت بقتل (259) من الركاب, و(11) من سكان القرية, فلها حكاية أخرى تعكس مقدار الميلان والانحراف في ميزان العدالة الدولية, بالمقارنة مع ضحايا العراق الذين قتلهم القناص(كريس كايل Chris Kyle) لوحده, وتفاخر بما اقترفته يده بكتابه (American Sniper), الذي سطر فيه وقائع كل جريمة على حدة, مشيرا إلى المكان والزمان والمسافة ونوع الرصاصة وسرعتها, وما الذي كان ترتديه كل ضحية من ثياب, فقتل (260) عراقيا من النساء والأطفال والشيوخ والشباب, قتلهم بيده وسفك دمائهم من دون رحمة, واقترف لوحده ما لم يقترفه عشرات المجرمين والسفاحين, ثم خرج إلى العالم ليعترف بجرائمه ويشرح بالتفصيل الممل كيف قتل الناس في الناصرية وبغداد والفلوجة, ويصدر كتابا بكل اللغات الحية يدون فيه أقواله وإفاداته, التي يعترف فيها اعترافا مسجلا بخط يده على جرائمه البشعة, التي ارتكبها في العراق فكرمته أمريكا ومنحته أرفع الأوسمة والميداليات ونال استحسان المنظمات اليهودية المتطرفة. .
بيد ان الأمر يختلف تماما في قضية (لوكربي), التي ضغطت فيها أمريكا وبريطانيا على مجلس الأمن لاستصدار القرار (883), الذي فرضت بموجبه العقوبات الدولية على ليبيا, فشملت حظر الطيران في أجوائها, ومنعت تصدير الأسلحة إليها, وقلصت علاقاتها التجارية والدبلوماسية معها, وأخضعتها للحصار تحت مظلة الأمم المتحدة, بدعم من أمينها آنذاك (بطرس بطرس غالي), فنجحت الضغوط بإرغامها على دفع مليارات الدولارات لعوائل الضحايا. .
مفارقات رقمية لا يقبلها العقل ولا المنطق, وقرارات متناقضة مع صوت العدالة الإنسانية, ولا مجال للمقارنة هنا بين التعويضات التي فرضتها أمريكا على الأقطار الضعيفة, والتي وصل فيها التعسف إلى مستوى الابتزاز السياسي في حوادث كانت طرفا فيها, من دون أن يكون للحكومات العربية والإسلامية الحق في المطالبة بالمثل, ولا ندري بالضبط, هل هو الإذعان للطغيان الأمريكي والرضوخ لإرادته ؟, أم الشعور بالذل وعدم المساواة مع الآخرين ؟, أم الإحساس بالضعف وعدم القدرة على مطالبتها بحقوقنا المهدورة ؟. .
ختاما نتساءل: ألم يحن الوقت بعد لفتح مكاتب في المدن العراقية تتبنى الاستماع لشكاوى المواطنين عن الأضرار التي لحقت بهم من جراء الغزو الأمريكي, وتتبنى المطالبة بتعويض المواطنين المنكوبين ؟, ألا يفترض أن تتشكل لجان متخصصة في البرلمان العراقي تتولى مسؤولية المطالبة بحقوق ضحايا أمريكا في العراق في ضوء القرارات الدولية وبالتنسيق مع المنظمات الإنسانية العالمية ؟؟؟, ألا يفترض أن تكون المعاملة بالمثل هي القياس الذي ترتكز عليه دعاوى التعويضات ؟؟. . .