الطائفية في جدلية الأقليات والثورات
ياسر الزعاترة
من بين حالة ما يشبه الإجماع الفلسطيني خلف الثورة السورية، تماما كما هو الحال في غالبية الدول العربية، خرج 70 مثقفا وكاتبا وشاعرا كما وصفوا أنفسهم (من فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 48) ليجدفوا ضد التيار، وليعيدوا على مسامع الناس ذات المعزوفة التقليدية التي رددها بعض اليساريين والقوميين الذين يقفون خلف النظام السوري، والتي لخصها أحدهم بالقول «أعداء سوريا يستعملون كل الطرق والوسائل لتفتيت العالم العربي، حيث إنهم فتتوا العراق، واليوم يريدون تفتيت سوريا، ولكن شعبنا العربي فيها وأمتنا العربية سيقفان أمام هذه المؤامرة الإجرامية التي تقودها الولايات المتحدة ضد العالم العربي».
حين تنظر في أسماء الموقعين على البيان، ستجد دون عناء أن كثيرا منهم ينتمون إلى الأقليات غير المسلمة، إلى جانب شيوعيين ويساريين وقوميين (يتحدرون من عائلات مسلمة)، وهو ذات الحشد الذي يقف إلى جانب بشار الأسد داخل سوريا نفسها، وبالضرورة في لبنان أيضا.
ورغم أن الشيعة ينتمون إلى فئة الأقليات في العالم العربي والإسلامي، إلا أننا سنستثنيهم بعض الشيء هنا، أولا لأن السبب الأساسي في انقلاب مواقفهم يتعلق بسوريا وعلاقتها بالمحور الإيراني (في المحصلة تبعيتهم العملية لموقف إيران)، وثانيا لأنهم يشكلون أغلبية مثلا (أي النصف أو أكثر قليلا) في بلدين هما العراق والبحرين، ولعل موقفهم السلبي من الحراك الإصلاحي في الكويت يكشف بعض التناقض في مواقفهم، مقابل انحيازهم الشامل للحراك البحريني الذي يتقدم عندهم على أي حراك آخر.
الفئات التي تعنينا هنا هي تلك التي اتخذت موقفها بناء على هواجس طائفية تتعلق بالصورة التي رسمها الربيع العربي لنفسه؛ أولا من خلال اللون الإسلامي الذي طبع حراكه (المساجد وأيام الجمعة)، وثانيا بسبب نتائج الانتخابات التي أجريت لاحقا في أكثر من بلد عربي.
هنا يمكن القول: إن الأمر لا يتعلق بالتحول الذي طرأ على صيرورة المواقف بعد الثورة السورية، بل سبقها أيضا، بدليل موقف الأقلية القبطية في مصر، والتي دعمت غالبيتها نظام مبارك حتى الرمق الأخير، فيما وقفت بقضها وقضيضها إلى جانب أحمد شفيق خلال الانتخابات في محاولة لاستعادة النظام القديم من خلال الآليات التي فرضتها الثورة.
دعك هنا من لعبة المناكفة، والتقليل من شأن هذا الطرح التي سيحاولها البعض من خلال الحديث عن عدم صحته عبر القول: إن من الأقباط من وقفوا مع الثورة وضد أحمد شفيق، نقول ذلك لأن الشذوذ لا ينفي القاعدة وإنما يثبتها، والأقليات كغيرها ليست كتلا مصمتة لا وجود لاختراقات فيها.
اللافت هنا أن الأقليات المذكورة لم تقصر في استخدام المبررات التي ساقها عناصر التيارين اليساري والقومي في سعيهم لإثبات صحة موقفهم من الربيع العربي عموما، ومن محطته السورية على وجه الخصوص، وبالطبع كي لا ينكشف البعد الطائفي لموقفها وهواجسها على نحو يستفز الأغلبية، مع العلم أن كثيرا من منظري التيارين إياهما ينتمون لتلك الأقليات أيضا، بخاصة التيار اليساري.
لكن ذلك لم يكن ليغطي الموقف بحال من الأحوال، إذ إن الناس ليسوا جهلة حتى يعجزوا عن تمييز دوافع المواقف لهذا الفريق أو ذاك؛ بين الدافع الحزبي والأيديولوجي، وبين الدافع الطائفي، فضلا عن المذهبي كما هو الحال بالنسبة للشيعة الذي يرون بالمناسبة أن العلويين (في سوريا) كفار وليسوا مسلمين، لكن التحالف الإيراني فرض نفسه وحساباته، بما في ذلك على حزب الله الذي لم يكن ليتمرد على «الولي الفقيه» بحال من الأحوال رغم إدراكه لحجم الخسارة التي ترتبت وستترتب على موقفه من الثورة السورية.
وحين يتباكى المثقف الذي أوردنا كلامه في البداية على وحدة سوريا، فإن الرد عليه جد بسيط، وخلاصته أن ما دفع سوريا إلى هذا المستوى من الاحتراب، وبالتالي مخاطر التقسيم هو وقوف الأقليات إلى جانب بشار، ولو انحازت للثورة لانتهى المشهد إلى ما انتهت إليه الثورات الأخرى، ما يعني أن موقفها هو الذي دعم مسار التفتيت وليس الشعب الذي خرج يطلب الحرية وكان شعاره «واحد.. واحد.. واحد، الشعب السوري واحد».
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل من حق الأقليات أن تفرض رأيها وموقفها على الأغلبية ضمن أية هواجس كانت؟ الجواب، لا. وهل حقا أن الأنظمة الحالية هي الأكثر ضمانا لحقوق الأقليات؟ ألم تكن الأقلية القبطية في مصر تشتكي التمييز من نظام مبارك، وقبله السادات وقبله عبدالناصر؟!
إن جوهر الربيع العربي هو التعددية والمجتمع المدني، وليس الإقصاء حتى لو وصل الإسلاميون إلى السلطة، ما يعني أننا إزاء هواجس غير حقيقية دفعت كثيرين إلى القناعة بأن شعار بعض تلك الأقليات الحقيقي هو: «نار الأنظمة ولا جنة الإسلاميين».
دعك في الختام من شعارات أميركا والإمبريالية والمؤامرة، لأن أكثر تلك الأقليات لم تكن سعيدة بها أصلا، ولم تكن تنحاز إليها، لاسيَّما بعد أن تبنتها القوى الإسلامية خلال العقدين الماضيين.
هنا لا تملك إلا أن تشعر بكثير من الاحترام لمثقفين من تلك الأقليات تمردوا على محيطهم الاجتماعي، ووقفوا إلى جانب حق الشعوب في الثورة على الظلم، وحقها بعد ذلك في تجريب خياراتها أيا كانت، ولا عجب أن ترى كيف يتعرض بعضهم لأبشع أنواع التشكيك، بل التخوين من آخرين داخل تلك الأقليات، فضلا عن شبيحة يتبعون نظام بشار لأسباب حزبية وأيديولوجية أيضا.