عذرا ...فلنكن كالثورة ثوريين، أو فلنصمت...
د. سماح هدايا
عندما أعلن الشّعب السّوري ثورته، ورفضتها أطياف مختلفة من أبنائه، لأسباب كثيرة ومختلفة؛ مثلما رفضها النظام الأسدي الاستبدادي. لم يخرج، وقتها، وفق برنامج سياسي أو عقائدي. بل سار وفق مبدأي الحرية والكرامة، وعندما سار طويلا في ثورته السلمية فوق دمائه، فقد فعل ذلك؛ لأن السلميّة كانت أول الحلول الممكنة، ولذلك أعطى للدور السلمي كل إمكاناته، وعندما تدرج وتفاعل مع الوقائع وواجه فشل موقفه السلمي في إسقاط النظام الفاسد المستبد الطاغي الإرهابي، تحوّل إلى السلاح، مضطرا، ليدافع عن نفسه، على الرغم من الهوة الواسعة بين إمكاناته العسكرية وإمكانات النظام، وهو لم يفعل ذلك لأنه أخذ ينفّذ مشروعا سياسيا للسلفينن والقاعدة والإسلاميين والمتطرفين والقطريين والسعوديين، بل فعله لأنه يدافع عن وجوده وحياته وحقوقه. وعندما قال الشعب السوري في شعارات ثورته" الشعب السوري واحد"؛ فلكي يتوحّد الشعب السوري على مطالبه في الحرية والكرامة. وهو شعار ينطبق على الطوائف المختلفة، وينطبق، أيضا، على التفرعات الكثيرة في المجتمع كلّه. وعندما قال الشعب السوري" مالنا غيرك يا الله"؛ فلأنه وهو يواجه عنفا شديدا بينما العالم كله يتخلى عن مساعدته وإنقاذه وفق الشرعة الإنسانية، لم يعد أمامه سوى تفجير طاقات إيمانه بربه، على أنّه المنقذ والمنجي والهادي. فاتجه نحو العقيدة الجهادية الإسلاميّة يستمدّ منها عزيمته في الصبر والمقاومة. فعندما تشتد المحن، ويزداد القهر ويغلو العنف، يلجأ البشر إلى الأمور الرّوحيّة ليستمدوا منها القوة على الصبر والمواجهة. وبالتالي؛ فإن حدث التطرّف في صفوف الثورة السوريّة؛ فهو نتيجة العنف الرهيب الاستثنائي الموجه ضدها، ونتيجة تخاذل العالم عن نصرتها ونصرة أبنائها.
القنوط والإحباط يستفحلان في أطياف المعارضة والمراقبين، وأصبح السوري محاصرا حصارا مخيفا بمسلسل أخطاء الثورة وخطاياها، وبقصص السلفيين المخيفة، وبالحكاية التقليدية لسرقة الثورة من طرف الإسلاميين والمتطرفين الذين، بحسب ماينتشر في أدبيات مواقع الإنترنت والإعلام، حولوا سوريا إلى أفغانستان وصومال. من دون أن يحصل التشخيص الحقيقي الموضوعي المتزن للواقع. والعجيب أن المثير لهذا اللغو كله هم أهل السياسة المفترض بهم الخبرة السياسية وعمق الفكر ومنهجية التفكير، لكنْ، كأنما النخبة السياسية السّوريّة في المعارضة مازالت تتعامل مع الواقع الجديد بمنطق صالوناتها وأنديتها القديمة. متجاهلة أن سبب العلل المتزايدة في واقعنا، الآن، هو النظام السياسي الحاكم، بممارساته الاستبداديّة والإرهابيّة، وبما يستعمله من أساليب دموية عنيفة، وبما يشيعه من كذب وتضليل وفوضى وفرقة وتهشيم، وبما ينشره من عصابات مجرمة لها ألف لون. وبدل أن يقوم المعارضون بلم شمل المجتمع النازف المنقسم على نفسه تحت عجلة التصفية العنصريّة، وإغاثته واحتواء الثورة ودعمها لإسقاط النظام وتكثيف الجهود لذلك، والانخراط الحقيقي في المعركة بكل الأشكال الممكنة، بعيدا عن الفرجة السلبيّة، أصبحوا يرددون مقولات النظام نفسها التي تنتشر في إعلامه وخطابه، وتكثفت جهودهم في مهاجمة الثورة تحت بنود السلفية والأسلمة والتطرّف، وشاعت عمليّة ندب الحظ لضياع الثورة.
بالطبع ليست ثورتنا مثالية ملائكيّة، وليس الثوار كاملين بلا أخطاء. ولسنا، بعد عقود الاستبداد، أحرارا بلا أخطاء. وهناك اختراق وارتزاق وبلطجة هنا وهناك. ولابد من التصويب ولابد من النقد، ويلزم دائما تعديل المسار، ومواجهة فوضى العنف المضاد والفساد. وكان من اللازم أن يقوم المعارضون من الحكماء المخضرمين والمخلصن، الذين تقع عليهم مسؤولية إرشاد الثورة بتوجيه الأمور بعقلانية وذكاء وحنكة ووطنيّة خالصة؛ لكنّ الحاصل عكس ذلك من خلال حملة الأحكام التعسفية وأسلوب التنظير النخبوي. وعملية الإقصاء وعنف الاتهامات المتواصلة للثورة والثوار، في تصاعد مستمر أوصلنا إلى جلد أحلامنا وطموحاتنا وثورتنا بسياط المخاوف من المتطرفين والإسلاميين والسلفيين ومن صورة المستقبل الظلامي.
إنها الحرب الدائرة على دم الشعب السوري من قبل نظام مجرم. ولابد من رجال يقاومون ويقاتلون ويدافعون عن الأرض والشعب؛ فمن الذي تطوّع لخوض هذه الحرب بدمه؟ هناك أشخاص سوريون من عموم الشعب السوري، مؤمنون بالإسلام وبالجهاد ومتدينون، قاموا يحملون السلاح ويتحملون جزءا من المسؤولية الكبيرة، يضحّون بأرواحهم في محاربة نظام بشار. وبغض النظر عن طبيعة موقفهم(ديني أو وطني)؛ فهؤلاء يقدمون دماءهم، بكل ثقة وإيمان، من أجل إسقاط النظام الظالم المجرم وتحقيق الحرية. ومع حجم تضحياتهم الكثيرة وخسائرهم الفادحة؛ فإن المفروض، بدل استمرار التقريع والتشخيص التنظيري الفوقي والإقصائي، أن تتوحّد الجهود معهم في عمل واحد، مهما كان الاختلاف والخلاف، لأنّ إطار الخلاف الديمقراطي وقبول الآخر واستمرار النقد البناء الموضوعي المرتبط برؤى بديلة، يزلل الصعاب، ويوصل بين الإرادات؛ لكي يكون العمل على هدف واحد، يفرضه الواقع نفسه، وهو تحرير الشعب السوري من نظام الإرهاب والاستبداد والإجرام. وهؤلاء الذين لا يعجبوننا؛ لأنهم متدينون ولهم أيديولوجية إسلامية متطرفة هم جزء من مكونات الشعب السوري، يحتاجون إلى من يرفع معنوياتهم ويرشدهم، لا لمن يكرههم ويبخسهم حقهم وينبذهم. ألم يقدموا أرواحهم خالصة لمحاربة هذا النظام الاستبدادي؟ وتقبلهم أمر أساسي، لكي نفسح لهم في المجال بحسن الأفعال، لكي يتقبلوا غيرهم، أيضا؛ لأنهم، في البداية والنهاية، جزء من المجتمع، والواقع؛ فهم لم يسقطوا سهوا من السماء. وهم بشر من سوريا؛ مثل العلمانيين والملحدين والشيوعيين والقوميين والاجتماعيين ومثل كل الجماعات الأخرى التي تنادي بحقوقها... وإذا كانوا هم قد استولوا على الثورة، كما يرى كثيرون؛ فلأن غيرهم انسحب خوفا أو جهلا أو جبنا، ثم هل يعني هذا أن نتخلى عن دعم الثورة خوفا منهم ونشكك ونخون ونحكم بالفشل؟ وهل البديل دعم نظام بشار الإجرامي بصمتنا أو تواطئنا وهزيمتنا وفرقتنا وتقاعسنا؟
إنّ هذا التفكير الإقصائي، هو نفس تكفيري أيضا، يشبه النفس التكفيري الديني للإسلاميين وغير الإسلاميين. وقد تأخرنا في أن نتحرر من رواسب العقل الاستبدادي، وفي أخطرها فكرة التكفير والإقصاء التي يستخدمها المتطرفون في كل المواقع لمحاربة خصومهم. ثم ما هي بالتّحديد والتوثيق الواقعي الجريمة التي ارتكبوها بحق الشعب والأرض حتى تسقط عليهم قذائف حربنا. إن السلفيين السوريين، كما تجري تسميتهم، انبثقوا من رحم الواقع السوري الصعب الموجع، وبرزوا في ظروف القهر والإبادة. فماذا نتوفع منهم؟ في الواقع هم أشخاص يدافعون عن انفسهم ويريدون الاقتصاص من نظام إرهابي مجرم دمر حياتهم ومحاربته. الجهاد بنظرهم، هو الحل برأيهم، بل تزداد أهمية الجهاد قيمة دينية وعصبيّة، في ظل الفجائع التي يواجهونها يوميا من نظام يقتلهم ويدمرهم ويستبيح حرماتهم ويحرق مقدساتهم؛ فيضطرون أن يضعوا دمهم مقابل نجاح الثورة. بينما في خارج المعركة، يجلس كل واحد في شتاته الداخلي أو الخارحي، ينظر باسترخاء، ويتكلم وينظّر ويتهم الثورة بالسلفية والتطرّف، والذين يقاتلون ويموتون ويقدمون أمثلة في البطولة، هم من المتهمين بالسلفية والإسلامية والجهادية والتطرّف. فماذا قدّم كل الذين يقفون ضد مايسمونهم بالسلفيين والإسلاميين السوريين والمجاهدين؟ هل قدموا في الواقع أمثلة صارخة عن تضحياتهم وشهدائهم وتعمدوا، لحظيا، في خضم من دماء معركة الثورة السورية؟.
قال أحد الرجال من الداخل السوري المنخرط في الواقع الثوري، وهو، للعلم، ليس من التيارات الإسلامية:"لقد اتبعنا كل السبل ولم نجد حلاً لهذا النظام ... ومن كان لديه بديل غير التيارات الاسلامية فليأت لنا به"" فإذا كان هؤلاء يخوضون المعركة المشروعة باسم الدين والجهاد ثم الوطن، فليخض الآخرون المعركة باسم العلمانية والديمقراطية والوطن وليكن لهم نفوذ وقصة دم على الأرض، وليحسموا في المعركة لمصلحتهم وسلطتهم. إنّ التقاعس في خوض المعركة بما يخدم المشروع الرئيسي وهو تعزيز الثورة وتقويتها وتسليحها لمحاربة النظام الإرهابي وإسقاطه هو الخطر؛ فأين الإجراءات الثورية الواضحة لأطياف المعارضة على الأرض؟ وأين الإجراءات السياسية التي تدعم الثورة فعليا؟
عندما يلجأ السوريون في الثورة إلى الله بالدعاء والرجاء والشكر، ويضعون دمهم مقابل نجاح الثورة؛ فلأنهم فقدوا كل شيء إلا إيمانهم بالله وبثورتهم، وعندما تزغرد النسوة على شهادة أبنائهن؛ فلأن لا عزاء لها إلا إيمانها بالله ، وكل هذا منحى ديني جهادي وقد يتطرّف بفعل التهشيم والتهميش؛ فماذا نفعل لهؤلاء وهم من عموم الشعب؟ أنفصل الشعب، قصرا، عن ثقافته الإيمانية والجهاديّة بعد كل ماحصل؟ أليس الأجدى أن نقترب منه ونفهمه ونعينه ونأخذ بيده نحو النجاة؟ الفكر الظلامي يكون في أي موقع متطرف مستبد. والتطرف ليس حكرا على التطرف الديني؛ فأيّ فكر يصبح ظلاميا، عندما يستبد ويتجمد ويفقد حيويته ولا يتطوّر ولا يماشي الحرية. ولم يعد الذين أدمنوا على ترديد الشعارات السياسية، بمؤثرين ولا بأصحاب قرار على الأرض؛ لأنهم لا يقدمون الحلول، ولا يفعلون ما يغير في الواقع نحو الأفضل، وقد فقدوا ثقة الشعب والشباب بهم. هم الآن كمن يعبدون الأصنام، ويرددون الشعارات الباهتة. إنّ أي معتقد هو دين. والمهم كيف يحقق المعتقد قوة في الواقع ويتحمل مسؤولياته الوطنية والمصيرية ويجاري المستجدات. الاستشهاديون اليابانيون ضحّوا بحياتهم وفق معتقداتهم. كذلك الشيوعيون في فيتنام؛ فلنؤمن بالعلمانية كما نشاء. ولنؤمن بالإسلام كما نشاء. لكنْ، ليكن إيماننا بناء وخلاقا في واقعنا وأدائنا لنيل حقوقنا؟
الإسلاميون لم يطرحوا إلا حلا عسكريا لمقارعة النظام وماطرحوا رؤية سياسية نظرية جمعيّة متعلقة ببناء الدولة حتى نعاجلهم بالإدانة ... فلماذا استمرار الحكم عليهم وفق ما قد يفعلونه في المستقبل، أو بناء على بعض تصرفات فرديّة، يمكن أن تكون في أي مكان وعند اي جهة، خصوصا في حرب أهليّة غير متكافئة؟ الذي فقد بيته وأسرته ومستقبله وأرضه وشرفه وعرضه ماذا سيكون عزاؤه؟ ومن سيكون العزاء...؟ الله، بنظرهم، هو الأمل والعزاء، وليس خطابات ماركس أو كلمات العلمانية ونظريات المدنية. هؤلاء "السلفيون والإسلاميون والمتدينون"، هم حتى الآن، لا يشكلون الأعداد الهائلة من الثورة والأجدى بدل التضخيم وإثارة المخاوف، العمل على احتوا غضبهم والتعاون معهم من اجل تحقيق أهداف الثورة، ومن ثم استقطاب الشعب بمواقف مشرفة مغيثة. وفي حال أنهم أخذوا يشكلون مساحة شعبية كبيرة، فهذا نتيجة تقصير الآخرين في وجدان الشعب. ويجب احترام اقتراع الشعب. أما أن نظل نراوح مكان خطابنا الجامد، فنتابع اتهامهم ونبذهم وإقصاءهم. فإنّنا سنتحوّل بعزل الأخر إلى عزل أنفسسنا عن الآخرين وعن المجتمع، ونصبح المنبوذين.
عندما يقال أن الثورة انتهت لأن الإسلاميين سيطروا عليها؛ فمعنى هذا أننا نعيد استخدام الفكر الظلامي التكفيري ذاته الذي ننقده كثيرا؛ فكأن الثورة إذا لم تكن للعلمانيين أو للقوميين أو لجماعة معينة؛ فهي تحت مجهر الاتهام. المجتمع العربي معظمه لاتنطبق عليه المقاييس المثالية التي ينادي بها المنظرون حتى نحكم على مثالية العدالة والحرية وعلى كمال الثورة، ومازال الطريق لتحقيق الدولة المطلوبة طويلا، ونحن في أوله. فلنتمتع بالنظرة المنطقيّة، ونكف عن مطالبة المجتمع المتضرر والمناضل وهو تحت ألة القتل والعنف والاستبداد وفيه الضحايا الكثيرة والفجائع الشديدة بالمثالية والعدالة المطلقة ونروج معاداة المتمسكين بالعقيدة الدينية الجهادية. الحياة تقول غير هذا. والشارع ينادي بغير هذا. فهل نكف عن استجلاب النظريات وإسقاطها من السماء على الناس.
الحل هو التعامل مع الواقع كما هو، وعدم تجاهل أي جزء من المجتمع. فكما ننادي بحماية الأقليات، يجب أن نمارس حماية أطياف الشعب السياسية والعقائدية المختلفة. وأن نجتمع على أرضية الحوار الواحدة، ولا نقصي أحدا أو تفترض أن من نسميهم بالسلفيين مجرمون، من دون أن يكون سجل إجرامهم واضحا بّيّنا في الواقع. بالتهم والإقصاء نقطع الطريق لأي حوار. وتتكسر الأرضية مشتركة للعيش والتعايش.
الناس في الداخل الثوري لا يجلسون ليناقشوا نظريات سياسية، هم يمارسون الثورة بامتياز. ومن حقهم أن تكف المعارضة في الخارج وفي الداخل عن إمطارهم بالتنظير السياسي والأحكام واضطهادهم بالتقريع المستمر. وعلى المعارضة أن ترتقي بصيرتها فتكف عن تعليب الواقع بغشاوة أوهام وعناوين لطموحات ذاتية. آن الأوان لأن تمارس الفكر الثوري، وتلتحم بإيجابية في تجربة الثوار في داخل سوريا، وتقدم البدائل والعون؛ بغض النظر عن مواقفها السياسية المسبقة. ومن الحق نقد أداء الثورة عندما لا يماشي أهداف الثورة. لكن تضخيم الأخطاء والمبالغة في رسم صورة البعبع الإسلامي لا يصبان في مجرى حدمة الثورة والثوار. الثوار لم يخرقوا الهدف الأساسي من الثورة وهو إسقاط النظام الأسدي السياسي الاستبدادي.
الثوار يحتاجون لمعارضين يتكلمون باسم الثور فعلا وإيمانا ونقدا بناء وحماية، وسط كل هذا التخاذل العالمي. والإسلاميون موجودون في الثورة وفي الشعب السوري، والحل لا يكون بإقصائهم ونفيهم. ولاهم بإقصاء الآخرين ونفيهم. كلنا حرجنا من واقغنا المتردي لنغيره؛ والوهن الفكري الديني في أمتنا هو حصيلة الاستبداد وقرون الجهل. ويجب توجيه العمل ليس على إقصاء التدين، بل على إقصاء التعصب والقصور الفكري بتثوير الفكر الديني وتنوبره. فهل هناك وصفات علمانية وليبرالية وقومية جاهزة لمداواة الذين قتل النظام الأسدي وعصاباته عائلته وأهله وحرق أرضه وكيانه؟