أين الرد الفرنسي على وثيقة الأسد الجد؟
وهل هناك (وعد بلفور فرنسي)؟
طريف يوسف آغا
كلنا سمعنا وشاهدنا قبل أسابيع المشادة الكلامية التي جرت بين مندوبي النظام السوري (قاتل شعبه) والمندوب الفرنسي في الأمم المتحدة. وهي التي انتهت بكشف الأخير للوثيقة المحفوظة لدى أرشيف وزارة خارجيته منذ عام 1936 والمتضمنة طلباً مقدماً للدولة الفرنسية وموقعاً من الأسد الجد وبعض الشخصيات العلوية الأخرى بمنح طائفتهم دولة مستقلة على الساحل، وفي حال تعذر ذلك، عدم الموافقة على منح الاستقلال لسورية. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا كان الرد الفرنسي على هذا الطلب وأين هي الوثيقة التي تحتوي عليه؟ ومالفت نظري واستغربته حقاً أن أحداً لم يطرح هذا السؤال بعد، فكل طلب لابد وأن عليه رد، فأين الرد وماذا كانت ماهيته؟ ولكن وبما أننا لانعرف الجواب، فقد رأيت أن أخصص المقالة لمحاولة استنتاجه من المجريات التي تلته.
حتى نفعل ذلك لابد وأن نعود قليلاً إلى الوراء ونربط بين بعض الأحداث التي سبقت تلك الوثيقة وكذلك التي تبعتها. فالحدث الأهم في تاريخ الشرق الأوسط الحديث لاشك أنه كان (وعد بلفور) البريطاني عام 1917 للحركة الصهيونية بانشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وكما ذكرت في تقديمي لقصيدتي (القدس جرح التاريخ) التي ألقيتها في هيوستن عام 2009 أن وعد بلفور المذكور لم يمنح لليهود حباً بهم، بل للتخلص من أعبائهم الاقتصادية والاجتماعية على المجتمعات الأوربية عامة والبريطاني خاصة من جهة وجعلهم خنجراً في خاصرة العرب من جهة ثانية. وهو الوعد الذي أتى تتويجاً لجهود الحركة الصهيونية وجهود مؤسسها تيودور هرتزل التي بدأت في العقد الأخير من القرن التاسع عشر. ودعونا لاننسى هنا أن فلسطين حين صدر (وعد بلفور) كانت ماتزال تحت الحكم العثماني وتشكل الجزء الجنوبي الغربي من سورية الكبرى أو بلاد الشام. وبالتالي وحتى يتم تحقيق هذا الوعد كان لابد من إخراج العثمانيين منها أولاً (وهذا ماجرى بمساعدة بريطانيا بواسطة الثورة العربية الكبرى). ثم كان لابد من تقسيمها ثانياً (وهذا ماتم عبر اتفاقية سايكس-بيكو البريطانية-الفرنسية التي وضعت في نفس الفترة ولكن تم تنفيذها عام 1920)
إذاً أتت (سايكس-بيكو) كأداة لتسهيل وتنفيذ (وعد بلفور)، فبعد أن تم تقسيم سورية الكبرى إلى أربعة أقسام، تم وضع فلسطين والأردن بعهدة بريطانيا وسورية ولبنان بعهدة فرنسا. وبطبيعة الحال وكما كانت فرنسا شريكة لبريطانيا في هذه الاتفاقية، فلاشك أنها كانت أيضاً شريكتها في تحقيق (وعد بلفور)، وفي فترة الانتداب هذه بالذات أطلت علينا (وثيقة الأسد الأب وشركاه). ولابد هنا من الاشارة إلى أن لاأحد يختلف على تعرض الطائفة العلوية في سورية خلال فترة الحكم العثماني الطويلة للظلم الاجتماعي المتمثل بالاهمال والتهميش من جهة وأيضاً بالتكفير والاضطهاد بسبب معتقاداتهم الدينية من جهة ثانية. ولكن هناك أيضاً مايؤخذ على الطائفة وباعتراف بعض المثقفين من أبنائها، بأنها بطبيعتها متقوقعة على نفسها وغير منفتحة على بقية مكونات المجتمع السوري لأسباب عقائدية. وحين يذكر التاريخ أن بعض شرائح الطائفة تحالفت مع غزاة سورية من مغول وأوربيين، تبرر الطائفة ذلك بأنه كان رداً على تكفيرها واضطهادها من قبل الأكثرية السنية، في حين ترد عليها الأكثرية بأن السبب هو العكس. من جهتي فلست هنا في هذا المقال بالذات في موقع تحديد من بدأ العدواة ضد الآخر ولماذا، بل أحاول البحث عن الرد الفرنسي على (وثيقة الأسد الجد وشركاه) المؤرخة عام 1936.
لايمكن لأحد أن يغفل في هذه الوثيقة أن الموقعين قد لعبوا على (الوتر اليهودي) وحاولوا استجرار العطف الفرنسي بنفس الطريقة التي استجرت الحركة الصهيونية فيها عطف بريطانيا وحصلت منها على (وعد بلفور). فذكروا في (الفقرة الرابعة) منها أنهم متعاطفين مع (اليهود الطيبين) ويشابهوهم بظروف معاداة العرب السنة لهم، وبالتالي يستحقون مثلهم إما حماية أجنبية أو دولة مستقلة. وهنا نصل إلى زبدة المقال، إذ لايبدو أن ما آلت إليه الأوضاع في سورية بعد ذلك كانت محض صدفة، ولابد أن تكون لها علاقة مباشرة بتلك الوثيقة، ولهذا أعتقد بأن هناك (وعد بلفور فرنسي) منح للموقعين عليها يمكن تصوره كالتالي:
من ليون بلوم، رئيس الحكومة الفرنسية إلى السادة الهواش، جديد، جنيد، أسد، والأحمد الموقعين على الوثيقة المسجلة في الخارجية الفرنسية برقم 3547 وتاريخ 6/15/1936 والموجهة لدولتنا، نحيطكم علماً بما يلي:
الفقرة الأولى: إن حكومة الجمهورية الفرنسية وحلفائها تنظر بعين العطف لأمانيكم.
الفقرة الثانية: إن حكومة الجمهورية الفرنسية وحلفائها ترى أنكم إذا (صبرتم) قليلاً، ستمكنكم من حكم سورية (بأكملها) وليس (الساحل) فقط. وهذا سيمنحكم مساحة أكبر لدولتكم وأيضاً إمكانية أكبر لحماية حلفائكم (اليهود الطيبين) الذين سيعلنون قيام دولتهم (إسرائيل) قريباً.
الفقرة الثالثة: إن حكومة الجمهورية الفرنسية ستبدأ بتنفيذ هذا الوعد بتطويع أبنائكم في الجيش بأعداد كبيرة وكذلك بالتأثير على قيادات الجيش السوري بعد الاستقلال لمتابعة هذه السياسة بحيث تصبحون أغلبية فيه وتسيطرون عليه وعلى كامل البلد بعد فترة وجيزة.
الفقرة الرابعة: سنؤمن الغطاء السياسي لهذه الخطة بانشاء حزب (عربي) بشعارات قومية واشتراكية وعلمانية هنا في فرنسا على يد سوريين وتصديره إلى بلادكم على أنه حزب سوري. وسيلعب هذا الحزب دور (حصان طروادة) الذي سيوصلكم إلى الحكم أولاً، ثم دور (الدكان السياسية) التي ستختبأ خلفها دولتكم في المستقبل لتبيع وتشتري على هواها.
الفقرة الخامسة: لايجب أن تنسوا أن الغاية من هذا الوعد لكم بحكم سورية هو أن تكونوا حلفاء دولة إسرائيل المستقبلية وأن تسهلوا لها مهامها وتقوموا على حماية حدودها من الأخطار المتربصة بها. ونحن وحلفائنا سنؤمن لكم الدعاية السياسية اللازمة لتظهر دولتكم بمظهر المدافع عن حقوق الأمة وحامي حمى الوطن. ولكن وفيما إذا حصل وجرت ثورة ضدكم من قبل الشعب، فمن غير المسموح لكم بالانسحاب قبل حرق البلد وإفناء أهله.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
المخلص لقضيتكم رئيس حكومة الدولة الفرنسية
في الخاتمة أعود لأقول أن (وعد بلفور الفرنسي) هذا الذي ذكرته إنما هو تصوري الشخصي لما كان رد الحكومة الفرنسية على الوثيقة إياها في حينه. وهو تصور وضعته بسبب إخفاء فرنسا للرد الرسمي حتى الآن، واستندت فيه إلى ماحدث على أرض الواقع فيما بعد ولم يحدث غيره. أما إذا كانت لدى أرشيف وزارة الخاجية الفرنسية وثيقة تحتوي على غير ذلك، فنحن بانتظارها.