سورية هل من حل سياسي ؟!
سؤال على من يجب أن يطرح
زهير سالم*
يتساءل الكثيرون عن إمكانية الحل السياسي في سورية ؟ وهل يمكن أن يقبل الشعب السوري وقواه الثورية والمعارضة بهذا الحل ؟ ويكثرون من إلقاء الدروس والمواعظ على هذا الشعب ، بعضهم يتحدث من مواقع سلطوية أممية أو دولية وإقليمية ، وبعضهم يتحدث من مواقع نخبوية تعطي لنفسها الحق في الشرح والتوجيه .
تؤكد تجارب الربيع العربي أن الحل السياسي كان تلقائيا وممكنا في كل من تونس ومصر . فانسحاب كل من زين العابدين بن علي وحسني مبارك ، كل على طريقته من المشهد السياسي ، كان حلا سياسيا بامتياز . ذلك إذا اعتبرنا الحل السياسي مقابلا للحل الدموي . كان ذلك حلا سياسيا شارك فيه المذكوران مع قيادات الجيشين في تونس ومصر . وعبر القطران تحت جناح ( ضباط ) ينتمون إلى مجتمعاتهم وينتمون إلى العصر الذي يعيشون فيه إلى فضاء الربيع الجديد .
في اليمن سارت الأمور بطريقة مختلفة حيث مرت مفاصل الحل السياسي عبر وسيط ثالث ، واعتمدت على معطيات مختلفة تماما عما يجري في سورية ويمكن أن نلخص هذه الخلافات في ثلاث حقائق جلية . والتفصيل فيها ضروري لأنها تلقي الضوء على العديد من المفارقات في الحالة السورية .
تجلت الحقيقة الأولى في موقف الرئيس اليمني وحلفاؤه من ثورة الشعب اليمني ، ومن الوسطاء ( العرب ) فهو مع كثرة المراوغة التي رأينا آثر الاعتراف بالثورة والثوار والوسطاء ، والتعامل الإيجابي معهم ، ولم يذهب إلى تفسير ما يجري في بلده بالمؤامرة الكونية ، كما لم يذهب إلى اتهام كل من يقول له ( لو أنك فعلت ..) بأنه شريك في المؤامرة أو ضالع فيها ..
والحقيقة الثانية في سلوك الرئيس اليمني ومؤيديه ..
فلا الرئيس اليمني ولا مؤيدوه من قيادات عسكرية وقواعد شعبية – وهي أكثر بكثير مما يتمتع به بشار ألأسد – ذهبوا في تعاملهم مع مخالفيهم أو الخارجين عليهم أو الرافضين لحكمهم أو الثائرين على نظامهم مذهب بشار الأسد وقياداته العسكرية وحثالاته المجتمعية . ففي اليمن لم يقع من القتل وسفك الدماء شيء مما وقع في سورية ، لا في حجمه ولا في عنفه وقسوته ولا في شموله شرائح مدنية لم تمتد إليها يد في اليمن إلا على سبيل الخطأ . فلم يذبح بالسكاكين إنسان واحد لا طفل ولا امرأة ولا مقاتل . وفي الوقت الذي يتجاوز فيه عدد الشهداء في سورية الثلاثين ألفا والمفقودين والمعتقلين المائة الألف حتى الآن ؛ فإن عدد الشهداء في اليمن لم يتجاوز بضع مئات . والأهم من كل ذلك أن الرئيس اليمني وفريقه المناصر له لم يكن من سلوكهم أن يقوموا باغتصاب بنات وطنهم تحت أي ذريعة أو عنوان . نعتقد أن هذه الفروق في السلوك العام أصبحت جزءا من المعادلة السياسية في سورية لا يمكن لأي طرف أو باحث عن حل سياسي أن يتغافل عنها . أنت تريد أن تبحث عن تسوية في سورية مع رئيس يمكنه – عندما يغضب – أن يذبح الأطفال ويغتصب النساء وينفذ الإعدامات في الميدان . وعليك أن تذعن في أي حل سياسي أن هذا من حقه وحق حثالاته .
الحقيقة الثالثة ...
أن المجتمع اليمني بتركيبته القبلية مجتمع منظم ومسلح . لماذا لم يجترئ علي عبد الله صالح وفريقه على المجتمع اليمني كما اجترأ بشار الأسد وحثالاته على المجتمع السوري ؟ نميل إلى تفسير ذلك بالخلفية الأخلاقية التي يملكها الرئيس اليمني وتملكها قياداته وقواعده . فهم يشعرون بانتمائهم العملي إلى مواطنيهم الذين يختلفون معهم أو يثورون عليهم . على عكس الحال في سورية حيث برز بشار الأسد وحثالاته مجردين من أي وازع أخلاقي أو شعور إنساني أو بشري أو إحساس بالانتماء الوطني . ومع ذلك فلو أراد الرئيس اليمني ومناصروه أن يسلكوا في المجتمع اليمني سلوك بشار الأسد في المجتمع السوري لما استطاعوا ؛ فالمجتمع بحكم تركيبته القبلية وامتلاكه للسلاح الفردي التقليدي سيكون قادرا على الدفاع ابتداء عن نفسه . نستطيع أن نستعمل بعض المصطلحات الاستراتيجية في العلاقة بين السلطة والمجتمع في اليمن بالحديث عن نوع من توازن ( الردع – أو الرعب ) ؛ بينما نحن في سورية نتحدث عن مجتمع غارق في الحالة ( المدينية ) فلا هو يمتلك البنية القبلية المنظمة ، ولا هو يمتلك في كل بيت ترسانة سلاح يعدها الإنسان للحظة ( غضب الرئيس أو أحد أتباعه )
كانت تلك الحقائق من العوامل المهمة لنجاح الحل اليمني ، فهل يمكن أن يقدم البعض حلا للمجتمع السوري ليعيش أبناء هذا المجتمع – كما أثبتت التجربة – في حالة الجاهزية الدائمة ، يد على الزناد لحماية النفس والعرض والمال ؟!
إن الذي صعّب الحل السياسي في سورية هو أن القاعدة العسكرية التي تدعم بشار الأسد لم تقبل أن تكون جسرا لعبور هذا الحل عليها . وكان بإمكانها أن تفعل ذلك لو كانت تملك العقل وتملك القيم الأخلاقية ، وتملك سعة الأفق الضروري .
لقد أصبح المجتمع السوري اليوم أشد خوفا على مستقبل أجياله ، وأكثر قلقا من هؤلاء الذين يطلب إليه أن يعقد شراكة معهم تحت عنوان ( الحل السياسي ).
وحين يتحدث البعض عن مخاوف صغيرة وغير مبررة تاريخيا لمكونات مجتمعية لم تواجه في تاريخنا الطويل ما يواجه المجتمع السوري اليوم وما واجهه في سنة 1980 ؛ فإن الخوف الكبير الذي يجب أن يحسب حسابه هو هذا . هو الخوف من أن يتكرر هذا الذي يجري علينا من قبل ( هؤلاء ..) . أن تتكرر المأساة كلما كتب فتية صغار على الجدران كلمات بحجم ما كتب أطفال درعا منذ يومنا الأول ففتح علينا هذا الطوفان من الكراهية والحقد ، أو كلما خرجت مظاهرة في مدينة سورية تطالب بالخبز أو بالحرية . هذا الخوف الكبير ليس متصنعا كما هي المخاوف الصغيرة التي هي في حقيقتها مجرد ذرائع للمزيد من التميز أو المزيد من الاستئثار ..
إن مما يعزز هذا الخوف اليوم هو انحياز المجتمع الدولي السافر ( طبقا عن طبق ) ضد المجتمع المدني السوري . إن الرسائل الخاطئة التي يرسلها المجتمع الدولي إلى أبناء سورية تزيدهم خوفا وقلقا وحذرا وريبة . فلم يكن أحد يظن أن تطلق يد قاتل مجرم في أديم مدنيين آمنين كما أطلقت يد بشار الأسد . ولم يكن بشر يتصور أن يسكت مجتمع دولي ( متحضر في القرن الحادي والعشرين ) عن ذبح أطفال بالسكاكين كما سكت عما يفعل بشار الأسد . ليس المقام مقام تفسير ولكنه مقام تذكير أن المجتمع السوري بات اليوم يخاف من الفاعلين والمبررين والداعمين والصامتين على السواء .
خيوط الأمل
يشكل الخوف الكبير الذي يغطي الحاضر والمستقبل الهوّة السحيقة التي لن يستطيع أي حل سياسي أن يردمها أو أن يجسّرها . لقد أعلن بشار الأسد أنه ذاهب إلى صراع الإرادات ، وأعلن عن نفسه من وقت مبكر أنه رئيس لبعض السوريين ، وسمى معارضيه ( بالأعداء ) . لقد كانت هذه التصريحات تعبيرا عن مكنونات نفسية تشكل استراتيجيات الصراع اليوم وتمنحه أفقه وتحدد أساليبه وأدواته أيضا.
سيكون هذا الصراع مكلفا وقاسيا ، وستكون أثمانه باهظة ولكنه صراع مفروض على الشعب السوري لا يد له فيه ، ولم يترك بشار الأسد له خيارا فيه . ولا نظن عاقلا ينصح الشعب السوري النزول على حكم الطاغية القاتل الأثيم ز
نتفهم ما يشير إليه البعض من احتمالات مفتوحة على التشاؤم ؛ ولكن يجب أن يفهموا هم أيضا أن هذا الصراع إن لم يحسم في هذه الجولة فإنه سيمتد ويتطور ليكون صراعا وجوديا مفتوحا . سيستمر حتى تنتصر إرادة الشعب السوري فيه . إن لم يكن اليوم فغدا ، مما يعني أن يكون للدم في سورية جولات وجولات .وإذا كان للذين يقدمون نصائحهم تخوفات ، أن يؤكدوا للآخرين أن لا عاقل يراهن في حماية وجوده على معطيات إقليمية أو دولية . وأن الحل السياسي المضمون بإرادة المجتمع الموحد هو الأوثق والأبقى .
الأفق السياسي في سورية ليس مسدودا إلا في وجه القتلة والمجرمين ؟ ويجب التفكير دائما خارج إطار الصراع في أبعاده الحالية والمستقبلية ، لتلبية التطلعات الإنسانية والوطنية المشروعة لجميع المواطنين .
ونعتقد أن خيوط الأمل ما تزال قوية ومبشرة . وإنه من النعمة الكبيرة أن الشعب السوري ما زال يحاصر جرائم الأسد وعصاباته في أطرها الفردية ويفسرها بخلفياتها الساسية. وأنه رغم كل ما يقال عن الحرب الأهلية فإن ما يجري في سورية لا يسير في سياق الحرب الأهلية ، إلا بما تمارسه العصابة المجرمة من طرف واحد . ونعتقد أن أي حل سياسي يجب أن يبنى على هذا المعطى وأن يسابق الذين يعملون على تحطيمه لصونه والبناء عليه...
الطريق إلى الحل السياسي:
إن الطريق إلى الحل السياسي ينبغي أن يمر عبر الأسس التي تبنى عليها الدول في العالم أجمع . سورية دولة مؤسسة للجمعية العامة للأمم المتحدة . وللجامعة العربية ، ويجب أن تبنى على نفس الأسس التي تبنى عليها كل دول الأرض . لا يجوز أن يكافئ الإرهابيون والخاطفون الذين اختطفوا الدولة السورية في حين غفلة من أهلها ، كما يرفض المجتمع الدولي مكافأة كل القراصنة وخاطفي الطائرات والرهائن من الإرهابيين . ومن هنا فإن الحل السياسي في سورية هو في استعادة الدولة من أيدي خاطفيها ، أو في إعادة بنائها على أسس قويمة وهذا الحل يمر في رأينا عبر الخطوات التالية .
أولا - التأكيد على وحدة المجتمع المدني في سورية . وبناء المتحد الوطني السياسي المتماسك . هو ركيزة أي حل سياسي أن تسعى أي جهة إليه . إن التفكير بأي حل فئوي على أي خلفية من الخلفيات . أو تقديم مصلحة أي فئة من الفئات لأي سبب لن يكون حلا مقبولا . إن الحلول الدائمة هي الحلول العادلة .
ثانيا – بناء الدولة المدنية التي تبسط سلطان العدل والمساواة لا يمكن أن يرتكز على غير المجتمع المدني . ولا يمكن أن تبنى الدولة المدنية تحت سطوة أي سلطة عسكرية .
وسيكون الأمر أكثر رفضا حين تكون هذه السلطة العسكرية من الشريحة التي تقبل أن تذهب مع الطاغية إلى حمام الدم ، وأن تمارس معه كل هذه الفظاعات والشناعات . لا يمكن للطاغية أن يجد مقعدا في المعادلة السورية ، كما لايمكن لهؤلاء أن يكونوا جزء من أي معادلة وطنية . ولا يمكن لأي فريق وطني أن يخون دماء الشهداء وعذابات المعذبين .
ثالثا – إن الدولة المدنية هي الدولة الديمقراطية في بنيانها ومؤسساتها وآفاقها . وإن أي حل سياسي لا يمكن أن يتنازل عن هذا الأفق تحت أي عنوان . والخيار الديمقراطي لن يعبر عن نفسه إلا تحت مظلة حقيقية للحرية . ولا يوجد هناك أي سبب يجعل السوريين يقبلون باشتراطات مسبقة تصادر حقوقهم في خياراتهم الديمقراطية . إن المجتمع السوري يمتلك من الخلفية الحضارية ما يجعله ينفر طبعا من أي ممارسة متعسفة تدخل الضرر على أي مكون من مكوناته الدينية أو المذهبية .
رابعا – في أي حل سياسي منشود سيبقى العدل حق ومطلب . العدل في رد المظالم الفردية والعامة هو حق لكل سوري وقع عليه أي شكل من أشكال الظلم في نفسه أو في أهله أو في ماله . ويجب أن تتوفر كل المتطلبات لتحقيق هذا العدل في حياة المظلومين والمضطهدين . وستبقى قاعدة ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) قاعدة شرعية معتبرة وملتزمة . وسيبقى العفو والإحسان أفقا وطنيا وشرعيا لتجاوز المحنة وبناء المستقبل ..
خامسا – في الحل السياسي المنشود سيكون المجتمع المدني السوري الموحد في متحد وطني سياسي في جبهة وبشار الأسد وعصاباته من القتلة والمجرمين والمذنبين في جبهة مقابلة . ولن يبقى في سورية إلا أحد الفريقين . مجتمعها المدني الموحد أو ثلة من القتلة والمجرمين ..
والسؤال عن المخرج السياسي يجب أن يطرح على هذه العصابة ، آما حان حين الاستسلام والنزول على إرادة المواطنين ؟ وإلى أي مدى هم مستعدون للذهاب في هذا الصراع ؟أ
كما ينبغي أن يطرح السؤال أيضا على المجتمع الدولي إن كان ما زال راغبا في دعم هؤلاء المجرمين أو السكوت على جرائمهم ؟
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية