عشائر عراقية بين القيم الأصيلة والمظاهر الشاذة
عشائر عراقية
بين القيم الأصيلة والمظاهر الشاذة
كاظم فنجان الحمامي
لم تكن العشائر العراقية في جنوب العراق بهذا الطغيان والتجبر, ولم تكن تجرؤ على انتهاك القوانين النافدة ولا الأعراف السائدة, بل على العكس تماماً, فقد كانت متميزة بنبلها وأصالتها وطيبتها وتسامحها, شامخة بجودها وكرمها, متفانية في نصرة الضعيف, مندفعة لإنصاف المظلوم, محبة للخير, ساعية للمعروف, تميل مع الحق حيثما يميل, لا تعرف المساومة ولا المداهنة, لا تنحاز للباطل, متفاخرة بنخوتها التي استمدتها من مواقفها المشرفة في أحلك الظروف, حتى صارت (النخوة) عنوانا ورمزا اجتماعياً وقبلياً يميزها عن القبائل الأخرى, فعرف الناس قبيلة المنتفك بإخوة (نورة), وقبيلة خفاجة بإخوة (علية), وقبيلة البو محمد بإخوة (باشة), والبو عساف والبو نمر (إخوة هدلة), والبو خليفة (إخوة عبدة), وتشترك قبائل الدليم وآل فتلة بنخوة واحدة (إخوة موزة), فلكل قبيلة رمزها ونخوتها التي تعرف بها, ولم تأت هذه المسميات من فراغ, وإنما سجلتها المواقف الخالدة في سجلات الرفعة والشموخ, فعلى سبيل المثال لا الحصر, نذكر إن نخوة عشيرة البو زيد في الجنوب (إخوة مايعة). .
لم تكن (مايعة) مرتبط بهم برابطة القرابة والنسب, فهي امرأة غريبة مظلومة, فقدت الاتصال بقبيلتها وأبناء عمومتها, وكانت تتعرض للاضطهاد على يد زوجها الظالم, يعاملها بخشونة ويتعمد الإساءة إليها أمام نساء القرية, كان يقول لها: إنها بلا عشيرة وبلا أهل, فجلست تبكي ذات يوم على قارعة الطريق, وشاءت الأقدار أن يمر بها رجال من قبيلة البو زيد, فتأثروا بقصتها, ووقفوا في صفها متظاهرين أمام زوجها الجاهل بأنهم إخوتها, وإنهم جاءوا لزيارتها, ولم يغادروا القرية إلا بعد أن أعادوا لها حقوقها كاملة, ورفعوا عنها الظلم والحيف, فصارت (مايعة) عنوانا لشهامتهم ونخوتهم حتى يومنا هذا. .
مما يؤسف له إن بعض التفرعات العشائرية المتمردة على الأصول والقواعد, سلكت مسلكاً شاذا هذه الأيام في تعاملها الهمجي مع الناس, وانزلقت في مسارات متناقضة مع أبسط مبادئ العدل والإحسان, فتقاطعت مع الأعراف والقوانين, وطغت طغيانا عظيما في غياب العقوبات الرادعة, حتى صارت مصدرا من مصادر الإرهاب الاجتماعي. .
نسمع هذه الأيام بانتهاكات عشائرية لا يصدقها العقل ولا يقبلها المنطق, تتلخص بقيام بعض الفئات العشائرية المتهورة باختلاق المشاكل ضد أبناء الطبقات الاجتماعية المسالمة بقصد ابتزازهم ماديا, واستنزاف مدخراتهم كلها لأسباب تافهة وأحيانا سخيفة, والطامة الكبرى إن هذه الممارسات الغريبة تتكرر يوميا أمام أنظار أعضاء المجالس المحلية, وأعضاء البرلمان, وأعضاء الكتل السياسية الكبرى, وتتكرر أمام أنظار رجال الدين ورجال القضاء ومنظمات المجتمع المدني, من دون أن يتصدى أحدهم لهذه الظاهرة الخطيرة, التي صارت تهدد الطبقات المتعلمة والمثقفة, وتطارد الأطباء وأساتذة الجامعات وأصحاب الكفاءات, وتحرج مدراء المؤسسات الإنتاجية والخدمية, فتحول (الفصل) العشائري من صيغته الإنسانية المدافعة عن الحق, إلى وسيلة للابتزاز يراد منها مصادرة ممتلكات الخصم الأضعف في التصنيف العشائري الجائر, وصار التعويض المادي من أساليب فرض الإتاوات بالقوة, في تسوية الأمور الباطلة. .
جاء في يوم من الأيام رجل عاطل عن العمل, فتضامن معه صديقي, ووجد له عملا في مكان لائق, فوفر له ولعائلته العيش الرغيد, وشكره الرجل العاطل وانصرف لعمله, ثم عاد بعد عام ليطلب منه تحسين وضعه الإداري في موقع عمله, فتدخل صديقي لصالحه وقام بواجبه على الوجه الأكمل, لكنه عاد بعد أربعة أعوام ليهدد صديقي, ويطلب منه الرضوخ لقانون العشائر, ويطالبه بإرسال من يأخذ له الهدنة (العطوة), بدعوى ان ابنه الصغير تلبس به عفريت من الجن, وان هذا العفريت ينطق باسم الرجل المحسن (صديقي), الذي أصبح في نظرهم من الأشرار في ضوء الحكاية التي رواها لهم العفريت, وإنه وحده يتحمل أي تدهور قد يطرأ على صحة أبن الرجل المجنون, ويتعين على صديقي أن يدفع التعويضات, التي تقررها عشيرة الابن المصاب بضربات مباشرة من العفاريت, ولم ينته الموضوع إلا بعد تغريم صاحبي ماديا بذريعة تعاونه مع قبائل الجن. . .
وفي يوم من الأيام كنت متواجدا في جلسة عشائرية اضطر فيها حارس احد المخازن بدفع التعويضات (الإتاوات) لعشيرة السارق الذي امسكه الحارس متلبسا بجريمة السرقة, وانتهت الجلسة العشائرية بتغريم الحارس, وتعويض الحرامي أضعاف القيمة المادية للمواد التي كان في نيته سرقتها. .
وكانت الرؤيا, التي رآها العم (سين) في عالم الأحلام هي الفتيل الذي فجر براكين القتال بين عشيرته وعشيرة العم (صاد), فقد رأى (سين) في المنام إن عزرائيل كان يبحث عن رجل يبدأ اسمه بحرف الصاد ليقبض روحه, وان اسم أم ذلك الرجل (فاطمة), فأرشده في المنام إلى دار جيرانه (صاد), وفي صباح اليوم التالي قص رؤياه على جاره (صاد) الذي كان يبحث عنه عزرائيل, فقال له جاره (صاد): إنها أضغاث أحلام فأنا والحمد لله على قيد الحياة, وشاءت الأقدار أن يموت (صاد) عصر ذلك اليوم, فاجتمع أبناؤه, وهجموا على دار (سين) باعتباره هو الواشي (العلاس), الذي أرشد عزرائيل في المنام إلى دار والدهم (صاد). .
ويحكى إن مدير المدرسة الابتدائية في إحدى قرى الجنوب ذهب إلى ديوان القرية (المضيف) ليتداول مع وجهائها بشأن التلاميذ الذين تردى مستواهم التعليمي, فدخل من باب المضيف, وسلم على الناس قائلا: (السلام عليكم), فردوا عليه التحية, ونهضوا من أماكنهم احتراما له, فسقط أكبرهم سنا ميتا بالسكتة القلبية, وهنا قامت القيامة, وتجمع أبناء المتوفى بعدتهم وعتادهم استعدادا للهجوم على بيت مدير المدرسة, الذي اتهموه بقتل والدهم, بذريعة انه كان السبب في موته. .
ولابد لنا هنا من سرد حكاية الشاب المتعلم الذي ذهب مع أصدقائه إلى وليمة من ولائم العزاء, فجلس يتناول الطعام من السماط الممدود وسط السرادق, وكان جلوسه بإزاء رجل بانت عليه علامات الهيبة والوقار, فقام الشاب (النشمي) بتقطيع اللحم لذلك الرجل احتراما وتقديرا له, فغضب الرجل (الوقور), وأخذ يزبد ويرعد, محتجا على تصرفات الشاب, التي عدها إهانة له, بذريعة ان الشاب, بتصرفه هذا, كان يشبهه بالكلاب والقطط, فغادر الوليمة على الفور متوعدا بالانتقام من الشاب وعشيرته, ولم تنته هذه القضية إلا بعد اضطرار عشيرة الشاب إلى دفع أكثر من عشرين مليون دينار ثمنا للكرامة المزعومة. .
أما أقوى مواقف الاستهتار العشائري وأكثرها غرابة, فهي حكاية رئيس المهندسين, ورئيس لجنة فتح العروض والعطاءات في إحدى الشركات الحكومية, الذي تعرض بسبب نزاهته وعفته لأقسى العقوبات العشائرية, عندما أجبرته إحدى العشائر على إعفاء نفسه من اللجنة بطلب رسمي يكتبه هو بخط يده, وأجبرته أيضا على التنحي من منصبه لشخص آخر. .
من المؤكد ان تفاقم هذه الظاهر ونموها وسط المجتمع الجنوبي, سيضيف عنصرا تخريبيا لا يقل بشاعة عن الدمار الذي ألحقته بنا المنظمات الإرهابية التخريبية, ولا يقل سوءا عن آثار التعاملات الإدارية الفاسدة, وستسهم هذه الظاهرة إسهاما مباشرا في توسيع دائرة الفوضى, وتهديم أركان المجتمع, الذي صارت فيه الأسماك الكبيرة تبتلع يوميا مئات الأطنان من الأسماك الصغيرة, وانقلبت فيه موازين الحق والباطل, ومالت الكفة الرابحة لصالح القبائل المتهورة المستهترة, التي ماانفكت تتباهى برعونتها وعدوانيتها بتحويل مآتم العزاء المقامة على روح فقيدهم إلى احتفالية مسلحة, يطلقون فيها العيارات النارية المعززة بالهوسات, وما أدراك ما تتضمنه الهوسات من قصائد ارتجالية يرفعون فيها منزلة الميت فوق منزلة الأنبياء والرسل. .
والله يستر من الجايات
يقول الجاهل المتباهي بجهله
لئن كنتُ محتاجاً إلى الحلم إنني
إلى الجهلِ في بعض الأحايين أحوجُ
ولي فرسٌ للخير بالخير ملجمٌ
ولي فرسٌ للشر بالشرِ مسرجُ
فمن شاءَ تقويمي فإني مقَّومٌ
ومن رام تعويجي فإني معوَّجُ
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً
ولكنني أرضى به حين أحرجُ