ما وراء الإساءة
د.محمد سالم سعد الله *
يستخدم الفعل التواصلي أدواته في الكلمة أو الصورة ، التعبير أو الرمز لأغراض التعايش مع الآخر ، وبناء جسور من الودّ والألفة ، وتحقيق فرص من الحوار ، ومنح المجموع فرص الحديث المنبني على أسس طرح الرأي وسماع الرأي الآخر ، دون إقصاء أو تهميش أو إلغاء ، بل الاحترام المتبادل القائم على الوعي بخصوصية الآخر واعتزازه بها ، وقد منحت هذه السلوكيات أصحابها تأسيس فضاء من الود والتفاهم والتعايش ، دون احتقان جماعي بين الأفراد في البيئة الواحدة أو المتعددة .
ولم تكن تلك السلوكيات القائمة على تفهم الآخر واحترام خصوصيته الدينية أو الفكرية أو السلوكية أو غير ذلك ، لم تكن تشكل وهما مشتركا يعيش بظله المجموع ، إنما مثّل علاقات اجتماعية ، وظواهر شعبية ، ووجود عقدي سلميّ ، وفي هذا السياق تشكلت الحضارات ، وتطورت المعارف ، وتنوعت الثقافات ، وارتسمت خصوصية معينة لكل شعب أو لكل بيئة أو لكل أمة من الأمم.
وتؤكد أبجديات الحوادث التاريخية المتزامنة الشكل العملي للتحاور والتعايش ثم التشاور في القضايا التي تهم المجموع في بيئة مخصوصة ، وتقدم صورتين متناقضتين : الأولى صورة أسلوب التعايش السلمي ( الإيجابيّ ) بين المكونات المختلفة عقديا أو فكريا أو سلوكيا ، وتمثّل ذلك في الدولة الإسلامية التي حكمت في حقب تاريخية عدة منحت خلالها العدل ، وأقامت دولة المساواة والقانون ، يُحترم فيها الفرد ، له واجبات وعليه حقوق ، لغير المسلم على المسلم مزية الحفظ والرعاية والدفاع والعيش بسلام واطمئنان ، مقابل احترام غير المسلم لقوانين الدولة الإسلامية وشعائرها ، وقد ورد نص شرعي فيه تغليظ إذا ما اعتدى فيه المسلمُ على غير المسلم وآذاه دون وجه حقّ ، فقد قال رسول الله r ( مَنْ آذَى ذِميّاً فَقَد آذَانِي ) ، هذا هو الخُلُق الإسلاميّ الذي حكم قروناَ من الزمان ، ومنح الآخر حق التمتع بمكاسب الدولة الإسلامية ، دون تجريح لسلوكه أو استهزاء بمعتقده أو إساءة لشخصه ، وبهذه الطريقة مَلك الإسلامُ القلوبَ ، وأسر العقول ، واكتسب صفته الخالدة إلى أن يرث الله U الأرض ومَن عليها ، صفة : السلام والأمن والمحبة والوئام .
أما الصورة الثانية فهي صورةٌ سلبيةٌ للتعايش : صورة توتر العلاقات ، وتأرجح تعايش المجموع بين سكون مرة وانفجار وتأزم مرة ثانية ، وقد صبغت هذه الصورة بعض صفحات التاريخ ، وقدمت أحداثها بوصفها حروبا أهلية ، ونزاعات عرقية ، وإراقة دماء بسبب اختلافات عقدية أو طائفية ، وتضييع للحقوق ، واغتصاب للحُرُمات ، وتفكيك للأسر ، وفتن تطال كلّ المفردات اليومية المادية منها والمعنوية ، وتمّثل ذلك في الإمبراطوريات المتعددة التي حكمت العالم بدءا بالرومانية مرورا بالفارسية وانتهاء بالإمبراطورية الأمريكية المعاصرة .
قد يكون من المهم القول أنّ الاستهلال السابق يشكل حقائق تصورية ، وظواهر منطقية تقترب من فهم الأحداث الجارية الآن ـ على كثرتها ـ لأنّ التاريخ يختزل تجارب الأمم والشعوب ، وقد يعيد نفسَه ، ويقدم إمكانيات هائلة من الدروس والعبر لمن أراد أن يتعظ بغيره .
سنجتهد في قراءة ما وراء دلالات الإساءة الموجهة إلى النبي الكريم e سواء أكانت عن طريق الفيلم المسيء الذي أُنتج في أمريكا من بعض أقباط مصر المهاجرين ، أم كانت عن طريق بعض الرسوم المسيئة، ونبيّن سبب تأججها، والوقت المختار لذلك ، وحسبنا في هذا حصيلة من الأحداث وتفاعلاتها ، والغضب الشعبي الواسع في بلدان إسلامية عدة ، فضلا عن بعض المواقف السياسية منها والدينية .
بدأت قصة الإساءة للنبي الأمين e منذ جهره بالدعوة الإسلامية ، وتفنن المشركون وأذنابهم فضلا عن المنافقين بابتكار صفات تكتسب صفة الإساءة والسلبية لشخصه الكريم r ، ولم تمثل تلك الإساءة سوى دليل افتقار المشركين إلى نقض دعوته ، أو صرف الناس عنها ، كما بيّنت عجزهم وضعفهم أمام سلوكياته الشريفة والرحيمة والمتسامحة ... ، وقد تنوعت هذه الإساءة عبر عصور خلت على صُعُد مختلفة إقليمية منها أو عالمية ، نذكر على سبيل التمثيل ـ لا الحصر ـ : الزنادقة في عصر الخلافة الإسلامية ( الأموية والعباسية ) ، والكاتب الأوربي المشهور ( دانتي ) في ملحمته ( الكوميديا الإلهية ) ، الذي وضع النبي الكريم r ضمن المجموعة التي تسكن جهنم ، وسلمان رشدي في كتابه ( الآيات الشيطانية ) ، والروائي السوري حيدر الحيدر في روايته ( وليمة لأعشاب البحر ) التي تحدثت عن نساء النبي r ، والكاتب بارت روبتسون الذي وصف النبي r بـ( العدواني ) ، والصحفي فبري فاوس وصفه بـ( الشاذ ) ، والكاتب جيري فاولر وصفه بـ( الإرهابي ) ... إلخ .
ويمكن القول إنّ هذه التخرصات والأكاذيب وغيرها هي حلقات في سلسلة لن تنتهي ، ولا تشكل سوى صراخ لا صدى له عند العقلاء والحكماء وأهل الرأي والمشورة وأصحاب المعرفة في العالم كلّه ، فضلا عن أنّ الصادق الأمين r قد مُنِح حصانة إلهية في حياته وبعد مماته وذلك في محكم التنزيل ) إنّا كَفَينَاكَ المُستَهزِئِينَ ( ، فدعوته r تطرق الأبواب كلّ يوم ، وأخلاقه تدخل القلوب وتأسر العقول وتملك الروح ، وقد دفع ذلك صاحب موسوعـة : ( أعظم مئة رجل في العالم ) إلى جعل النبي r أول شخصية تاريخية غيّرت العالم وأحدثت فيه انقلابات عقدية ، وتحولات في مسارات الأخلاق والسلوكيات الاجتماعية ، ونقلتها من حالة الفوضى والحيوانية التي كانت تعيش فيها إلى حالة الإنسانية والتعايش المتوازن الذي رسم الحقـوق وحدد الواجبات لكل فرد ، سواء كان تجاه نفسه أو تجاه المجتمع أو تجاه العالم ، بل حتى تجاه بقية الموجودات .
يمكن الآن تقديم مفاصل قراءتنا لما وراء الإساءة الموجهة للنبي الكريم r من المحافل الأوربية المعاصرة ، وسنبتعد عن الآراء التي تؤكد أنّ المسلمين قد ابتعدوا عن نبيهم ، وما تأجيج هذه الحادثة إلا تنبيه إلهي للعودة إلى سنة رسول الله r وتطبيق أوامره واتباع وصاياه ، وبعد كلّ أزمة وغفلة من المسلمين هناك صحوة ونهوض ، وقراءتنا ذات محورين :
1. قراءة أيديولوجية .
2. قراءة ثيوقراطية .
وقبل الدخول في تفاصيل هاتين القراءتين يمكن تقديم واقعة الإساءة التي حدثت للنبي الكريم r في الدانمارك ، كي يكون القارىء على بينة مما نحن بصدده ، في البدء قامت مخرجة صومالية الأصل بعمل فلم عن الإسلام ، حوى إساءة لثوابت الإسلام وأحكامه وشرائعه ، وقد ركزت على قضيـة الحجاب وحريـة المرأة ونحو ذلك ، وقد عمـد رئيس وزراء الدانمارك الحالي ( فوغ راسموسن ) إلى مقابلتها وتقليدها وساما لجرأتها في تناول الموضوع ، وقد شجّع هذا العمـلُ محاولات استهزائيـة أخـرى ، إذ أجـرت صحيفـة ( Jyllands-Posten )الدانمركية المغمـورة التي يرأسهـا ( Vebjrn Selbekk ) مسابقـة لرساميّ الكاريكاتير حول موضوع : ( ما هو أفضل تعبير يمكنك أن تقدمه عن رسول المسلمين محمد ؟ ) ويقدّم الرسم التعبيري هذا بوصفه صورة لغلاف كِتاب أُلّف عن الرسول e ، وأرسلت الدعوات إلى أربعين رساماً ، لم يستجب منهم سوى اثني عشر ، وقد فاز بالمسابقة الرسام : ( Edgar Kokkvold ) الذي قدّم اثني عشر رسماً ، بعضها لا يحوي تعليقاً ، وبعضها يحوي على العبارات الآتية :
ـ يقول لعدد من الانتحاريين : توقفوا لم يعد لدينا مزيدا من الحوريات في الجنة .
ـ يستعرض أحدُ الأشخاص عدداً من المشتبه بهم ويقول : أنا لا أعرف كيف أميز النبي من بين هؤلاء .
ـ لأجل هذا يصلي المسلمون ( والإشارة إلى كلب مربوط بحبل ) .
ـ القاسم المشترك بين النبي والصحافة هو التجاهل .
ـ الإرهابي .
ـ لن يتعدى رد الفعل سوى الاستنكار والاستهجان .
وفور إعلان هذه الرسوم رفعت الجالية الإسلامية في الدانمارك ـ التي يقدر عددها بمئة وسبعين ألف مسلم ـ في بداية أيلول من العام 2005 دعوى ضد الصحيفة ، لكن القاضي رفض الدعوى بحجة حرية الرأي ، وقال أنّ هذه الرسوم لا تعدّ جريمة ، ولا يحاسب عليها القانون . ثم اتجهت الجالية الإسلامية إلى ميادين الدولة لرفع شكوى ضد الصحيفة وقد جاءها الرد في نهاية أيلول من العام نفسه : " إنّ المسلمين يميلون في غالبيتهم إلى الهدوء ، ولن يشعروا بالغضب ، لكن أولئك الضلاميين هم الذين سيثورون من هذه الرسوم ، فهذه السخريـة هادفة وهو أمر مشروع " ، ثم نالت هذه الرسوم شهرة واسعة وتناقلتها وسائل الإعلام المرئية والمقروءة .
تشير القراءة الأيديولوجية لهذا الحدث إلى أنّه يمثل ( فخاً ) وقع فيه العرب والمسلمون والأوربيون على حدّ سواء ، فبعد تحسن العلاقات بين العرب والأوربيين على مستويات عدة سياسية واقتصادية وحوارية ، في مقابل تأزمها بين العرب والأمريكان بسبب دعم هذه الأخيرة للكيان الصهيوني الغاصب ، وحربها الظالمة ضد العراق ، وموقفها المتشنج من سوريا ، وموقف أمريكا الرافض لحركات المقاومة التحررية الوطنية في العراق ولبنان وفلسطين .
إذن هناك جانبان غير متوازنين جانب العلاقة الغزلية بين العرب والأوربيين ، وجانب العلاقة التي تتسم بالكراهة مع الأمريكان ، وقد دفع هذا بعض أوساط الدهاء السياسي الأمريكي وبدعم من اللوبي اليهودي المتنفذ في الساحة السياسية الأمريكية إلى اللعب بأوتار حساسة ، ومحاولة قلب الموازين ، والهدف هو : افتعال أزمة عدم ثقة بين الصفين العربي والأوربي ، ومحاولة إيصال الفعل ورد الفعل بينهما إلى ذروته ، ولن يتم ذلك إلاّ بمداعبة أحاسيس الجماهير العربية المعروفة بميلها العاطفي ، والحساسية المفرطة تجاه الدين وكل ما يتعلق به ، وقد تمّ ذلك بالتعرض إلى الشخصية رقم واحد في الإسلام ، الشخصية التي بُعثت رحمة للعالمين ، والمعروفة بتسامحها ورفعتها وأدبها وسلامها الممنوح للجميع والصفح والعفو ... الخ ، وكانت النتيجة كما أُريد لها وزيادة : توحد الصف العربي والإسلامي ضد هجمة الاستهزاء برسول الله r ، وتوحد الصف الأوربي بموقف داعم لحرية الرأي فيه ، وما تصفيق نواب الاتحاد الأوربي في جلسة البرلمان لمندوب الدانمارك فيه إلا دليلا على ذلك ، فضلا عن مواقف الصحف الأوربية التي أسهمت في تثبيت موقف الصحيفة الدانماركية من خلال إعادة نشر تلك الرسوم السيئة في بلدان عدة : فرنسا واسبانيا وبلجيكا ونيوزلندا والنمسا وايطاليا ... ، وبشكل أو بآخر تأزمت العلاقات بين الساحتين العربية والأوربية ، بعدما شهدت تحسنا جيدا في العقد الأخير لا سيما على المستوى الاقتصادي هذا من جانب .
ومن جانب آخر يمكن القول أنّ القراءة الأيديولوجية لجريمة الإساءة للنبي الكريم e تشير أيضاً إلى أنّ بعض الأوساط السياسية العربية والإسلامية التي لا تعرف الإسلام إلا في الأعياد والمناسبات ، ولا يعمل عندها الدين إلا في أماكن العبادة بشكله الطقوسي وحسب ، هذه الأوساط استغلت هذه الحادثة لتنير وجهها القبيح الذي اكتسب سوادا طيلة حكمه ، وأذاق الشعب صنوف الذل والهوان ، وتجلى ميدانها في استغلال الحادثة هذه في إظهار محبة النبي r ومحبة الإسلام والدفاع عن قضاياه !! ، فضلا عن استخدام هذه الحادثة بوصفها نوعا من التسوية السياسية بين الوضع المحتقن داخلياً ، والوضع السياسي المتأزم خارجياً مع دول الغربية لا سميا الولايات المتحدة الأمريكية واقصد هنا تحديدا إيران التي أرادت مع سبق الإصرار والترصد أن تقايض النبي الكريم r بأزمتها النووية مع الغرب ، وبتعثر سياستها الخارجية ، فضلا عن اضطراب داخلي إيراني متأت من سياسة ولاية الفقيه التي لا تبقي ولا تذر ، سياسة زرعت الدين بوصفه طوطماً وسلاحا ذا حدين مسلطا على أفواه الشعب وعقولهم ، فلا إبداع إلا بما يوافق توجهات العمامة السوداء ، التي أشبعت لطماً ونواحاً ، ولا تفكير إلا من خلال خوارج العصر !! .
أما المحور الثيوقراطي فيحيل إلى سلسلة من السلوكيات الواقعيـة التي أُبتُلي بها المسلمون، وتوترات نفسية قائمة على الموازنة القلقة المستمرة بين ثنائيـات جدلية عدة منها : ( الفوقية والدونية ، العزيز والذليل ، المؤمن والكافر ، تضخم الأنا وقزمية الآخر ، ... ) فضلا عن شيوع صفة النفاق السلوكي في القول والفعل ، على صعيد الكلمة والعمل .
ويكمن بيان ذلك في نقطة جوهرية أذهبت هيبة المسلمين ، وأضعفتهم أمام عدوهم ، وجعلتهم غير متسقين ، لا منهجيين ، لا طريق واضح أمامهم ـ في الغالب ـ سوى التقليد والاستهلاك والنقد غير البناء ، ثم محاولتهم إلغاء الآخر وإقصائه وإن كان ثمن ذلك باهضاً بوساطة إراقة الدم ، والنقطة الجوهرية هي قوله U ] وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم [.
ومن المهم ذكر أنّ قضية الإساءة للنبي الكريم r كانت من الممكن أن تنتهي بشكل عملي أكثر جدية مما يحصل الآن من ردود فعل عظيمة في أرجاء مختلفة من العالم ، وذلك بوساطة فتوى جريئة بهدر دم الرسامين المشاركين في مسابقة الإساءة للنبي الكريم e ، وستمثل هذه الفتوى حصنا منيعا للنبي e وللإسلام على حد سواء ، وسيفكر من تسول له نفسه بالإساءة للنبيe ، سيفكر ألف مرة قبل أن يقدم على عمل كهذا لأنّ جزاء ذلك القتل .
ومن جهة أخرى ما هذا النفاق الحاصل في صفوف المسلمين ، نفاق واضح للعيان ، وسلوك لا يرقى إلى الكمال الذي أتى به الإسلام لإسعاد البشرية جمعاء ، ويظهر ذلك جلياً في سكوت المسلمين عن الاستهزاء الحاصل كل يوم بالله U خالق الأكوان ، ومبدع السماوات والأرض ، وربّ المشارق والمغارب ، وربّ محمد e والناس أجمعين ، ما هذا السكوت الرهيب من قضية الإشراك بالله U في دول أوربا واسيا ، أعندما يعبد الصنم عند البوذيين ، ويعبد الحيوان عند الهندوس ، ويكون لله ولدا عند النصارى ، أو تكون الطبيعة قد خلقت نفسها ولا وجود لله U عند الملحدين ، ... ، أعندما يكفر بالله U كلّ يوم فلا مشكلة تستحق الحديث ، وعندما يظهر رسم كاريكاتيريّ فهو المشكلة كلها ، وهي التي تستحق تدمير السفارات ، وقطع العلاقات ، ومقاطعة البضائع !! ، أين المسلمون من أفلام هوليود العديدة جدا التي تتحدث عن إبداع الإنسان وتحوله إلى اله ولا الـه موجود غير الإنسان ، وأن الإله قد مات وحل محله الإنسان ، إلى غير ذلك من هذه الأفكار الإلحادية !! .
لقد عرف جهابذة السياسة المعاصرة الذين تحركهم الأصابع الصهيونية الملوثة بخطايا الشعوب وآثامها ، عرفوا كيفية تحريك الشارع الإسلامي وفي أي وقت ، وأتقنوا لعبة ( ديمقراطية الصراخ ) التي ترتكز إلى مبدأ تفريغ الشحنات الجماهيرية ثم تنتهي المسألة ويذهب كلّ فرد بعد ذلك إلى أعماله المعتادة ، لقد دخل المسلمون المعاصرون الذين لا حول لهم ولا قوة ، دخلوا في مخططات الآخرين لاعبين أو مشاهدين ، وتركوا طريق التخطيط لأنفسهم ولدينهم ولمستقبلهم ، ودليل ذلك مطالبتهم الآن بقانون دولي تحرم وتجرم الإساءة إلى الأديان ، وهذا فخ آخر سيقع فيه المسلمون ، لأن الإسلام قائم في الأساس على فكرة الولاء والبراء ، أي اتباع أهل الإيمان ونبذ أهل الشرك والضلال وتقديم النصح لهم وإن لم ينتهوا فواجب على المسلم بيان مثالبهم وانحرافهم عن التوحيد الخالص لله U وبذلك سيعتقل كلّ من يتحدث عن الضلال الموجود عند اليهود والنصارى والبوذيين وعباد القبور وعبدة النار والفرس ... تطبيقا لقانون منـع الإساءة إلى الأديان ، وسيمنع عن الخَطابة كلّ من مسّ أي شخص بكلمة أو بخطاب ينافي معتقده ، وإن كان منحرفا مشركا ، وهذا كلّه يصبّ في الاستراتيجية السياسية العالمية المعاصرة في محاربة الإسلام وأهله ودعاته ، وسيتمنى المسلمون عندها لو أنهم انتبهوا إلى ذلك ، وسيعضون أصابع الندم ولكن بعد فوات الأوان ، أتمنى أن ننتبه إلى ما يحاك بها ، وعلينا أن نمحص تصرفاتنا بناءا على مقتضيات المصلحة الواقعية بما لا يخدش خطوطنا الحمر للشرع الإسلامي الحنيف ، علينا تحويل الأفكار التقليدية التي تسوقنا العاطفة إليها دون تمحيص عقلاني ، إلى أفكار ثورية علمية عظمى نخططك لها ، بوضع فرضياتنا التصورية لها ، مؤسسين تشكيلة واسعة من الفضاءات المعرفية التي ستقدم رؤية قائمة على توجهات مشتركة في بناء العالم وإعماره ، وتقديم الرأي واحترام الرأي الآخر ، وبذلك يمكننا نبذ الاستهلاك وممارسة الإنتاج ، ترك التقليد وتقديم الإبداع ، الحدّ من جموح العاطفة في مقابل استخدام العقلانية بشكل واسع ، احترام ديننا الحنيف من خلال تقديم صور براقـة ومشرقـة من السلوكيات التي ارتسمت بوصفها صفات راقية ومتزنة وصّى بها نبينا الكريم r وبذلك يمكننا تكميم الأفواه التي تنطق تخرسات وأكاذيب بحق نبينا r وأتباعه .
*عميد كلية اللغات / جامعة المدينة العالمية