المرأة فعل ثوري في كسر للواجهة الإعلانيّة
د. سماح هدايا
فوق صفيح على بركان، تسير بعنفوان مستجدات الثورات العربيّة؛ فهي محمولة، رغم كل الاتهامات الموجّهة إليها، بطاقة ثوريّة هائلة وأفق نهضوي بلا حدود، ولابدّ أن تهز، عاجلا أو آجلا كل شيء في مكونات المجتمع، لأنها حركة تغيير تاريخي. ولذلك فمن الطبيعي أن تهز قضيّة المرأة وتحرك مكوناتها للتثوير والتجديد.
المرأة مثلها مثل الرجل، قد عانت من التهميش السياسي ومن سلب الحقوق الوطنيّة، وغياب الحريّات الفكريّة والسياسية؛ لكنّ وضعها كان أصعب وأشد وطأة بسبب انكفائها على إحساسها بالضعف والنقص، وبسبب سيطرة النظام السلطوي الأبوي الجاهل الذي ساد بدعم من أنظمة الاستبداد والذين يحمون الأنظمة المستبدة.
الثورة غيّرت الوقائع؛ فاتحدّت المرأة بالثورة، قلبا وفعلا؛ فخرجت في الشوارع، في مواجهة الرعب والتخويف والإرهاب وتحت البرد القارص والشمس الحارقة والرصاص المنهمر والقصف والقنص والذبح والتشويه، ثائرة، تندّد بالطّغيان والاستبداد والإرهاب، وتخلع من موروثها فكرة الدونيّة والاستخفاف بقوة الذات، وهو وعي طغى على إدراك المرأة لذاتها، واستمدّ منه مجتمع السلطة الذّكريّة الجاهلة والفاسدة قوّة التّحكم بها. لم تخرج، من موقعها الفردي، دفاعا عن قضيتها الشخصيّة، تحت إطار (الجندريّة)، وبدفع منّ الهيئات الحزبيّة النسوية التي تبتها بعض الأنظمة الحاكمة، أو بعض الحركات العالمية التي ملأت الدنيا وأقعدتها بموضوعات الحريّة النسويّة، وتواطأت في المقابل على ثورات الحرية بتحالفها مع منظومات الاستبداد السياسي، وظلمت الإنسان والمرأة والوطن وقيم الحرية وحقوق الإنسان؛ بل، على العكس، اندمجت المرأة الجديدة بروح الثورة، عمليّاً ونضاليّاً وقيميا وإيمانيا، وتخطت مشروعا ضيّقا فئويا إلى رحابة مشروع يمتد على الوطن بأكمله، ويشملها هي والرجل. في شراكة إنسانيّة ومجتمعيّة واجتماعيّة وسياسية، تحت مصطلح المواطنة، ومن أجل الوطن.
الثورات العربيّة، في جوهرها ثورات اجتماعيّة، ضد القهر السياسي والظلم الاجتماعي وضد العادات والتقاليد الفاسدة المستبدة المتخلّفة المغلوطة، وضد المرجعيات الاستبدادية والإذلاليّة، وهي لإسقاط النظام السياسي والاجتماعي والثقافي والفكري والتربوي والمجتمعي الاستبدادي السائد والذي يمكن أن يسود، ونصرة للحقوق العادلة والحريات والكرامة...
ولعلّ المرأة، بفعل الثورة، قد اتسع وعيها السياسي وشكل إنتاجها الوطني وسخاء نضالها التحرّري؛ فأصبحت، بضغط المتطلبات والمسؤوليات المستجدة والخطيرة، وجها لوجه أمام استحقاق التغيير، ومعنية جدا بأمر الشّأن السياسي الوطني، وأدركت حجم دورها الأساسي فيه وطبيعته داخل سياق مواطنة متساوية وحقوق عادلة للرجل والمرأة، وهو الجوهر والأساس.
لا نستطيع أن نتعاطى مع ملف المرأة، بمعزل عن السياق العام التحرري النهضوي؛ فلا يمكن أن تتحرر المرأة إلا بتحرر العقل والفكر والإرادة والفعل. وتحررها يتطلب كفاحا ونضالا، ويلزمه تطوير أدوات النضال وطرق العمل، وأن يكون الصراع الذي تخوضه المرأة ليس بهدف حصد المكاسب السياسية فقط والاستحواذ على السلطة، بل لتحقيق المكاسب الاجتماعيّة ونهضة الفرد والمجتمع. ولذلك عليها متابعة النضال وتطويره، لتكون قادرة على التغيير المجتمعي ورسم القررات، والمشاركة في تشكيل الدستور، وذلك وفق اندماجها الاجتماعي والفكري والسياسي ضمن فكرة المواطنة المرتبطة بالكرامة والحريّة الإنسانيّة.
إنّ المرأة السّوريّة، بالتحديد، دفعت، باهظا، من دمها وكبدها وعواطفها وجسدها، وقدّمت مثالا عظيما في الصمود، من حياتها وحياة عائلتها، ولم تفعل هذا من أجل مكسب نسائي محدود ومعزول عن السياق الإنساني والعائلي، فالثورة هي للمرأة والرجل والطفل وهي مشروع للديمقراطية والحرية والكرامة والعدالة. وعليها خوض معاركها للإنتاج والإبداع والريادة وعدم التهيب من الذهاب إلى معترك المراكز القيادية الإنتاجيّة. ولعلّ أهم ما يلزمها هو تعزيز الثقة بذاتها، وإيمانها بأن مشاركتها في بناء الدولة هو مشروع نهضة للوطن وأبنائه جميعا، وهو أكبر من مكسب فئوي؛ الأمر الذي يفرض عليها النضال بإرادة قوية مستمرة من أجل خلق مناخات وآليات ومواقع قانونية ترفع من شأن مرتبتها المجتمعيّة، ومن شأن حقوقها؛ فالعدالة والديمقراطية لا تصمدان في الفراغ، من دون وجود القوانين التي تكفلهما. ووجود المرأة في البرلمان أو مجلس الشعب أو الحركات السياسية والفكرية والأحزاب والمؤسّسات المجتمعية والمجالس الوطنيّة، بشكل وظيفي لا مجرد واجهات إعلانيّة أو تسويقيّة، هو أمر ضروري وأولوي وملح من أجل سن القوانين وإيجاد التدابير والشؤون التي تخدمها وتخدم مجتمعها من دون تمييز بين الأفراد وبلا استعلاء وإقصاء وانتهازيّة.
بعد التضحيات الكبيرة التي قدمتها المرأة العربيّة، وخصوصا المرأة السوريّة في الثورة، لم يعد هناك مهرب من أن تتابع المرأة قضيتها وتكون جزءا اساسيا من بناء الدولة والمجتمع، وجوهر الأداء الإنساني الحضاري والمتمدّن؛ فقضيتها الفردية، كإنسان أولا، وكامرأة ثانيا، تتحد بنضالها السياسي والوطني والإنساني من اجل الحرية والكرامة والعدالة. والديمقراطية ليست فقط معركة الانتخاب واللائحات الانتخابية. هي وسيلة لتحقيق واقع الحرية والعدالة والكرامة، وتفعيل المشاركة والشراكة. ومازالت الثورات العربية لم تستكمل مشروع تحرّرها، بل هي في بدايته، ولم تتخلص بعد من رواسب نظام الاستبداد ومن جذوره. والبناء الاجتماعي هو الطريق، بالاستفادة من خلاصة التجارب الواقعيّة ومحصلة تطويرها المستدام. وبالتالي فإنّ كل المجتمع مسؤول فيه: النظام السياسي والمنظومة الثقافية والقانونية، ومجتمعي وأخلاقي وعقائدي، ومؤسساتت التربية والتعليم...والمرأة في رحم كل ذلك.
ليس هناك وصفة جاهزة، وتصور كامل عن موقع المرأة في المستقبل، لكن معركة المرأة لن تكون سهلة وأولها مع نفسها وتصوراتها؛ لكي تحسم خياراتها المبدأية والعقائدية والثقافية قبل أن تخوض الحرب السياسية والنضال الاجتماعي الحقوقي.