الفيلم المسيء والمسؤولية الأمريكية

منير شفيق

لم يجرؤ أحد من كان وفي أيّ مكان أن يدافع عن الفيلم الذي استهدف الإساءة الوقحة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بخاصة، وللإسلام بعامة، كما استهدف استفزاز المسلمين أينما وجدوا في هذا العالم.

لم يجرؤ أحد أن يُدخِلَ الفيلم في عِداد الأعمال الفنية أو يصفه بالإبداع الفني. فالفيلم من نوع رديء للغاية حتى بمقاييس الذين يسوّغون الإساءة للإسلام ولمشاعر المسلمين تحت دعوى الإبداع والفن.

ولم يقل أحد إن الاحتجاجات على هذه الإساءة ليست حقاً، أو ليست ضرورة قصوى، لا بالنسبة إلى المسلمين فحسب وإنما أيضاً إلى المسيحيين بعامة، وإلى مسيحيي مصر والعرب بخاصة، بل بالنسبة إلى كل حريص على حرية الرأي والمعتقد. فالفيلم استهدف إحداث فتنة بين المسلمين والمسيحيين في مصر، كما استهدف إذلال المسلمين في فرضه على الإنترنت، وإخراجه من استديوهات هوليوود الأمريكية، لكأنه يقول لهم لا نبالي بكم وبمشاعركم وافعلوا ما استطعتم فعله!

وسوف تتكرّر الإساءة بأشكال مختلفة كما حدث من قبل، مثلاً في الرسوم الكاريكاتيرية، أو الحضّ على حرق القرآن.

لا يشك أحد في أن الذين كانوا وراء الفيلم أدركوا منذ اللحظة الأولى، بل توقعوا، ما سيجرّه من ردود فعل وربما أشدّ مما حدث. والأنكى أنهم تعمدّوا إظهار هويّاتهم فرادى ومجتمعين مطمئنين بما سيتمتعون به في الولايات الأمريكية من حماية رسمية، ومن غطاء حين تغسل الحكومة الأمريكية يدها من المسؤولية تحت حجّة الحرية التي يكفلها الدستور، وهي تصف الفيلم بأنه إساءة لا توافق عليها، أو أنه باعث على الاشمئزاز.

الوعي المتراكم تاريخياً لدى العرب والمسلمين من خلال علاقة الإدارات الأمريكية بفلسطين والعرب والمسلمين، ومن جهة الحملة الشعواء التي أطلقها المحافظون الجدد رسمياً ضدّ الإسلام والمسلمين كما ما سمّي «الإسلاموفوبيا»، وإلى الحروب التي شنتها هي والكيان الصهيوني خلال العشرية الماضية. وهو ما دفع إلى التوجّه بالاحتجاح إلى السفارات الأمريكية؛ من أجل إظهار إرادة الملايين في رفض استخدام حرية الرأي والتعبير في الإساءة للإسلام والمسلمين، لما في ذلك من اعتداء جارح حتى الأعماق للمعتقد وللمشاعر وللكرامة، ومن تأكيد الهيمنة على الشعوب العربية والإسلامية، كما احتكار القرار العالمي في إعطاء الحق للعنصريين، وفي مقدمهم الصهاينة، أن يسيئوا كما يشاؤون للإسلام والمسلمين تحت حجة الحرية التي يكفلها الدستور الأمريكي لهم.

وعندما حوّل نفر قليل موجة الاحتجاجات لتكون عنيفة، لم يكتف من أدان اللجوء إلى العنف بحدود إدانة العنف فحسب، وإنما أيضاً انبرى البعض إلى تبرئة الإدارة الأمريكية من أيّة مسؤولية، متبنين حجتها التي ادّعت فيها ألا علاقة لها بهذا الفيلم، ولا تملك الحق بمنعه أو مقاضاة من وراءه.

بإثارة الفتن والفوضى والقتل والبغضاء والحضّ على التعصب الديني أو العنصري. وبالمناسبة منعت إدارة بوش أن تنشر على الإنترنت فيديوات تتعلق بالتعذيب في سجن أبو غريب؛ تحت حجة الإضرار بمصلحة أمريكا، ولم تتذكر أن الدستور يصون حرية الرأي والتعبير!

أمريكا لا تستطيع أن تنكر وقوفها المعارض لاستصدار قانون يعاقب على الإساءة لمعتقدات الآخرين ومشاعرهم؛ الأمر الذي يعني أنها تركت الباب مفتوحاً، وضمنت الأمان لكل مسيء للإسلام والمسلمين، حيث أعطيت الحرية كاملة لكل من يسيء ويهين ويستفز رموز الإسلام ونبيّه وكتابه، فيما صدرت القوانين وأخذت الإجراءات ضدّ كل من يناقش، ولو من ناحية علمية أكاديمية، عدد الضحايا في الهولوكوست! واعتبرت التعرّض السلبي لكل ما له علاقة باليهود أو الصهيونية مخالفاً للقانون الذي يمنع التحريض ضدّ السامية.

هنا تقع مسؤولية مباشرة على الإدارة الأمريكية حين تحمي الإساءة للإسلام والمسلمين، وتجعلها مغطاة بالدستور الأمريكي الذي يصون الرأي والمعتقد، ولو كانت الإساءة تؤدي إلى زرع البغضاء والاحتقار والتحامل الديني والعنصري ضدّ الإسلام والمسلمين، ومن ثم تولّد بالضرورة غضباً عارماً من قبل مئات الملايين من المسلمين الذين يشعرون أن تلك الإساءة إهانة لمشاعرهم ومعتقداتهم وكرامتهم.

لذلك أخطأ الذين برّأوا الإدارة الأمريكية أو السياسات الأمريكية من أيّة مسؤولية، بالنسبة إلى الفيلم الذي أساء إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن قبل إساءة الرسوم وحرق القرآن.

إن أمريكا وحكومات الغرب، عموماً، تتحملان مسؤولية مكرّرة على استمرار ظاهرة الإساءات المذكورة سابقاً وحالياً ولاحقاً، ما لم يُوافقوا على إعلان عالمي يجرّم الإساءة للأديان وشعوبها. ويفصل بين الإساءة وحريّة الرأي ويترك للقوانين وللمحاكم أن تحدّد الإساءة وخطرها بالنسبة إلى كل حالة، وتداعياتها على أرض الواقع.

لو علم الذين تظاهروا ضدّ السفارات الأمريكية -بسبب هذه الإساءة- أن لجنة الأديان في وزارة الخارجية الأمريكية أعلنت دعمها لمطالبة الحكومة الصهيونية باقتسام أوقات الصلاة في المسجد الأقصى بين المسلمين واليهود، لتضاعفَ غضبهم أضعافاً، ولزادت أعدادهم ملايين أخرى في كل أنحاء العالم.

هنا نجد إجراءات عملية في الإساءة للإسلام والمسلمين حين تنتهك حرمة المسجد الأقصى؛ باقتسام الصلاة فيه وفي باحاته بين اليهود والمسلمين، أي مصادرة المسجد كما حدث مع الحرم الإيراهيمي في الخليل.

لهذا على الإدارة الأمريكية أن تحذر مما تفعله أيديها في المسجد الأقصى، ولن تجد عندئذ من يقول لا علاقة لها بما يحدث هنا، فيما بيان لجنة الأديان في وزارة الخارجية الأمريكية يدعم ويحمي تحت حجة أن منع اقتسام الصلاة يُدرَج في الاعتداء على حرية الأديان.