تقسيم الأوطان
تقسيم الأوطان
بين الأنظمة والثورات
مأمون احمد مصطفى
يتحفنا كثير من الكتاب، والكثير من العامة والغوغائيين، ومن بين ثنايا وخفايا الادعاء والتجمل فئات لا تعرف اصلا معنى مفردة الثورة في اللغة، او حتى بداية الاستخدام الذي رافق المصطلح كتعبير عن العمل الجماهيري في السياسة، بل ويمكن الذهاب الى الجزم الذي لا يدخله شك بان من يدعي انه وصل الى مرتبة من الوعي تمكنه من الكتابة التحليلية للأحداث التي رافقت الربيع العربي، سواء على المستوى الوطني او الاقليمي او الدولي، قد وقع في فخ الانظمة، او فخ الحيرة، وربما نقول الجهل، وامعانا يمكن القول انه انحياز الى واقع لم يتصورا انهم يستطيعوا التخلص منه يوما، وهو واقع التسليم والاذعان والخضوع والذل الذي سيطر على طبقات المجتمع العربي فترة من الزمن، حولته في نظر هذه الفئة، الى لازمة من لوازم الحياة اليومية التي لا تستقيم الشخصية بدونها.
طبعا هناك فئات اخرى كثيرة، تبني نظرتها على مصالحها ونفوذها ورؤيتها المستقبلية لحياتها الشخصية وظروف امنها وثرائها في ظل النظام الذي روضها ودجنها لتكون تابعة من توابعه، اضف الى ذلك فئات المصالح القومية والعقدية، وكذلك الفئات المرتبطة بالدول الاستعمارية، سواء كانت هذه الدول خارج النطاق الاقليمي او داخل المنطقة.
الحجة المقدمة من هؤلاء للتشكيك بالثورات العربية، تتلخص في سؤال خبيث يحمل في طياته غايات عصبية وريبية، ما هو البديل الذي ستقدمه الثورات العربية للأوطان؟ طبعا هذا السؤال مصاغ تحت راية التشكيك بنوايا الغرب ودعمه للثورات ضد الانظمة، وبنوايا الانظمة العربية التي تدعم الثورات خاصة قطر والسعودية مضافا اليهما بقية الخليج العربي؟!
اما الفيروس المستخدم لتعرية الثورات من مصداقيتها الثورية والشعبية، فهو فلسطين وقضيتها؟! اذ يبني الكثير من المغرضين والمشككين رؤيتهم على مستقبل النظرة لفلسطين بعد الثورة.
لنأخذ مثلا مقالة عبد الباري عطوان المعنونة " حدثونا عن سوريا ما بعد الاسد "، فهي برمتها منطوية على الخبث الممنهج لتشويه الثورات، من خلال تشويه الثورة السورية، وهي تدور برمتها على التساؤل عن مصير سوريا ومستقبلها بعد سقوط نظام الطاغية المستبد السفاح والجزار؟
لإسقاط هذا الخبث، وهذا التوجه الممنهج من عطوان ومن يلف لفيفة، لا يحتاج منا كثير جهد او عناء، هذا اذا كان عطوان ومن على شاكلته، يريد ان يخضع لمفهوم المنطق والعقل والتحليل للوصول الى قاعدة فيها من الوضوح والتساؤل ما يكفي لإنصاف الثورات كثورات مفاجئة انتفضت على انظمة قائمة منذ عقود دون ان تتمكن من تحقيق اصغر قضايا الشعوب.
هذه الفئة عليها اولا وقبل ان تتساءل عن مستقبل الثورات، وعن سوريا ما بعد الطاغية، ان تكون منصفة لذاتها، ومقدرة لفكرها، ومتفانية في التعمق من اجل تقديم الادلة على واقع معاش منذ عقود، وقد تم اختباره، بالفعل والقول والتطبيق والممارسة، على الارض، حول قضايا الشعب وتطلعاته وامنياته، وبين ما انتج الواقع والتطبيق والممارسة، من ظلال شبحية مرعبة ومهلكة.
النظام التونسي، حيث بدأت الثورة الاولى، بقيادة الطاغية، حول تونس برمتها الى مزرعة لا لتلبية طموحاته هو بالدرجة الاولى، لأنه كان محكوما من زوجته التي فتكت انيابها وانياب عائلتها بالشعب التونسي فتكا لم يفتكه مستعمر بشعب مستعمر، ولست هنا لسرد المشاق والمتاعب والجوع والسغب الذي حاق بتونس كشعب وتاريخ وحضارة وثقافة وخلق وابداع، فهو اشهر من ان يذكر، او ان يعد ويحصى.
مصر، الثقل العربي والاسلامي، مصر التاريخ الذي بدأ مع بداية الكون، مصر الوزن الايديولوجي والاستراتيجي ليس في المنطقة فقط، بل في العالم كله، ماذا فعل النظام السابق لها ولشعبها؟ بالتطبيق والممارسة والفعل؟ افرغها من محتواها ووزنها وثقلها، وحولها الى ملكية خاصة يتحكم بها مع اولاده وزوجته، حتى بلغت الاهانة بان تكون زوجة الطاغية " سيدة مصر الاولى "، وكأن نساء مصر كلها في المرتبة التي تلي مرتبتها، وان يقرر الطاغية يوما رفع اجور العمال بمناسبة عيد ميلاده، وكأنه يقول للشعب كله، بان يوم مولدي هو اليوم الذي تحدد فيه ارزاقكم وارزاق اهلكم، بل وتمادى بالتخطيط هو وزوجته لإلغاء الشعب المصري كاملا ونقل السلطة الى ابنه الذي امتص دماء الشعب.
طاغية ليبيا ومجنونها، كان على استعداد الى ابادة الشعب الليبي من اجل البقاء في السلطة، وحين ادرك بان نهايته قادمة، قرر ان يزرع الما في الشعب الليبي يفوق الامل الذي زرعه بكل بيت ونفس وذات، فقتل وجزر واغتصب ودمر ليبيا دمارا سيكلف الشعب الليبي زمنا ومالا ومستقبلا يعلم الله قيمته وتكلفته.
اليمن، وطاغيتها، الذي لا يفقه من الحياة سوى التبعية والذل والخيانة، ماذا فعل للشعب اليمني ؟.
اما سوريا، فانا لا علم كيف اصيب عطوان بالعمى الكامل؟ هذا اذا كان اصيب بالعمى؟ ليتساءل عن سوريا بعد الطاغية؟ ولم يتساءل عن مجازر الطاغية في تل الزعتر وطرابلس ولبنان، كيف لم يتساءل عن مجازر حماة؟ وعن تسليم الجولان؟ وعن الصمت الذي استمر من بداية حكم الطاغية الى منا هذا؟ عن تسليم السلطة الجمهورية وراثيا الى من لا يستحقها ليس فقط وراثة، بل قانونا؟ لم يتساءل عن تعديل الدستور بلمحة عين لانزال الدستور الى مستوى عمر الوريث، والى انزال هيبة الجيش والعسكرية حين تمت ترقيته الى الرتبة التي تسمح له بتولي الرئاسة الملكية في سوريا؟ وكأن 21 مليون سوري منتهي الصلاحية من حيث القدرة والاقتدار للخلق والابداع؟ وانزالهم الى منزلة من لا يتقن شيئا سوى العبودية والتبعية والتقليد والتسليم.
ليس من الصعوبة القول: بان اول علامات الذكاء المنطقية، هو تحليل الواقع المعاش الذي افرز عبر عقود نتائج واضحة جلية بينة ملموسة، لبناء الرأي واستخلاص الحقائق الدامغة. الانظمة السابقة مثلت مرحلة من المراحل التي افرزت الهزيمة والخنوع والانكسار، كما مثلت سحق الكرامة الوطنية والثقافية والدينية والتاريخية، وتسلطت على ثروات الاوطان وانسانها، بوحشية لم يسبق مثلها من قبل، بل وسلمت البلاد الى مجموعة من الدول الاستعمارية تعيث فيها وتعبث بمقدراتها، حتى وصل الامر الى قناعة مركزة من الرعب والهلع لمجرد التفكير بالتخلص من واقع احاط بكل جزئية من جزئيات الحياة، بل وبكل ذرة من ذرات وجود الشعوب والاوطان.
من هنا، من هذا الواقع، انطلقت – وبعفوية كاملة مطلقة – الثورات لإنقاذ الاوطان مما يحيط ويحيق ويحدق بها من اخطار، لكن، ولان الانظمة التي تحكم اوطاننا، كانت تعتقد بصورة لا يقترب منها شك، بانها من تملك قرار الوطن والمواطن، رفضت بصلف الغرور وعنجهية الطغيان، الاستماع الى اصوات الملايين التي انتفضت لتصحح الدفة، كان الالتحام، بين اناس، ثوار، اصحاب الارض والوطن، حراس المستقبل، وبين وحشية النظام وشهوته المتقدة المعتقة للقتل والسفك والذبح والسلخ.
فكانت المواجهة.
بين وطن يبحث عن كرامته، وبين طغمة تبحث عن سحق كرامته، دخل الوطن بصدره العاري، واقتحمت الانظمة بأدوات الموت والدمار، الوطن يحمل امانة التاريخ والثقافة والحضارة والرفعة، والطغمة تحمل امانة عارها وذلها وعهرها وخيانتها وانحطاطها، كانت الفكرة السامية – الوطن – يتقدم نحو الارض، برأفة الام ورحمة الاب، وكان النظام يتقدم برغبة توزيع اليتم والثكل، ومن بين كل هذا، كان الزمن يشاهد ويراقب.
والسؤال: الم يكن بإمكان الانظمة تنفيذ رغبات الوطن بدلا من اعلان الحرب عليه؟ الم يكن بإمكان أي رئيس لو كان رئيسا وليس طاغية ان يتنازل عن الحكم من الوطن والتاريخ؟ كان بالإمكان ذلك، لو كان ينتمي احدهم للوطن؟ وكان يمكن ذلك لو كان احدهم رئيسا؟ وكان يمكن ذلك لو كان احدهم قائدا؟
تونس انتهت ثورتها دون ان يقسم التراب التونسي؟ ومصر لم تقسم ولن تقسم، لان الشباب الذي نهض حاملا الوطن على كاهله، يمكنه النهوض في كل لحظة من اجل السيطرة على شهوات الخونة والضعفاء. ليبيا انجزت ثورتها بكم هائل من الدمار والدماء، ولم تقسم، وهي الان في طريقها لتشكيل معالم المستقبل، وسوريا الان في طريق سيطرتها على الطاغية وتاريخه المنقوع بالذل والهزيمة والتبعية.
واذا حصل ان تقسمت الدول الى دويلات، فان السبب المباشر لتقسيمها ليس الثورات والثوار، وانما الانظمة التي قررت ذبح الوطن قبل ان تصدق بان الشعب لا يريد مشوارا طويلا من الهزائم والخنوع والاستسلام والخضوع. وعلى العالم ان يعرف، بان القائد، هو من يستطيع سماع هسيس الوطن الناعم وسط ضوضاء البراكين والزلازل فيستجيب له، وليس من يقرر افناء شعبه من اجل ذاته.
هناك فرق يبدو ان الكثير من الكتاب والمفكرين لم يدركوه، وهو الفرق بين القائد، وبين من الطاغية.
وهناك قاعدة لم يتعلمها عطوان ومن هم على شاكلته، بانه قبل السؤال عن المتخفي في رحم المستقبل، يجب الاجابة عما هو على الارض من ممارسة وفعل وتطبيق.