الانعزالية القومية والشعاراتية المتطرفة هي التي همشت أحزابنا
الانعزالية القومية والشعاراتية المتطرفة
هي التي همشت أحزابنا
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
نشرت صحيفة "هآرتس"(29-08-2012) مقالا لزياد ابو حبله تحت عنوان "الولايات المتحدة اسراطين" ينتقد فيه واقع التفسخ الحزبي للمجتمع العربي في اسرائيل، من رؤيته "بأن غياب الرغبة للوحدة تحت اطار حزب عربي واحد، على العرب ان يفكروا بالانضمام للأحزاب اليهودية ( لماذا تجاهل صهيونيتها؟)، وادارة نضالهم من داخلها".
يفسر بان العرب رغم انهم يشكلون 20%، هم غير ممثلين وليسوا شركاء في النخبة الاقتصادية ، السياسية والعسكرية في الدولة، ويعيشون بشروط اقتصادية واجتماعية منخفضة . ويواصل القول بأنه لا فروقات ايديولوجية نوعية بين الأحزاب العربية, وتفتقد الأحزاب للتخطيطات الإستراتيجية، وللرؤية المستقبلية لمكانة العرب في اسرائيل كمجموعة، وانهم (الأحزاب) تركزوا بلا خيار بالموضوع الفلسطيني العام كموضوع جوهري، وتناسوا القضايا الداخلية للمواطنين العرب الفلسطينيين داخل اسرائيل. ويواصل انه جرى عزل الفلسطينيين من ارتباطهم التاريخي بالأرض(التي صودرت ولم يتبق لهم منها إلا 3.5%) وعزلهم عن شعبهم الذي يشكلوا جزءا منه، وتخليد واقعهم كاقلية في محيط ما. وان هذا الواقع الصعب هو وراء غياب رؤية مستقبلية وفشل قيادي من الدرجة الأولى للقيادة العربية في اسرائيل، تلزمنا بتفكير جديد عن القيادة وطرق النضال.
المقال يطرح قضية حارقة، ولكنه يتجه نحو استنتاجات أكثر خطورة من الواقع المأزوم الذي يشخصه.
اولا لا بد من توضيح ان الفروقات الأيديولوجية بين الأحزاب العربية شاسعة جدا ولا يمكن التجسير عليها. سياسيا هناك توافق حول قضايا عديدة وعلى رأسها القضية الفلسطينية والمطالب الاجتماعية والاقتصادية من الدولة وإذا دخلنا لعمق تحليل كل جانب نجد اختلاف واسع في الرؤية الجوهرية، الحركة الاسلامية تنطلق من رؤية ان فلسطين ارض وقف اسلامي،ومطالبها الحقوقية ليست قومية بقدر ما هي من منطلقات دينية. الأحزاب الوطنية ترى مركزية الحقوق الوطنية ، والحزب الشيوعي لا يبتعد عن المفهوم الوطني ولكنه يضيف حق الشعب اليهودي بدولة مستقلة (اسرائيل) على ارض فلسطين 1948 الى جانب دولة فلسطين في مناطق 1967 من منطلق مفاهيمه الطبقية والأممية. اذن تلاقي مواقف كل الحركات السياسية من القضية الفلسطينية ليس موقفا ايديولوجيا ، بل موقفا سياسيا دينيا قوميا أمميا. شكليا يلتقي الجميع، بعمق المواقف لكل حركة سياسية منطلقاتها الخاصة التي لا تتفق عليها مع الآخرين. المواقف الأيديولوجية تبرز في القضايا الفكرية، الموقف من المرأة مثلا. هل يمكن اعتبار الموقف الشيوعي من مساواة النساء في الحقوق الاجتماعية والتحرر من السيطرة الذكورية، نفسه موقف الحركة الإسلامية؟ حتى في مجال التعليم نجد فجوة هائلة حول المواضيع الأكثر أهمية للطلاب ، الرؤية الاسلامية تطرح موضوع تعليم الدين كموضوع جوهري، القوى الأخرى لا ترى بالدين الا موضوعا ثانويا او لا ضرورة له. وهناك خلاف عميق حول المدارس المختلطة، البعض يصر وينفذ الفصل بين الجنسين في التعليم. لا يمكن تجاهل ان هذه التناقضات في وجهات النظر هي تناقضات فكرية جوهرية تنعكس على التفاهم السياسي والاجتماعي .
الموقف من الربيع العربي انقسمت حوله الأحزاب العربية بشكل غير قابل للتجسير، خاصة حول انتفاضة الشعب السوري. أكثر من ذلك الموقف من الهبة الشعبية للعدالة الاجتماعية داخل اسرائيل انقسمت حوله الأحزاب العربية بين مؤيد ومعارض بحجة انه "نضال صهيوني" لا يخص العرب، كما اعلنت قيادة لجنة المتابعة العربية العليا المتماثلة مع الحركة الاسلامية.
موضوع الهوية الأساسية، هناك انقسام غير قابل للتجسير, حين ترى الحركة الإسلامية ان الهوية الأساسية هي الهوية الدينية-الاسلامية، سائر الأحزاب ، القومية والشيوعية تطرح الهوية القومية او الهوية الطبقية الأممية كهوية اساسية. بالطبع الفروقات تمتد الى شكل العلاقات الاجتماعية والممارسات الدينية والعقائد التي تشكل الوعي الشخصي والعام لكل فرد ومجموعة.
اذن استنتاج ابو حبلة حول التماثل الأيديولوجي بين الأحزاب العربية، كان متسرعا وغير مدروس . وبالتالي انجر الى بناء اقتراحات ربما كانت في جوهر تفكيرة قبل كتابة المقال، وبدون انتباه لمبنى العلاقة التاريخية بين الأقلية العربية والنظام القائم في اسرائيل. البروفسور سامي سموحة الذي اعتمد ابو حبله على دراساته بين ، كما جاء في مقال ابو حبله، ان 60% من اليهود يعتقدون انه يجب سحب حق الانتخاب من العرب و80% يقولون انه يجب على غير اليهودي ان يقسم يمين الولاء لطابع الدولة اليهودي الديمقراطي كشرط لحصوله على الجنسية. سامي سموحة استنتج في ابحاثه ما هو اهم مما اوردة الكاتب زياد ابو حبله، يقول سموحة " الخطر ان تواجه اسرائيل امكانية تنامي مجتمع في قلبها يتزايد تبرمه منها وتصادمه معها".
اوقفتني جملته التي تقول ان العرب في اسرائيل " غير ممثلين وليسوا شركاء في النخبة الاقتصادية ، السياسية والعسكرية في الدولة". افهم القصور السلطوي في شراكتنا الاقتصادية والسياسية، هل يدعو الى تجنيد العرب عسكريا ليكونوا شركاء في النخبة العسكرية؟!
منطلقات مقال زياد ابو حبله رغم اهمية الموضوع ، جانبها الصواب في رؤية جوهر واقع عرب اسرائيل. الأحزاب سقط دورها منذ فترة طويلة، الموضوع لا علاقة له بما طرحه ابو حبله، يتضح بقوة في الفترة الأخيرة، بان الانعزالية القومية والشعارتية المتطرفة قادت الأحزاب العربية الى التهميش الذاتي والعجز.
كان على الكاتب زياد ابو حبله ان يقوم برصد علمي موضوعي بعيدا عن الضجيج الانفعالي للأحزاب العربية المليء بالمضاربات والمنافسات الصبيانية. مثلا الجبهة وحزبها الشيوعي، يشكلان رسميا التيار الماركسي الشيوعي، بدأت بميل واضح في السنوات الأخيرة لأخذ مواقف قومية منافسة للتجمع الديمقراطي في ملعبه. التجمع الذي طرح في بداياته المساواة المدنية (على اساس حركة "ميثاق المساواة" التي طرحها د.عزمي بشارة في بداياته) انطلق بصياغات قومجية ودفاع مستميت في فترة ما عن نظام الأسد الديكتاتوري ، ثم انشق عنه بعد ان استقر زعيمه عزمي بشارة في قطر وقصور اميرها. مسألة اخرى هامة غابت عن تشخيصه لأيديولوجية الأحزاب هو ان صفة "حزب قومي" ، كما يطرح ذلك التجمع، هي صفة سلبية بالمفاهيم السياسية الدولية.ويمكن القول انها تهرب ايديولوجي من اقرار موقف حقيقي ، يسار او يمين، حزب اشتراكي ديمقراطي مثلا، او حزب برجوازي ديمقراطي . ان صفة حزب قومي هي ضباب قومي مريح للمواقف الانتهازية والانتقال من موقف الى موقف، من دعم سوريا الأسد الى التماثل مع موقف قطر ضد سوريا، مما يجعل اقامة كتلة "قومية – شيوعية" مستحيلة أيضا.
ما من يوم كان التمثيل العربي في الكنيست وفي النضال اليومي المتعدد الجوانب، معزولا باهتا ضعيفا ومهمشا وعاجزا كما هو اليوم. ليس فقط بسبب تفشي العنصرية في الحياة البرلمانية والسياسية في اسرائيل. بل ايضا بسبب غياب العقلانية السياسية والخطاب السياسي العربي القادر على التعامل مع الواقع السياسي، وهذا يزيد من عزلة الأحزاب وعزلة الجماهير العربية عن أحزابها وعن المشاركات النضالية التي تدعو لها هذه الأحزاب. ان ازمة الأحزاب العربية تبرز بقوة بنسبة المشاركة بالتصويت المنخفضة جدا في الوسط العربي (53%)، وهذا رد فعل تلقائي على حالة اليأس والامتعاض من الأحزاب العربية.والمبكي ان ثلث الأصوات ذهبت للأحزاب الصهيونية!! فهل يريد السيد زياد ابو حبله ان نعطيهم ثلثين او اكثر حى نحقق اقتراحه ان نكون جزءا من الأحزاب الصهيونية لنناضل من داخلها من اجل حقوقنا؟!!
الا تكفينا التجربة الدرزية ، حيث تحصل الأحزاب الصهيونية على ما يفوق 80% من الأصوات، والشباب الدروز تُفرض عليهم الخدمة العسكرية، ولكنهم بالحقوق عربا مميز ضدهم مثل سائر المواطنين العرب؟ وهل هم بالنخبة السياسية، الاقتصادية والعسكرية لاسرائيل؟ أي النخبة التي تقرر في سياسات الدولة ، وخاصة قرار الحرب والسلام ؟
ان ازمة الأحزاب العربية اعمق من مجرد خلافاتها الداخلية ، فهي عاجزة عن الإلتصاق بشعبها وهمومه القومية والمطلبية اليومية. عاجزة عن صياغة استراتيجيا (برنامج) يناسب واقعنا كاقلية قومية في قلب الواقع الاسرائيلي ، هذا يقود الى صياغات ايديولوجية مشوهة ، نخبوية، مزيفة وكاذبة.
الانضمام للأحزاب الصهيونية سيحولنا الى مرتزقة، ايديولوجيتها لا تمثلنا، حتى لو كانت من اليسار الصهيوني العقلاني الذي يمكن المشاركة معه في نضال متعدد حول العدالة الاجتماعية وحماية الديمقراطية والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني ومن اجل وقف الاستيطان وانهاء الاحتلال ومواجهة العنصرية، ولكن العضوية تعني التماثل مع الأيديولوجيا الصهيونية التي على اساسها قامت اسرائيل وشردت شعبنا الفلسطيني وهدمت قراه وصادرت اراضية. هل سينشد العربي النشيد الصهيوني لدولة اسرائيل بصفته عضوا في حزب صهيوني ؟
تعالوا نقرا مقطع منه:
"طالما في القلب تكمن \ نفس يهودية تتوق \ وللأمام نحو الشرق \ عين تنظر إلى صهيون.\ أملنا لم يضع بعد \ أمل عمره ألفا سنة \ أن نكون أمّة حرّة في بلادنا \ بلاد صهيون وأورشليم القدس".
هل يناسب هذ النشيد العربي الفلسطيني رغم انه مواطن في اسرائيل؟ قاضي المحكمة العليا العربي سليم جبران وقف صامتا حين انشد الآخرون هذا النشيد؟ اعضاء الكنيست العرب يصمتون ولا يشاركون في هذا النشيد رغم انهم اقسموا يمين الولاء لدولة اسرائيل اليهودية الديمقراطية.
لست ضد النضال المشترك اليهودي العربي حول الكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية. ولكن عضوية العرب بحزب صهيوني تعني مسخ شخصيتهم الانسانية. ربما تكون الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة ( تنظيم جبهوي بقيادة الحزب الشيوعي صاحب التاريخ النضالي الطويل والحاسم في صمود العرب في اسرائيل) بصيغته العربية اليهودية انسب الأحزاب اذا استطاعت قياداته ان تتجاوز ازمتها الفكرية والتنظيمية.
ان الاجحاف بحق مواطني اسرائيل العرب الفلسطينيين والتمييز ضدهم من قبل المؤسسة السياسية الاسرائلية ليسا وليدي الصدفة، بل نتيجة سياسات مخططة ولن يتغير الأمر بالانضمام لأحزاب صهيونية بل بتغيير جوهري عميق يشمل اعادة النظر في الغايات العليا التي توجه سياسة المؤسسة الحاكمة حيال السكان العرب وملاءمة التفكير والتخطيط في كل المستويات، ولا يبدو ان المؤسسة الصهيونية جاهزة لمثل هذه النقلة.
استنتاج زياد ابو حبله النهائي اقامة جمهورية فيدرالية شبيه بالنموذج الأمريكي، يشمل اسرائيل وفلسطين – اسراطين ( يذكرنا بالقذافي) ، تشكل حلا لارادة الاستقلال للشعب الفلسطيني ، وحلا للهوية المجزأة والضائعة للأقلية العربية في اسرائيل، والمواطنين العرب واليهود يحظوا بحقوق متساوية، وخدمة في جيش فيدرالي واحد وينشدوا نفس النشيد ويتحدوا تحت علم واحد ودولتهم تكون دولة عظمى في المنطقة.
هل من شعب يقبل ان يفرض عليه نظام فيدرالي تحت حراب الاحتلال والاستيطان؟
الموضوع اكثر تعقيدا وخطورة من النوايا الطيبة!!