ما العمل.. والدماء تتكلم؟؟
عقاب يحيى
يسهل إلقاء اللوم والمسؤولية على هذه الجهة المقصرة، او تلك التي لم تقم بواجبها . على حال المعارضة وضعفها وتشتتها . على الخلاف في الرؤى السياسية والمراهنات . على ضعف خط التوحيد بين قوى الثورة بعد عام ونصف ويزيد، وموقع الجيش الحر من كل ذلك، وحقيقة وجوده إطاراً وتخطيطاً، وجملة الأخطاء والتداخلات في الثورة، أو تلك الراكبة عليها، وكثير مما تقذف به قلوب حانقة لم تعد تتحمل هذا الذي يجري من فجور الحقد، والمذابح المتصاعدة...
ـ نعم الثورة السورية كانت مفاجأة المفاجآت في اندلاعها وسيرورتها. في طبيعتها وتطوراتها . في واقعها واستقطاباتها، وفي أعدائها، والساكتين على نهر الدماء دون أن يرفّ لهم جفن إنساني .
ـ اكبر مفاجأة للثورة أنها لم تكن نتاج قرار لقوى المعارضة، ولا ضمن توقعاتها، فكشفت، من جهة، عمق الأزمة، والهزال، والهلهلة، والتشتت في قوى المعارضة، وطرجت إشكالية القيادة فيها من جهة ثانية، وفتحت المجال لكثير التداخلات المنخرطة فيها والراكبة عليها من جهة ثالثة . المعارضة حاولت السير بأقصى وتيرة تقدر عليها، لكنها عاجزة بنيوياً ومتخلفة عن سرعة الثورة وهمة شبابها. لهثت وهي تتصور أنها تجري فتقطع حيل كثيرها . البعض توقف ليراهن على " الحلول السياسية" التي لا تكلفه الكثير فغطس في التنظير والتقمير، وخطوة للأمام بفعل الضغط، وعشرة للوراء بعامل التركيبة والهزال، والبعض ركب على الشعارات الشعبوية عله يسبق ركب الحداء بمزيد من شعارات الصراخ، بما فيها رفع يافطات طلب التدخل العسكري الخارجي بشكل ساذج، وغوغائي.. يثقبه واقع معروف للجميع أن التدخل ليس أمانياً، ولا ينتظر من يطالب، أو يتمرجح، أو يستغيث به، وإنما هو نتاج قرار الدول الكبرى بناء على حساباتها ومصالحها ومشاريعها، وأن التدخل العسكري، بحدّ ذاته، ليس مزحة، أو مشواراً وينتهي.. إنه حالة كاملة بكل محتويات التدخل ونتائجه الراهنة والبعيدة ..
ـ شباب الثورة، وعبر القنص، والتصفية، والاعتقال، والتعددية، وانهمار الذات السورية على العمل السياسي بإيجابها وسلبها. بحيوتها ومظهريتها. بعطاءاتها الكبيرة وتزاحم الشخوص والمناصب وتعدد المسارح والمسرحيات والممثلين والمخرجين والديكورات.. لم يستطيعوا بلورة قيادات موحدة تجبر الجميع على السير في ركاب برنامج الثورة وتكتيكاتها، فكثرت التنسيقيات، والهيئات، والكتائب والمسلحين، والاتجاهات.. وكلّ يرمي المسؤولية على آخر، وكلٌ يرفع شعارات التوحيد وضرورته.. بينما يفرّخ الواقع المزيد من الكتائب والمسلحين والأسماء والهيئات.. وحين اضطروا اللجوء إلى " الكبار" لتشكيل ممثل سياسي للثورة.. ولد المجلس الوطني مأزوماً يعاني شبكة أمراض الواقع السوري.. فاختلط الحابل بالنابل.. بين مدّ وجزر أسرع من تأثير حركة القمر في المحيط ..
ـ مؤتمر المعارضة في القاهرة الذي يعتبر محطة مهمة لأنه جمع، لأول مرة، أكبر طيف واسع للمعارضة، وأنجز وثيقتين مهمتين : العهد الوطني، والمرحلة الانتقالية باتفاق عام عليهما، لم يستطع التوصل ولو إلى لجنة متابعة لتلك الوثائق، ولوضع شعار وحدة العمل في سياق الترجمة، وسرعان ما تنصلت منه هيئات وشخصيات راحت ترغي وتنظر بالتجويف، وطرح المبادرات اللاغية لأس ذلك التوافق، وعودة الرهان عند عشاق الرهانات الخاسرة، بينما يبدو المجلس الوطني غير مقتنع بفكرة التوحيد، ويرى فيها نسفاً، أو تحجيماً له، أو مؤامرة عليه.. وفي حين تجري محاولات لإحياء فكرة اللجنة وعقدها لقاءات في القاهرة، وانضواء المجلس الوطني فيها، ثم عدم مشاركته، فإن لوحة الوضع الدولي وتأثيراته القوية على العمل السوري برمته تُضعف جميع المحاولات المخلصة لوحدة عمل المعارضة، دون إغفال محاولات الاختراق والاستيعاب والقولبة وفقاً لرؤى دولية وعربية لا تخفي تفاصيل تصوراتها للوضع السوري وتطوراته، لذلك ما زالت المعارضة تترنح في الذكريات واللوات، ويحمل بعضها سيوفاَ خشبية، أو صدئة، بينما يستل البعض سيف أماني التدخل العسكري الخارجي وكأن مهمته تنحصر باستدعائه، و"بحث السبل العملية" لتأمينه !!!!...والبعض يفتش عن طريق لتشكيل حكومة انتقالية لم تنضج ظروفها، فتكثر التزاحمات والترشيحات ..
************
لكن، وعلى الرغم من مسؤولية المعارضة، جميعها، بالنتيجة، عن فشلها في وحدة رؤاها ومواقفها وعملها الحثيث لدعم الثورة، وآثار ذلك على الداخل بالأساس . ورغم أثر تشتت قوى الحراك الثوري، وعجزه عن الوصول لصيغ توحيدية، أو تنسيقية على الأقل، والفوضى المتداخلة في التسليح وتشكيل الكتائب، وتعدد الاتجاهات فيها، والحزبويات وأثرها، وحالة الجيش السوري الحر وما يعانيه، ومستوى الدعم المقدم له..فإن إشكالية الأزمة السورية لا تكمن هنا فقط . إنها نتاج الوضعين : الإقليمي والدولي أيضاً، وربما بشكل رئيس، ونتاج مواقف " المكونات" الدينية والمذهبية أيضا، خاصة الطائفة العلوية وموقعها من دعم طغمة الإجرام .
ـ ليس صحيحاً أبداً أن التلكؤ في تفصيح المواقف الدولية، أو الانتظار، او التخوف .. سببه وضع المعارضة وضعفها، وتشتتها.. إنها كذبة كبيرة لا تنطلي على أحد . إنه يكمن في أمور أخرى لا علاقة البتة للمعارضة فيها.. حيث البصمة الصهيونية وتأثيراتها على القرار الدولي، والحسابات الأمريكية المتناغمة مع تلك البصمة، والمتأثرة بها، والتي تدفع نحو مزيد من تدمير بلدنا، ومزيد من القتل والشروخات الاجتماعية العمودية، ومزيد من الأحقاد والمجازر المروعة.. إلى الدرجة التي ترضي حساباتهم، وحينها قد يفكرون بالتدخل على طريقتهم، وضمن أجندات تفصيلية موضوعة .
ـ الثورة السورية نبت داخلي بالأساس، تعتمد على نفسها إيماناً بالوطنية السورية الراسخة، وجوهر الحرية التي ترفض ارتهان القرار، وسيادة البلاد لأيّ كان من الدول المحيطة والعالمية، وأن هذا النهج يتكرس ويقوى بفعل محصلة التطورات، وتأكد الثوار أنهم وحدهم من يجب عليهم تحقيق الانتصار واشتلاع طغمة الإجرام مهما كانت التضحيات . وبالوقت نفسه فإن واقع" الأقليات" شبه الحيادي ـ عند أغلبيتها الساحقة ـ والداعم بشكل كبير للطغمة عند الطائفة العلوية يطرح كثير الأسئلة المشروعة عن الأسباب، والسقوف والفحوى، كما يولد اتجاهات وأفكاراً مذهبية مقابلة تصبّ، شاء أصحابها، أو بالنتيجة، في مطحنة مخططات الطغمة بجرّ الثورة نحو الحرب الأهلية العمودية.. وربما الذهاب حتى إقامة دويلة علوية.. إذا ما انحشرت، وتفجير الساحة اللبنانية على هذا الأساس، واستقدام المتطوعة من إيران والعراق وحزب الله لإشعالها حريقاً عاماً ..
ـ هذا المسار المفتوح على مزيد من الجرائم المبرمجة يقطع الطريق تماماً على كل حل سياسي، أو مبادرة مهما كان لونها، وطعمها، ومحتواها، ومن يقف خلفها . فالنظام اغتال عمليا، ومن أشهر طوال جميع مستويات الحلول السياسية، وأغلق الباب المحكم عليها جميعاً، ولم يبق سوى باب المعركة التي يعتبرها مصيرية : إما قاتل أو مقتول.. تحقيقاً لشعاراتهم المرفوعة : إما الأسد أو إحراق البلد، لهذا، والعالم يتفرج، والدماء أنهراً تجري، ومرشحة للمزيد.. فليس من خيار سوى المقاومة بكل أشكالها، والعمل على توحيد القوى ووضع كل الإمكانات في معركة إنقاذ شعبنا وبلدنا من الإبادة والدمار والتقطيع . المقاومة الطريق تستلزم مواقف مسؤولة من جميع الأطراف باتجاه التوحيد وليس البعثرة، وتغليب المصلحة العامة على الخاصة، وباتجاه التمسك بثوابت الثورة والوحدة الوطنية، والديمقراطية هدفاً ونظاماً، ودولة قادمة لجميع أبناء الوطن على قدم المساواة .
ـ نعم لا سبيل إلى الحل إلا بإنهاء الطغمة نهائياً.. وفتح الممر الوحيد إلى الحرية، وحبذا لو يسهم بذلك أصحاب القرار في الطائفة العلوية فيضعون أنفسهم في خندق الثورة، والوطن، ويوفرون عليهم، وعلى شعبنا مزيد الدماء، والمخاطر.. وهذا أمر آن أوانه رغم أنه تأخر كثيراً، وكان يجب أن يتم منذ الأشهر الأولى للثورة.. لأنه لا مصير، ولا مكان لهؤلاء إلا في رحاب الوحدة الوطنية.. والبلد الحر الموحد ..
ـ بقي أن نقول أن الشعب وقد وُضع أمام خيارين : الشهادة أو النصر، فإنه بالتأكيد قد اختار، وقرر المضي في طريقه مهما كانت التضحيات، ولا سبيل آخر .. ابداً.. وصولاً إلى تحطيم بنية الطغمة المجرمة واشتلاعها بكل ىثارها ورموزها وعناصرها القاتلة ..