جزر عربية ضائعة
جزر عربية ضائعة
كاظم فنجان الحمامي
أغلب الظن إننا أصبحنا اليوم في أمس الحاجة للتوسع في المفردات اللغوية المرتبطة بالأراضي العربية المحتلة, وفي أمس الحاجة لرفد قاموسنا السياسي باصطلاحات صريحة وواضحة, بحيث تكون قادرة على مواكبة مسيرة التخاذل والانبطاح أمام الغزاة والطغاة, خصوصا بعد أن استسلم أبطال التقهقر تماما لقوات الاحتلال, ففتحوا لها منافذهم الحدودية, ووضعوا مطاراتهم وموانئهم في خدمة القوى الشريرة, وأعانوا الأعداء وساندوهم, ووقفوا خلفهم, وصفقوا لهم, وتمسحوا بأذيالهم, حتى صارت عندنا اليوم عواصم عربية محتلة, وسواحل عربية محتلة, وموانئ عربية محتلة, وجزر عربية محتلة, ومضايق عربية غير مسيطر عليها, ولم يعد الحديث عن الاحتلال مقتصرا على فلسطين والقدس وغزة وحيفا ويافا والجليل وعكا ونابلس وطولكرم ورام الله وبيت لحم والناصرة, بل تجاوزناها إلى الحديث عن (سبتة ومليلة), التي أصبحت من الممتلكات الاسبانية الصرفة في الشواطئ العربية المغربية منذ عام 1580 وحتى يومنا هذا, ونسينا الحديث عن مرتفعات الجولان, ولم نتطرق للمضايق البحرية, التي فقدنا السيطرة عليها, ابتداء من مضيق جبل طارق, إلى مضيق باب المندب, إلى مضيق هرمز, مرورا بمضيق (تيران), وبات الحديث عن جزيرة (طنب الكبرى), و(طنب الصغرى), وجزيرة (أبو موسى) وجزيرة (قيس) منذ عام 1971 وحتى يومنا هذا مجرد فقاعة عابر يطلقها رجال السياسية كلما دعت الحاجة في مواسم سباقات اليخوت والزوارق الترفيهية السريعة, وحررت مصر سيناء من الغزاة فطردت الإسرائيليين بملابسهم الحربية, وسمحت لهم بالعودة ثانية إليها من غير ملابس (من غير هدوم), ثم تنازل العراق في الجزائر عن نصف شط العرب, وتنازل السودان في عوالم التقسيم والانفصال عن النيل الأبيض, ووقف ملوك الطوائف مع إسرائيل ضد الشعب اللبناني عندما انتفض وحده لاستعادة مزارع شبعا وجبل السماق, ووقفوا ثانية مع إسرائيل ضد لبنان نفسها عندما حاول اللبنانيون التنقيب عن الغاز في مياههم الإقليمية ضمن الواقع الجغرافي لحوض المشرق. .
في الوقت الذي جددت فيه إسرائيل أحلامها التوسعية للحصول على موطأ قدم في مضيق باب المندب باعترافها المبكر بدولة (أرض الصومال), المنفصلة عن الأراضي الصومالية, فسعت إلى الانضمام للجهود الدولية بذريعة مكافحة الإرهاب هناك, وباتت تُشبّه الصومال بأنها: أفغانستان البحر الأحمر, وإذا كانت إسرائيل تكشف عن أطماعها الآن بشكل خافت, فإن جذور أطماعها بالمنطقة تعود إلى عام 1960 من القرن الماضي, عندما تقدمت وقتها بعرض الاعتراف بأرض الصومال, لكنها لم تلق تجاوبا, فظلت منذ ذلك الحين تعبر في كل مناسبة عن خصوصية سكان أرض الصومال, وتسللت منذ مدة إلى هناك عن طريق المبادرات والبعثات (الإنسانية), والحقيقة إن الأطماع الإسرائيلية تجاه أرض الصومال, تهدف إلى السيطرة على مضيق باب المندب, الذي يعد البوابة الجنوبية للبحر الأحمر, بعد إن أحكمت سيطرتها على بوابته الشمالية الشرقية المتمثلة بمضيق تيران.
فعززت قواعدها هناك منذ اليوم الذي وجدت فيه الفرصة متاحة لها في ذلك المضيق, فسارعت لفرض سيطرتها على جزيرتين عربيتين يتيمتين حائرتين بين ثلاث دول عربية, بين مصر والأردن والسعودية, فلا مصر تدعي بعائديتها, ولا الأردن تريدها, ولا السعودية تطالب بها, ولا يرتفع فوق صواريها الآن أي علم عربي. .
من فيكم سمع بجزر عربية تائهة تبحث عن مالكها ؟, جزيرتان لا جزيرة واحدة, ترزحان الآن تحت السيطرة الإسرائيلية منذ عام 1967, الجزيرة الكبرى واسمها (تيران), وشقيقتها الصغرى (صنافير), تقعان على مسافة أربعة أميال بحرية فقط عن منتجعات شرم الشيخ المصرية, وعلى بعد بضعة أميال من رأس الشيخ حميد في الشمال الغربي من السعودية, في مضيق (تيران), الذي يفصل خليج العقبة عن البحر الأحمر. .
اما جزيرة صنافير فتقع على بعد ميلين من جزيرة تيران, وكانت هذه الجزر والشعب المرجانية المحيطة بها من المواقع البحرية السعودية الإستراتيجية, من حيث وقوعها عند مدخل خليج العقبة, في مضيق حرج (مضيق تيران), حيث يُختزل الممر الملاحي إلى ميل واحد بمحاذاة سواحل شبه جزيرة سيناء, ويمر بأربعة تجمعات للشعاب المرجانية, تبدأ من الجنوب بشعاب (Gordon), وتنتهي بشعاب (Jackson reef), مرورا بشعاب (Thomas reef), وشعاب (Woodhouse reef), ومن سخريات القدر ان هذه الشعاب ليس فيها من يحمل اسماً عربياً, فقد ترك الغربيون بصماتهم في زوايا المضيق, وغرسوا قواعدهم فوق قمم الجزر, ثم جاءت المنظمة البحرية العالمية لتوزع ممرات الفصل الملاحي بين السفن التجارية المتوجهة إلى العقبة, وبين السفن التجارية المغادرة نحو البحر, فرسمت مخططات الفصل إلى يمين ويسار الشعاب المرجانية, فنظمت الحركة الملاحية الآمنة في هذا المقطع الضيق, وأكدت عليها في الفصل الثامن / المجلد (64) من كتاب (المرشد Pilot Book) لحوض البحر الأحمر. .
طلبت مصر من السعودية عام 1949 السماح لها بالاستعانة بهاتين الجزيرتين لمنع السفن الإسرائيلية من المرور بمياه خليج العقبة, فمنحتها السعودية حرية التصرف بالجزيرتين, وفرضت مصر سيادتها بالقوة على المضيق, وتحكمت بممراته الملاحية, لكنها خففت الضغط قليلا على ممرات المضيق بعد تعرضها لغارات العدوان الثلاثي الغاشم عام 1956, فتدخلت قوات الطوارئ الدولية وسمحت للسفن الإسرائيلية بالتحرك عبر الممرات الملاحية الضيقة, ثم توسعت الأنشطة الملاحية الإسرائيلية تدريجيا في المنطقة بعد حرب الأيام الستة عام 1967, ثم جاءت معاهدة كامب ديفيد عام 1978 لتمنح السفن الإسرائيلية حرية الملاحة المطلقة في خليج العقبة ومضيق تيران, فتمركزت قوات الأمم المتحدة في شرم الشيخ للإشراف على تحركات السفن التجارية في المضيق, وجهزت نفسها بمنظومات للمراقبة الملاحية الالكترونية, مدعومة برادارات ساحلية مثبتة على الضفة المصرية من ساحل سيناء, بنحو ميلين شمالي (رأس نصراني), لها القدرة على بسط سيطرتها الملاحية الالكترونية على نطاق واسع, يمتد إلى (15) ميل بحري صوب الشمال, و(15) ميل بحري صوب الجنوب, وبإمكان السفن التجارية العابرة لمضيق تيران مشاهدة زوارق الدورية الإسرائيلية وهي تجوب المنطقة جيئة وذهابا. .
الآن, وفي نهاية هذا العرض المختزل, إلا يحق لنا أن نتساءل عن مصير هذه الجزر العربية المغتصبة, أين هي الآن وما هو مصيرها ؟؟, ولمن سُجلت عائديتها ؟, ومن المسؤول عن ضياعها ؟, وما مدى صحة الهيمنة الإسرائيلية في مضيق تيران وتأثيرها على حرية الملاحة في خليج العقبة ؟, وهل أصبحت الجزر المفقودة ضمن الأراضي المصرية المحتلة في ضوء أحكام وبنود معاهدة كامب ديفيد ؟, أم إنها مازالت مسجلة ضمن الممتلكات السعودية الضائعة ؟, أم إن تبعيتها آلت إلى المملكة الأردنية, التي لا تبعد عنها سوى بضعة أميال ؟, أم استحوذت عليها إسرائيل إلى الأبد مثلما استحوذت على المرتفعات الجبلية في الجولان المنسية ؟, أم إنها مازالت تحت سيطرة الأمم المتحدة ؟, أم فقدت هويتها في مهب رياح الخماسين؟. . . .