لا "عثمانية" ولا "صفوية"

لا "عثمانية" ولا "صفوية"

ياسر الزعاترة

في سياق تعليقها على الموقف التركي من الثورة السورية، ذهبت صحيفة الوطن السورية قبل أسابيع إلى أنه نابع من أحلام "العثمانية" التي تراود القادة الأتراك في حزب العدالة والتنمية الحاكم.

لا حاجة هنا للتذكير بالموقف الرسمي السوري من تركيا "العدالة والتنمية" في السنوات القليلة التي سبقت الانتفاضة الشعبية، حيث تطورت العلاقة بين البلدين بشكل متسارع على مختلف الأصعدة، لا سيما التجارية والاقتصادية، رغم استمرار العلاقة الحميمة بين دمشق وطهران.

وقد رأينا كيف أنهت "الدراما" السورية إثر ذلك حقبة طويلة من التشنيع على الحكم العثماني للبلاد العربية، وتحديدا سوريا، فيما ذهب نظام حسني مبارك إلى تغيير توصيف الحقبة العثمانية في المناهج المدرسية إلى الاستعمار العثماني، ردا على تلك العلاقة وعموم الانحياز التركي لبعض قضايا الأمة وفي مقدمتها فلسطين.

في بداية الثورة السورية ترددت حكومة العدالة والتنمية طويلا قبل حسم موقفها، فقد ألقت العلاقة الحميمة بين البلدين في السنوات السابقة بظلالها على الموقف، وربما لم يعتقد الأتراك أن الشعب السوري سيصر على ثورته ذلك الإصرار العجيب، فضلا عن أملهم باستيعاب الموقف من خلال إصلاحات يجريها بشار الأسد.

وفي هذا السياق قدمت الدبلوماسية التركية سيلا من النصائح لبشار الأسد، وكان في كل مرة يغدق على رموزها الوعود، لكن النتيجة دائما كانت أقرب إلى الصفر من الناحية العملية، حيث يتواصل الإصرار على الحل الأمني مع تلكؤ في سلوك سبيل الإصلاح الحقيقي القادر على تهدئة غضب الجماهير.

وتحت وطأة الرأي العام العربي والإسلامي وشعورها بصعوبة صمود النظام مع تجاهله لدعوات الإصلاح الجدي، اضطرت حكومة العدالة والتنمية إلى تعديل موقفها بالتدريج وصولا إلى حسم تأييدها للثورة، بل تبنيها بشكل كامل خلال الشهور الماضية. مع ضرورة التذكير بأن مسألة السلاح ما زالت خاضعة لشروط دولية، أعني مستوى التسليح الذي لم يصل بعد إلى ما هو مطلوب من طرف الثوار لكي يكونوا قادرين على حسم الثورة في وقت أسرع.

وفي سياق من الدعم الاستثنائي الإيراني لنظام بشار الأسد، عادت الثنائية التاريخية بين الحكم العثماني والصفوي إلى ساحة الجدل من جديد، رغم أن ظاهر العلاقة بين أنقرة وطهران لم يغادر مربع الود الذي تدعمه العلاقة الاقتصادية بين البلدين، وتستفيد منها تركيا أكثر من إيران، في ظل اضطرار الأخيرة لإبقاء نافذة مفتوحة لها بسبب العقوبات الدولية التي توالت فصولا خلال العامين الماضيين بسبب المشروع النووي الإيراني وإصرار طهران على المضي في برنامج التخصيب.

ما تنبغي الإشارة إليه في ظل هذه الجدلية (العثمانية والصفوية) هو أن الصعود الإيراني التركي في المنطقة جاء في ظل غياب عربي شبه كامل عن الساحة الإقليمية لم يسبق له مثيل منذ عقود طويلة.

ذلك أن المحور العربي بقيادة مصر كان قد تراجع تراجعا مزريا في الألفية الجديدة، وصارت المنطقة في جزء منها حكرا على التمدد الإيراني، إلى جانب حضور تركي شكل عنصر توازن لا بأس به خلال الأعوام الأخيرة.

يحدث ذلك دون أن يتبدى تناقض واضح بين المحورين في ظل حاجة بعضهما لبعض، لا سيما بعد أن يئست حكومة العدالة والتنمية من الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، وهو ما دفعها نحو علاقات متطورة مع الإقليم وضمنه العرب ضمن سياسة "صفر مشاكل" التي ابتكرها وزير الخارجية أحمد داود أوغلو.

هكذا بدت المنطقة في السنوات الأخيرة كأنها تعيش ثنائية إيرانية تركية لا تبدو متناقضة في الظاهر، وإن تنافست بوضوح على القوة والنفوذ والمصالح، مع غياب عربي واضح، الأمر الذي يشير إلى خلل لم يكن له أن يستمر طويلا، وها هي التطورات الأخيرة المتعلقة بالربيع العربي تشير إلى مسيرة تصحيح لهذه المعادلة الخاطئة.

اليوم يتلمس العرب طريقهم نحو الحرية والوحدة والنهوض بقيادة مصرية، وإذا ما استمرت المسيرة بشكل جيد رغم عقباتها الكأداء بسبب استهدافها من قبل المحاور الدولية جميعا ودون استثناء، فإن العرب لن يقبلوا أن تستمر الثنائية التركية الإيرانية في المنطقة دون حضورهم محورا ثالثا له اعتباره وقوته ومصالحه التي تتفوق على المحورين كل على انفراد.

من اللافت في هذا السياق أن تركيا كانت أذكى بكثير من إيران، فقد تلبس الأخيرة غرور القوة على نحو دفعها إلى تجاهل الوضع العربي والإسلامي المحيط، بدءا بالسيطرة على العراق الذي حل ثمرة ناضجة في حجرها بعد فشل مشروع الغزو الأميركي وسيطرة حلفائها على الساحة السياسية

بل إن محاولة تركيا والعرب إحداث بعض التوازن للساحة في الانتخابات الماضية من خلال القائمة العراقية قد انتهت إلى فشل ذريع. وفي لبنان أيضا سيطر حزب الله وحلفاؤه على الساحة وهمَّشوا السنة إلى حد كبير بعد توجيه إهانة شديدة لهم باجتياح بيروت خلال ساعات في مايو/أيار 2008

أما الأسوأ من ذلك كله فتمثل في الانحياز الحاسم للنظام السوري. أما تركيا فلم تغادر عمليا، أقله في الظاهر إلى الآن، مربع التعاون مع المحيط العربي إلى روحية الهيمنة والتمدد رغم تصاعد حضورها في المنطقة، خاصة فيما يتصل بالقضية الفلسطينية.

وفي ظل الحشد المذهبي الذي اجتاح المنطقة بدت تركيا أقرب إلى الضمير العربي والإسلامي (السني) من إيران، لكن أية ممارسات تركية تشي بروحية الهيمنة لن تكون مقبولة أيضا، وسيرد عليها الوضع العربي بشكل قوي بعد خروجه من عنق الزجاجة، وتمدد الربيع العربي نحو سائر الدول وصولا إلى حكومات أكثر تعبيرا عن ضمير شعوبها. والأمل بالطبع ألا يتورط قادة العدالة والتنمية في مشاريع تتجاوز حدود التعاون الأخوي.

إن التطور المأمول في الوضع العربي لن يضع حدا لأي أحلام خارج السياق الطبيعي لإيران وتركيا فحسب، بل سيضع حدا لتبعية القرار العربي الرسمي للقوى الدولية أيضا، ما يشير إلى مستقبل أفضل لهذه الأمة.

وفي حين كتبت إيران على نفسها العزلة التي ستزداد وضوحا بعد سقوط الأسد، فإن ذلك لن يكون نهاية المطاف، إذ ربما أعادها الوضع الجديد إلى روح التوازن والقبول بعلاقات جوار أفضل مع المحور العربي والتركي في آن.

خلاصة القول أن المنطقة بعد الربيع العربي لن تكون هي نفسها قبله، فثمت تطورات ستفرض نفسها بمرور الوقت وصولا إلى مشهد إقليمي أكثر توازنا يكون فيه للعرب دورهم وحضورهم الذي يفرض نفسه على الجوار الإقليمي وعلى المشهد الدولي في آن، في حين قد يفضي إلى علاقات جوار تصب في خدمة شعوب المنطقة التي تملك رصيدا من القواسم المشتركة في مواجهة مشروع غربي صهيوني لا يريد هذه الأمة إلا تابعة ذليلة (سوقا للاستهلاك ومصدرا للمواد الخام الرخيصة مع حفاظ على أمن الكيان الصهيوني وتقبل لحضوره القوي في المنطقة).