مسؤوليتنا ..أولاً...
مسؤوليتنا ..أولاً...
عقاب يحيى
تثير الحالة الليبية بالخصوص، وإلى جانبها ما يجري في اليمن وله.. استغراب الحلم، فتنبت أسئلة يعمل على توظيفها، واستثمارها أعداء الثورة والتغيير.. وقد أسهمت تلك الوضعية، ومعها ما يجري في الساحة السورية في إعاقة، وانكفاء انفجار ثورات التغيير في عدد من البلدان المُرشحة لذلك.. والربيع العربي بدأ موجة كاسحة، وسبيلاً للتغيير وتكريس عصر الانتتقال للحرية..
وكان يسيراً على المتضررين من الثورات إلصاق ما يجري بالمؤامرة الخارجية، وتفصيص الحكايا والتصريحات القديمة ـ الجديدة عن الفوضى الخلاقة، والفوضى السبّاقة، وعن مشاريع التفتيت، وإقحام الصراع الطائفي، والإثني سيفاً لقطع رقاب الكيانات القائمة والوحدة الوطنية للمجتمعات العربية.. الهشّة أصلاً، والتي أمعن الاستبداد المكين في تخلفها، وإعادتها قرونا للوراء، وفي إشعال فتائل الصراع داخلها ..
ـ معظم الاتجاهات القومية المعلبة في تنك المعهود انفرجت أساريرها لما حدث في بلدان الربيع العربي .. فوجدت في المؤامرة الكونية : الأمريكية الصهيونية على وجه التخصيص، والغربية عموماً تبريراً لمواقفها المتكلسة فراحت تغزل القصص وترتشف من الوقائع فيضاً لاصطفافاتها في خنادق المستبدين ونظمهم الفاحشة، وتملأ وسائل الإعلام بتفاسير الحكايا، وانواع القصص البوليسية، و"بكتشافات" قمرية ومرّيخية للذي يجري.. ثم تبدأ القهقهة ...
ـ الحواضن الشعبية، وقطاعات هامة من المجتمعات العربية التي انفرجت أساريرها لانفجار خزين الصمت، والركود والاستنقاع.. وبدء عصر الشعوب.. عرفت تراجعات مهمة نتيجة ما واجهته تلك الثورات من تعقيدات، أو حصيلة الصراعات البينية لأطرافها التي كانت في خندق واحد.. أو من خلال النكوص، عدا عمّا تشكله الماساة السورية من قابلية نهمة على إبداء التحسّر والندم على الذي كان.. توطئة لمواقف الانحسار.. والحيادية، أو العداء، وإطلاق الحكام..
ـ في التنظير المنطقي للذي يجري.. نجد الأجوبة الواقعية والصحيحة عندما نعي طبيعة البنى السائدة، المتعضدية بفعل قرون الاستبداد، وفعل نظم النهب، والتدليس، والأحادية،واغتيال الحقوق والأحلام، والوطن، ووحدته، ومستقبله.. لأن عمليات التغيير أمام مثقلات إرث كبير لا يمكن أن تعبر طريقاً سالكة، وسهلة، وبيسر، وخلال زمن قصير . هنا تتزاحم قوى التركة، والنظام" القديم" الذي لم يتخلخل، والذي يقبض على الإدارة، والقرار، والذهن السائد . وهنا أيضاَ تتصارع منتوجات عقود الاستبداد كأفراخ شرعية له، حتى من اصطف في الثورة، وبرز قيادياً فيها، ناهيك عن قصة حمل السلاح ومفاعيلها في الفرد، والذهن، وموازين القوى، وضعف القوى المعارضة جميعها..تلك التقليدية التي عانت التهميش والهامشية، والسرّية، والملاحقة، والانقطاع القسري بين الأجيال، والتحنيط الأغلب في خطابها، وذهنيتها، وتلوث المعارضات الجديدة بأمراض وأوبئة مزروعات ومخلفات نظم الاستبداد والإخصاء فيها، وفي مفاهيمها، وسلوكها.. ناهيكم عن مفاعيل اتنفجار الخزين بتلك الطريقة الزلزالية وما تخلفه من تشظي، وتناثر، ومن محاولة إعادة إنتاج الاستبداد بصيغ أخرى...
ـ وإذا كانت الحالة السورية خاصة، ومتميزة عن الذي جرى في مصر، واليمن، وليبيا باعتبار أن الصراع لم يحسم بعد، والثورة السلمية، الشعبية، الحضارية تمّ قسرها عبر نهج القتل والتصفية وسياسة التدمير الشامل، والإبادة المعممة.. وما أفرزه ذلك القسر من تحولات ابتعدت عن البدايات، وسمحت لكل أنواع التشوّه، والانحراف، والتشدد، والغلو، والاستئثار أن تحتل الواجهة، وأن تغطي على المسار الحقيقي، والهدف الغاية، والمبرر، وسرّ الصمود، والاستمرار، والتضحيات الجسام، وكردّ فعل عنيف على مستوى الإجرام الذي يمارس بحق الشعب وثواره، والبلد وبنيته القاعدية، وإرثه، وحضارته، وتراثه، وآثاره، ووحدته الوطنية، ونائج الاستنجاد بالطائفية وتعميمها : قاسماً وشقّاً، وحرفاً، ومحاولات إغراق، وإيران شبه المحتلة لبلادنا، والمليشيات الطائفية المدججة بالأحقاد وآثار دجلها على مسار الثورة، ونمو الاتجاهات الإسلامية بشتى أطروحاتها، ومشاربها، ومشاريعها المعلنة المناقضة لجوهر الثورة، وأهدافها.. وما أفسحه نظام الإجرام بفعله ىالمدروس ذاك من تدخّل واسع وعلني لكل القوى الإقليمية، والدولية .. ومشاريعها، واستراتيجياتها .....
إذا كانت الحالة السورية نتاج الفعل المباشر لنظام الجريمة والفئوية، وتشابك ذلك مع خليط المصالح الخارجية التي لم تحسم أمرها، وتضع ثقلها لإيجاد مخرج ما..بإنهاء النظام، أو بفرض حل سياسي عليه يستجيب لمطامح الشعب السوري وحقوق الإنسان.. فإن الحالتين : اليمنية والليبية تثيران اللبس ، وتثقلان اللوحة الخارجية للذي جرى ويجري.. بكل الآثار السلبية التي تنتج عمّا يحدث في البلدين .
ـ ولئن كانت الحالة اليمنية تستلزم بحثاً خاصاً لتراكب مفاعلات الانفجار فيها، ولموقع وتأثير الدور الإيراني في الدفع، والدعم، والانفجار الراهن.. فإن الوضع الليبي الاحترابي، التدميري يثير شهية خصوم التغيير، ويزوّدهم بكثير المعطيات الواقعية لإطلاق سمومهم، وتعميم افكار المؤامرة على الوطن، وحالات الندم على الذي كان...
فليبيا، وبدعم خارجي ساحق أنهت نظام القذافي بتلك الطريقة، وافترض الجميع بدء مرحلة التأسيس لدولة الحرية والتعددية من قبل مجاميع الأطراف التي ساهمت في الثورة.. لكن الذي حدث شيء آخر.. حين انفلتت البنى الداخلية المتخلفة من كل عقال، وتجاوزت حدود المصلحة الوطنية الجامعة لإعلان الحرب المفتوحة : التدميرية، الاستنزافية.. وهي تحمل في بطنها جميع مخلفات القرون، وتستنجد بالأكثر تخلفاً، وهي تحيي أفكار التقسيم، والدكاكينية.. وهي تدمر ليبيا وثرواتها..
ـ لا يمكن هنا، ورغم معرفتنا بحجم التدخل الإقليمي والخارجي بالشأن ىالليبي، وتوازعه في الخندقين دعماً لكل طرف متناحر، أن نعيد الأسباب إلى ذلك التدخل وحسب، بل وأساساً قبل أن نحمّل المسؤولية كاملة، وبشكل رئيس للقوى الليبية المتصارعة، والتي تكشف هشاشة إيمانها بالتعددية، والديمقراطية والاختلاف، والدولة الموحدة التي تتناغم فيها الأطياف جميعها بحقوق على قدم المساواة .
ـ إن المصالح الخاصة، وذهنية الاستحواز والتحكم، واستئصال الآخر المختلف.. وقوة بنى التخلف هي العامل الأساس في هذا الصراع العبثي الذي تتخطى سلبياته ليبيا إلى عموم الشارع العربي، وبما يفتح كل الأبواب على حذر وتخوف وتشكك الحواضن الشعبية من الثورات، ناهيكم عما وفّره ذلك من اسلحة لقوى ونظم الاستبداد في علو أصواتها، ورسوخ أوضاعها .
إن ألف باء الديمقراطية الاعتراف بالآخر المختلف عنّا، والإقرار بحقوقه الكاملة في التعبير، والاختلاف والمنافسة، والحكم..بعيداً عن كل الأكاذيب الشعارية، وبما يعارض الذهن الاستحوازي أيّاً تكون الستائر التي يتلطّى خلفها : جينية كانت، أو قومية، أم ثورية، أو قبلية ..
ـ والحق هنا يجب أن يقال بأن أطروحات بعض الاتجاهات الإسلامية المسلحة في الثورة السورية وهي تنطلق من خلفية إديولوجية تريد فرضها على الآخر المختلف، وهي تطرح شكلاً للدولة القادمة : إمارة، أو خلافة، أو حكماً خاصاً مفروضاً دون العودة إلى قرار شعبي، وإلى خيار مفتوح في انتخابات تقرر مصير الأفكار، والاتجاهات والأحزاب..إنما أساءت كثيراً إلى الثورة، وأفقدتها زخمها الجمعي، وكثير من حواضنها الشعبية التي وقفت معها، بما يتجاوز حكاية " الأقليات الدينية" وتخوفاتها..إلى " السنة" الذين يعترض كثير منهم على فرض أي شكل مسبق، وعلى تجاوز الإرادة الشعبية للقسر بقوة السلاح، والميدان ..ناهيكم عن ىثار هذه الحالة على الكتلة الصامتة، وعلى العجر في إحداث اختراقات مهمة داخل الصفوف المحسوبة على النظام ..
ـ إن تكريس التعددية منهجاً، وخطاباً، وبرنامجاً، وإيماناً لا يقبل التلوين، والإخضاع.. هو السبيل للحفاظ على صفوف الثوار، ووحدة البلاد، وإن الإيمان بالشعب مرجعية وحيدة يجنبنا المخاوف الحقيقية والمبالغ فيها، ويعيد قطار الثورة إلى سكته الطبيعية ..