زكاة الأراضي وأسعارها الجنونية ..
زكاة الأراضي وأسعارها الجنونية ..
من يستمع لنداء الشرع؟!
ياسر الزعاترة
بعد خمسة أشهر سيدخل نظام زكاة الأراضي في المملكة العربية السعودية حيز التنفيذ بعد مناشدات ودعوات من أهل العلم والفكر ممن تابعوا جنون ارتفاع الأسعار إثر تحول الأراضي إلى مادة مفضلة للتجارة، بخاصة إثر الضربة التي تعرضت لها تجارة الأسهم.
بحسب ذلك القانون سيجري تحويل الزكاة المقتطعة سنويا لوزارة الإسكان والمشاريع الإسكانية التي ينتظرها قطاع كبير من ذوي الدخل المحدود في المملكة، والذين تزيد نسبتهم عن نصف السكان بحسب بعض الإحصاءات.
مشكلة القانون الجديد بحسب بعض الخبراء لا تكمن في استثناء الأرض المعدة للبناء والسكن (هي غير خاضعة للزكاة بحسب إجماع العلماء)، ولكن في تجاوزه الرقم المنطقي لذلك، إذ مُنح الشخص حق امتلاك خمسة آلاف متر مربع، وألف متر مربع لكل فرد من أفراد عائلته، الأمر الذي يفسح المجال لتهرب كثيرين من المستحق عليهم دون وجه حق.
ما ينبغي أن يقال ابتداءً هو إن تحول الأراضي من سلعة تقتنى للحاجة إلى شكل من أشكال الادخار والاستثمار خلال العقود الماضية كان سببا مباشرا لذلك الارتفاع المذهل لأسعارها على نحو جعل نسبة كبيرة من المواطنين في الكثير من الدول، وفي مقدمتها الدول العربية مجرد مستأجرين ترهقهم بدلات الإيجار، أو إلى مالكين ترهقهم أقساط الشقق أو البيوت التي اشتروها، بينما أثري من تلك التجارة قطاع من الناس على نحو رهيب.
إنها ذات لعبة الأسهم التي بدل أن تكون مساهمة من شخص في شركة أو مصنع ينتظر عائدها السنوي، أصبحت مجرد أوراق تباع ضمن لعبة قمار واضحة، الأمر الذي أفضى في نهاية المطاف إلى انفجار الفقاعة، من دون أن تتوفر ضمانات لعودتها من جديد كما حدث غير مرة.
والحال أنه بعيدا عن الفتاوى الشاذة التي يتبناها قطاع عريض من الأثرياء المتدينين (غير المتدينين لا ينتظرون فتاوى أصلا)، فإن الأرض غير المعدة للسكن ولا للزراعة هي سلعة تجب فيها الزكاة بشكل سنوي بقيمة السوق عند حلول الحول بحسب التعبير الشرعي، وأي كلام غير هذا ينطوي على تشويه لدين الله الذي لا يمكن أن يوجب الزكاة على من يملك ثلاثة آلاف دينار (بحسب سعر الذهب لما قيمته 85 غراما)، بينما يعفى منها من يملكون عشرات ومئات الآلاف، وأحيانا الملايين المستثمرة في الأراضي أو كنوع من الادخار في انتظار ارتفاع الأسعار من أجل البيع.
هذا هو الموقف الذي تجمع عليه الغالبية الساحقة من أهل العلم، لاسيما الذين يجمعون بين العلم الشرعي الواعي، وبين فقه الواقع القائم وتحولات الأوضاع الاقتصادية، مع أن الأمر لا يحتاج إلى فقه للواقع تبعا لوضوح القضية من حيث أن الأرض هي نوع من المال وعروض التجارة التي تجب فيها الزكاة دون كثير جدال.
حين تفرض الزكاة على الأراضي المعروضة للبيع بشكل سنوي، فإن الوضع الطبيعي هو انخفاض أسعارها، الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض أسعار الشقق والبيوت بالضرورة، لأن من سيدفع اثنين ونصف سنويا على الأرض لن يتركها في الغالب وسيضطر إلى بيعها، اللهم إلا إذا تأكد من ارتفاع أسعارها بنسبة تفوق ما سيدفعه سنويا.
تخيلوا نتائج هذه العملية، إذ أنها تتجاوز الفائدة التي سيجنيها الفقراء من عوائد الزكاة المقتطعة، إلى انخفاض أسعار الأراضي على نحو يتيح لقطاع واسع من الناس امتلاك بيوت أو شقق، مع التذكير بأن جوهر فكرة الزكاة في الإسلام (إضافة إلى التزكية النفسية والروحية) هو دفع المال إلى السوق في سياق الاستثمار وتوفير فرص العمل.
طبعا هناك مشكلة في الدول التي لا تطبق نظام الزكاة، وقد يستبدل الأمر بنظام ضريبي، الأمر الذي يبدو إشكاليا في دول لا يثق الناس في الوجوه التي تصرف من خلالها الأموال، لكن الأكثر إثارة للحزن هو شيوع لعبة التهرب من زكاة الأراضي في أوساط قطاع من المتدينين، الأمر الذي يبدو مثيرا للسخرية في واقع الحال، لأنهم يتعاملون مع ربهم العليم الحكيم، وليس مع دوائر الضريبة.
في الرؤية الإسلامية لحركة الاقتصاد الكثير من الخير الذي ينبغي الالتفات إليه وتفعيله، بدل الركض خلف الرؤية الرأسمالية المتوحشة، تلك التي تركز على مصالح الأثرياء لحساب الفقراء، وقد سمعنا قبل أيام كيف أن أموال الطبقة الأولى من الأثرياء في بريطانيا قد زادت في العام 2011 في وقت تعيش فيه الغالبية الساحقة وضعا صعبا بسبب الركود، في حين يدرك العقلاء أن ما يعانيه العالم منذ العام 2009 هو نتاج هذه العولمة المتوحشة التي تزيد الأغنياء غنىً والفقراء فقرا، وتكون النتيجة عكس ما حث عليه القرآن الكريم في حركة المال بقوله “ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ”.
لدينا دين عظيم يملك حلولا رائعة للكثير من المشكلات التي نعانيها على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية، لكن أنصاف الفقهاء يشوهونه، فيما يعاديه أقوام تبعا لحساسيات فكرية وسياسية وطائفية معروفة.