ثوّارنا عقلاء، فاحترموا عقولهم
رسائل الثورة السورية المباركة (95)
ثوّارنا عقلاء، فاحترموا عقولهم
مجاهد مأمون ديرانية
استقبلت تعليقات ورسائل لا تُحصى رداً على مقالتي الأخيرة عن "الطائفة الكريمة"، وقد توزّع أكثرها بين طرفَي المسألة الأقصيَين، فمن الناس من لامني لأنني كنت رقيقاً لطيفاً وأنكرت على المظلومين حقهم في الرد على ظالميهم عيناً بعين وسنّاً بسنّ، أي بقتل نساء من قتلوا نساءنا وذَراريّ من قتلوا ذرارينا. ومن الناس من لامني على وصفي القاسي للعلويين وعلى إنكار شراكتهم في الوطن وعلى الكتابة الصريحة في هذا الموضوع الخطير.
الذي لاحظته هو أن أغلبية الفريق الثاني، الأغلبية وليس الجميع، من خارج سوريا، وأغلبية الفريق الأول، الأغلبية وليس الجميع، من أهل الداخل. هذه التعليقات والردود دلّتني، هي وكثيرٌ غيرُها مما جاءني في الماضي تعليقاً على مقالات سابقة، دلّتني على الشقّة الكبيرة بين أهلنا في الداخل وأهلنا في الخارج. فمع أن الذين يقرؤون ويتفاعلون مع المقالات من أهل الخارج هم جزء من جمهور الثورة، إلا أن الفرق بينهم بين أهل الداخل كبير، ولا يبدو أنهم يشعرون بالمعاناة بالدرجة نفسها التي يشعر بها أهلنا في الداخل، الذين صارت المحنة جزءاً من حياتهم التي يعيشون.
قلت إنني استقبلت تعليقات ورسائل لا تُحصى، وقد بدأت بالرد عليها فُرادى، ثم رأيت أن الذي يقتضي الرد ليس الأفكار التي وردت في المقالة، ولو فعلت لما استفدت لأن لكل من الناس رأياً يراه وموقفاً يقفه من المسألة لا يكاد يرضى بغيره. وقد تعلمت بالتجربة أن تلك المسائل الجدلية يصعب أن تتفق عليها الآراء، فكفى بالكاتب أن يقرّب البعيد وأن يفتح للمفكر باب فكرة جديدة لم تخطر بباله من قبل، لعله يَرِد مَوردَها فتوصله إلى نهاية غير التي كان ينتهي إليها. الذي يعنيني ليس محتوى المقالة وإنما هو المنهج الذي ينتهجه بعض أهل الرأي والقلم، وسوف أسمّيه "منهج التضليل الثوري بدعوى مصلحة الثورة".
* * *
هل شعبنا السوري الثائر المصابر شعب قاصر يستحق الوصاية؟ هل الثوار قطيع من البُلْه الأغبياء أم أنهم جماعة من العقلاء الأذكياء؟ أليس جمهور الثورة هو الذي يضع الخطوط الحمراء لثورته ويستميت بالدفاع عنها، فيقاوم الانزلاق إلى الفتنة الطائفية ثم يقاومها وما يزال يقاوم، برغم الدفع الشديد الذي يدفعه إليها النظام؟
لقد أثبت الشعب السوري الثائر في الميدان أنه أنضج وأعقل من كل الذين انتدبوا أنفسهم للحديث باسمه، سواء أكانوا من الساسة أم من الإعلاميين أو من الكتّاب والمفكرين، فمن العار ومن الخطأ البالغ أن يتعاملوا معه وكأنه مخلوق قاصر، أو أن يتعالَوا ويتعالموا عليه ويدّعوا الوصاية بحجة مصلحة الثورة، فيُخفوا عنه أموراً ويناوروا في أمور. ومن أجل ذلك أحببت أن أكتب هذه المقالة الجديدة، لا دفاعاً عن المقالة القديمة نفسها، بل رداً على رأي ارتآه كثيرون ممّن ردوا عليها، ملخصه أنني ما كان ينبغي لي أن أقول الحقيقة للناس إذا كانت الحقيقة لا توافق المصلحة العامة، فإنهم يمكن أن يقرؤوها قراءة ناقصة فيقتطعوا منها ما يوافق هواهم ويتركوا ما يخالفه، وحتى لو كان المزاج العام الذي ينتشر بينهم هو مزاج الغضب والانفعال فيجب علينا أن نتجاهله ولا نتحدث عنه حديث الصدق والصراحة. هل ترون أن هذا الرأي صواب؟
أنتم تعرفون قدور الضغط التي يُطهى بها الطعام؟ إن سيدات كثيرات يقلنَ إنها واحدةٌ من أفضل مُخترَعات الزمان الأخير، فاللحم الذي كان يحتاج في الماضي إلى ستّ ساعات لينضج صار ينضج في قِدر الضغط في أربعين دقيقة أو خمسين، والخضار التي كانت تحتاج إلى ساعة صارت تكفيها ربع ساعة. ولكن كيف أمكن ذلك؟ المسألة ليس فيها سحر ولا تكتنفها معجزة. غاية الأمر أن الهواء إذا سخن يتمدد، وكلما ارتفعت درجة حرارته ازداد تمدده وازداد حجمه، إنها حقيقة علمية يعرفها طلاب المدارس، وهي مبدأ عمل هذا الاختراع المدهش. إننا نُحْكم إغلاق غطاء القدر ثم نبدأ بتسخينها (للفائدة: القِدْر كلمة يجوز فيها التأنيث والتذكير)، وعندئذ يبدأ الغاز داخلها بالتمدد ويضغط على المحتويات بقوة شديدة تسارع في طبخها وإنضاجها، وفي اللحظة التي يصل فيها الضغط في الداخل إلى غاية احتمال القدر ينفتح ثقب صغير فيندفع البخار الساخن ويبدأ الصفير.
هل فكرتم يوماً ماذا يحصل لولا ذلك الثقب الصغير الذي يسمح للهواء المضغوط بالخروج؟ لو أن قدراً محكم الغطاء وُضع على النار ساعة بعد ساعة فلم يُسمح للهواء المتمدد داخله بالخروج ولم تُطفَأ تحته النار فماذا يحصل؟ سوف يتفجّر ويتطاير قطعاً وشظايا في كل اتجاه. هذه هي صورة شعبنا الذي يعيش المحنة في سوريا اليوم؛ إنه قِدْر ضغط هائل محكم الإغلاق تضطرم أسفل منه النار، فإذا سددتم منفذ تنفيس الهواء فلا أمان من الانفجار، وإذا وقع الانفجار فسوف يأكل البلاد والعباد.
* * *
يا أيها العقلاء: عليكم أن تدركوا حجم الاحتقان والغضب اللذين أوجدتهما الممارساتُ التي يمارسها عامة العلويين في أحياء وقرى المسلمين السنّة. إن هذا الغضب والاحتقان قنبلة موقوتة هائلة، قنبلة نووية موقوتة إذا انفجرت ستدمر سوريا كلها، ولذلك اجتهدتُ غاية الاجتهاد في نزع فتيلها بالطرح الصريح الذي يجمع طرفَي الموضوع ويوازن بينهما، بلا مواربة وبلا تدليس كما يصنع كثير من الكتّاب الذين يدورون ويلفّون ويحاولون أن يقنعوا جمهور الثورة بأن الطائفة العلوية رائعة كريمة ولكن بعض العلويين فقط مع النظام! إذا بدأ الكاتب بهذه الكذبة فلن يصدّق بقيةَ كتابته أحد، لذلك اخترت أن أكون صادقاً وأن أقول الحق بطرفَيه: لا أجامل الضحايا فأسوّغ لهم ما لا يرضاه الله ولا يوافق عليه الشرع والقانون، ولا أجامل الجلاد فأتزلّف إليه وأكيل له المديح الفجّ الكاذب.
ما كان لرائد أن يَكْذب أهله ليرضيهم، ولا ينبغي للعقلاء أن يغفلوا عن صيحة النذير إذا صاح النذير. يا أيها العقلاء: راقبوا مؤشرات الغضب والاحتقان ولا تخدعوا أنفسكم ولا تخدعوا غيركم، إن تجاهل علامات المرض يوشك أن يصل به إلى نقطة يستحيل معها العلاج.
وإني لأرى صنفين من الناس لا يقدّرون عواقب الأمور، أحدُهما أقل خطراً من الآخر. فأما الأقل فهو الذي لا يبالي بأن يسدّ فتحة القِدْر فيتسبب في ارتفاع ضغط البخار، ذلك هو الذي يمنع المعذَّبين من الشكوى ويُلزمهم بالصمت في سبيل المصلحة الثورية والوحدة الوطنية. وأما الأشد خطراً فهو الذي يسدّ الفتحة ويزيد تحت القدر ضِرام النار، ذلك الذي لا يكفيه أن يمنع الناسَ من نقد الطائفة العلوية، بل يكيل هو نفسه لها المديحَ ويصرّ على وصفها بالكرم ويزعم أن لها مشاركة في الثورة كسائر الأقليات والأكثريات!
لا أظن أن أياً من ذَينك الفريقين يدرك البركان الذي تنطوي عليه جوانح الناس. لقد بلغ الغضب ببعضهم مبلغاً حمله على الدعوة إلى إفناء العلويين كافة، وكثيرون يَدْعون إلى قتل رجالهم أجمعين، وآخرون يريدون تهجير الطائفة كلها إلى إيران، ومن الغاضبين من يدعو إلى تسمية بعض جمع الثورة باسم "نعم للطائفية ونعم للحرب الأهلية"... إلى غير ذلك من طوفان مفزع من الشعارات والدعوات تعجّ بها صفحات الثورة ومنتدياتها عَجّاً وتثِجّ ثَجّاً، فإذا فهمنا موجبات ذلك الغضب وأحسنّا التعامل معه أطفأنا النار ومنعنا الانفجار، أما تجاهلها وتجاهل مشاعر الناس وانفعالاتهم فليس سوى سكب للزيت على النار وتسريع بالانفجار.
* * *
لو أراد العقلاء أن يتداركوا الكارثة فعلاً فلينشروا مقالة "الطائفة الكريمة" في كل مكان، أو ليخاطبوا الجمهور بمثل خطابها، خطاباً صريحاً لا مجاملةَ فيه ولا لفّ ولا دوران. اعترفوا بالمشكلة، صِفوا الطائفة بصفتها التي اكتسبتها بعملها لا بما تزيّنه لكم أخيلتكم، ثم اطلبوا من الناس أن يقفوا الموقف الصحيح وأن لا يتجاوزوا حكم الدين والعقل والفطرة السويّة والقانون العادل. صدّقوني إنكم لن تلقَوا استجابة من الناس إلا بالصدق والصراحة وبتسمية المسمّيات بأسمائها، وما لم تعاملوهم معاملة العقلاء الراشدين فلن تخرجوا منهم بشيء.
كونوا صرحاء صادقين إذا خاطبتم شعبنا السوري العظيم ولا تتلاعبوا بالحقائق ولا تحاولوا إخفاءها بحجة المصلحة الثورية. أنتم تعلمون أن العلويين يعيشون في أحياء تكاد تقتصر عليهم في المدن، أو في قرى لا يسكنها غيرهم حواليها، وجيرانهم من غيرهم يعرفون أن أحياءهم وقراهم هي قلاع للنظام، هي مصدر الأذى وهي مستودعات الشبيحة الذين يرتكبون كل أنواع الجرائم والموبقات، وإن أهلنا في سوريا لَيقسمون أن أي حي علوي أو قرية علوية لم يشاركا في الثورة أبداً.
لقد سعى بعض أصحاب النظرية "التوفيقية التلفيقية" إلى إقناع الناس بأن للعلويين مشاركة في الثورة فضربوا مثلاً بمصياف، وهذا المثال لا يخرج عن واحدة من اثنتين: غلطة أو خدعة، لأن مصياف ليست علوية بل هي بلدة إسماعيلية، ولمؤسسة الأغاخان وجود كبير فيها يتركز على ترميم قلعتها التاريخية وتشغيل عدد كبير من سكان البلدة. وأنا قلت سابقاً أكثر من مرة إن مشاركة الطائفة الإسماعيلية في الثورة مشرّفة، سواء في السلَمية أو مصياف أو غيرهما من قرى ريف حماة. لقد شارك إخواننا الإسماعيليون بالثورة من أيامها الأولى، وكان لهم جهد كبير في استقبال وإيواء لاجئي حماة وريفها في هذه المحنة ومنكوبي حماة في محنة الثمانينيات. نعم، إن الأكثرية الكاثرة من سكان مصياف من الإسماعيلية وفيها أقليتان سنية وعلوية، فمن أراد أن يقنعنا بأن للعلويين مشاركة في الثورة فليبحث عن غيرها، ولسوف يطول به البحث بغير طائل!
أما العلويون أنفسهم فلو أنهم أنصفوا لنشروا مقالتي في مواقعهم وعلى صفحاتهم، فإن يوم سقوط النظام قادم بإذن الله، وإن تحكّم الطائفة العلوية بسوريا يقترب من نهايته. قد يكون انتصار الثورة بعد أسبوع أو شهر أو مئة شهر، قد يَقْصر وقد يطول إلا أنه قادم لا محالة بإذن الله، لأن تحكم الأقلية بالأكثرية مخالف لسنّة الواقع والتاريخ ولأن نظام الاستبداد لا بقاء له مهما بالغ في القمع والإجرام، فإذا جاء ذلك اليوم فسوف يدرك العلويون الذين يسوؤهم ما أكتبه اليوم أنني كنت لهم من الناصحين وعن أبريائهم من المدافعين.