هل نمنح ثورتنا قبلة الحياة؟!
هل نمنح ثورتنا قبلة الحياة؟!
حسام مقلد *
نعم أخطأ بعض الإسلاميين بوصف استفتاء مارس2011 بأنه غزوة الصناديق!! كما أخطأ الليبراليون عندما تشبثوا بوجهة نظرهم وجعلوا كل همهم تشويه الإسلاميين والتشنيع عليهم؛ لإفشال مشروعهم وتعويق مسيرتهم، وارتكب الإخوان خطأ أفدح ـ باعتبارهم الفصيل الأكبر والقوة الأكثر خبرة والأكثر تنظيماً ـ عندما تقوقعوا بعض الشيء وانكفؤوا على أنفسهم؛ فازدادت الشكوك في وجود صفقات بينهم وبين المجلس العسكري، وأخطأ المجلس العسكري حينما رضخ بصورة أو بأخرى لفلول النظام البائد وثورتهم المضادة، وعندما سمح للقوى المحلية والإقليمية والدولية بممارسة الضغط عليه، ولم يُبْدِ انحيازاً قاطعاً وحازماً للثورة وأهدافها باعتبارها تمثل مصلحة قومية عليا للبلاد، وارتكب المصريون جميعا أشنع خطأ في حق ثورتهم المجيدة عندما أفرطوا في حسن الظن وتركوا الميدان بلا قيد أو شرط أو ضمانات، وعندما لم يدققوا في مواد الإعلان الدستوري ووافقوا على المادة 28 التي تحمي قرارات لجنة انتخابات الرئاسة من أية طعون رغم أن أعضاءها هم في النهاية بشر وغير معصومين!!
ويبدو أن الشعب المصري لا يتمتع بخفة الدم والفكاهة فقط، فقد أثبتت الأحداث الكثيرة على مدى الشهور التي أعقبت ثورة 25يناير وحتى الآن أننا مولعون بالألغاز والأحاجي ولغة الشيفرات، وشغوفون بتخوين بعضنا البعض، وبالصراخ والصوت العالي والضجيج والجعجعة بلا طحن، ومدمنون تحويل الفرحة إلى أحزان، وقلب لحظات البهجة والسعادة إلى دهور من الهم والغم والنكد، والأدهى أننا نعشق إهدار جهودنا، وتبديد طاقاتنا، وتعطيل المراكب السائرة، وتصعيب الأمور السهلة وتعقيدها، وتضييع الفرص من بين أيدينا، ثم نجلس نتلاوم ونتبادل الاتهامات، ويتشفى كل منا في الآخر، ونتحسر ونندم على ما فات ولات حين مندم!!
وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن هذه الصفات قاسم مشترك بيننا جميعا، لا فرق في ذلك بين نخبة وعامة، ولا إخوان وسلفيين، ولا إسلاميين وليبراليين وعلمانيين، ولا بين شيوخ وشبان، ولا رجال ونساء، والدليل على ذلك ما وصلت إليه حالنا الآن بعد مرور أكثر من عام على الثورة.
وأزعم أنه لا مجال للتساؤل: ما الذي أوصلنا إلى ذلك؟ ففي رأيي المتواضع أن أوضاعنا الحالية ما هي إلا حصاد طبيعي جدا لما غرسناه جميعا طوال الشهور السابقة من بذور الخلاف والشقاق والنزاع، بل أدَّعي أن النتيجة النهائية ـ إن لم نسارع إلى تدارك الأمور قبل فوات الأوان ـ شبه متوقعة، وأزعم أنه يمكننا القول من الآن إن خيبتنا جميعا ستصبح حتمية، وفضيحتنا المدوية ستكون بجلاجل إن ظلت إدارتنا لمواقفناالسياسية بهذا القدر الهائل من التخوين والتشكيك في النوايا والتشظي والتشرذم والانقسام، والتكالب على الغنيمة، ومزاحمة كل منا للآخرين ووضع العراقيل في طريقهم، حتى ولو كانوا من نفس التيار الفكري والسياسي ...!!
لقد قامت ثورتنا المباركة ضد الظلم والقهر والاستعباد والفساد، وخرج الملايين في الشوارع وواصلوا احتجاجاتهم المكثفة وهتافاتهم الغاضبة حتى أجبروا الرئيس المخلوع على التنحي، ووقف جيشنا العظيم من الثورة موقفا خالداً يضاف إلى سجله الوطني الحافل والمشرق على مر التاريخ، وهتف الجميع: "الجيش والشعب يد واحدة".
وفي صبيحة اليوم التالي لإعلان تنحي مبارك قام شبابنا بتنظيف ميدان التحرير ـ أيقونة ثورتنا العظيمة ـ في مشهد حضاري مبدع بهر العالم أجمع، واستبشر الشعب المصري خيرا وتنفس الحرية لأول مرة منذ عقود طويلة، وامتلأت نفوسنا جميعا فخراً وأملا وتفاؤلا في غد أفضل.
كان الحلم واضحا في وجدان كل منا، وخارطة الطريق محددة أمامنا، وأهداف الثورة متجذرة في وعينا الفردي والجمعي: (عيش، حرية، كرامة إنسانية، وعدالة اجتماعية) وانصرفنا من الميدان ونفوسنا مفعمة بالأمل، وقلوبنا متوحدة في حب مصر، وعقولنا مشغولة برسم خطط بناء نهضتها لترجع كما كانت دائما قلعة العروبة وحصن الإسلام.
وقد أكد الشعب المصري مرارا أنه يريد بناء دولة مدنية حديثة توفر الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وسبل الحياة الكريمة لجميع أبنائها بغض النظر عن الدين أو اللون أو الجنس أو العرق، وتصنع نهضةً حقيقية وتنمية شاملة في جميع المجالات تعوضنا عن عقود الفقر والحرمان (وأضاف الإسلاميون: أن دولتنا المنشودة ذات مرجعية إسلامية تحفظ لنا هويتنا وتحمي خصوصيتنا وتَميُّزَنا الحضاري؛ لأن الشعب المصري العريق قد سئم التبعية والذل والهوان) وكان المفترض أن يتعاون المصريون جميعا لتحقيق هذا الحلم وتجسيده على أرض الواقع!!
لكن لم تكد تمر أسابيع قليلة ونحن نقتات تلك الأحلام الرومانسية السعيدة ونعيش مشاعر الزهو والافتخار حتى صدمنا الواقع المرير، فثورتنا السلمية المباركة التي ألهمت العالم أجمع وقعت في عدة شِراكٍ خادعة وفِخَاخٍ ماكرة نُصِبت لها بمنتهى الخبث والدهاء، وتم اصطياد الجميع فوقعوا فيها بشكل أو بآخر، واشتبكت القوى الثورية والإسلامية والليبرالية مع بعضها البعض، وانشغل كل فريق بتمزيق ملابس الفريق الآخر وتشويه سمعته، ونهش عرضه، وتعويق حركته، وصرف الناس عن مشروعه، ونال الإسلاميين النصيبُ الأوفر من التشويه والتشنيع والاستفزاز، وساهم بعض تياراتهم بسبب الافتقار إلى النضج الكافي وقلة الخبرة وانعدام الوعي والبصيرة السياسية في توفير حججٍ شتى للشانئين والكارهين.
وهكذا انشغلت القوى المدنية المصرية بنفسها وانهمك كل منها في القضاء على الآخر، وتُرِكَت الساحة خالية تماما لأعداء الثورة (...!!) للإجهاز عليها وإعادة إنتاج النظام البائد بوجوه جديدة، وعندئذ نشط هؤلاء الأعداء ووجهوا لها ضربات موجعة من قبيل أحداث الفتنة الطائفية المتكررة، وتأجيج الاعتصامات والإضرابات والاحتجاجات الفئوية، وشغل قوى الثورة بمعارك وهمية متعاقبة: كمعركة المبادئ فوق الدستورية، ووثيقة السلمي، ثم بأحداث ماسبيرو، وأحداث محمد محمود، ومجلس الوزراء، ومذبحة بور سعيد، وأزمات السولار والبنزين واسطوانات الغاز والخبز، وفتنة اللجنة التأسيسية للدستور، وفي كل هذه الأحداث لم يُعرف الجاني الحقيقي، ونُسبت تلك الجرائم للهو الخفي أو ما يسمى بالطرف الثالث!!
وهناك حملة تشويه واسعة ومنظمة ضد الإسلاميين إخواناً وسلفيين تشارك فيها تقريبا كل أجهزة الإعلام في مصر بما فيها وسائل الإعلام الرسمية (حتى إذاعة البرنامج العام...!!) التي تزعم ليل نهار أن الإخوان انتهازيون ويريدون الهيمنة والسيطرة (التكويش) على كل شيء في مصر، ووصل الصراع السياسي إلى حد الافتراء المقيت، حتى شبَّه أحدُهم الإخوان بالحزب الوطني، وتهكَّم آخر قائلا إن الإخوان هم الحزب الوطني فرع المعاملات الإسلامية!!
ومن أبرز الشبهات المثارة ضد الإسلاميين وخاصة الإخوان أنهم لم ينجزوا شيئا للشعب المصري رغم أنه لم يمضِ على تسلمهم لمجلس الشعب سوى أقل من ثلاثة أشهر، ورغم إقرار الجميع بأن البرلمان لا يمتلك أية سلطات تنفيذية، وأن هذه السلطة في يد حكومة الجنزوري والمجلس العسكري، وتناسَى الناقدون النجاحات العديدة التي أنجزها مجلس الشعب خلال هذه المدة الوجيزة، وجحدوا كل شيء إيجابي فعله، وانهالوا على الإخوان لوماً وتقريعاًَ وتشويهاً، وكأن معهم خاتم سُليمان أو عصا موسى عليهما السلام!!
والمؤسف أن الكثيرين يرددون هذه الشبهات، وتلوكُها ألسنتهم في كل مكان وكأنها حقائق مُنَزَّلة، ولا شك أن هناك جهات كثيرة ذات مصالح متعارضة مع المصالح القومية العليا لمصر، وتحرص كل الحرص على تعكير الأجواء وتكثيف العقبات؛ لتنفير الناس وفضِّهم عن الثورة وإقناعهم بأنها كانت وبالا عليهم.
ولم يعد خافيا أن بعض دول الخليج لم ترحب بالثورة المصرية منذ بداية اندلاعها، بل رأتها خطراً عليها، فتحالفت مع قوى أخرى داخل مصر وخارجها لخنق هذه الثورة، بالامتناع عن تقديم أي دعم اقتصادي لمصر وعقاب الشعب المصري على اختياراته؛ لأن مصر الثورة ستكون بإذن الله تعالى قوية مستقلة، وهذا ما يفزع الكثيرين ويقضُّ مضاجعهم؛ لذا فهم يفضلون مصر الذليلة الخانعة التابعة.
وإذا كان موقف أعداء الثورة المصرية في الداخل والخارج مفهوماً ومتوقعاً، فليس بمفهومِ أبدا كيف يملأ الثوار أنفسهم طريق ثورتهم بالعبوات الناسفة؟ كيف نزرع الألغام بأنفسنا أمام مشروع نهضتنا؟ وعندما تبدأ في الانفجار نصرخ ونشتكي ونتحسر على وطننا الذي يضيع من بين أيدينا وحلمنا الذي ينهار؟! ثم نلقي التهم جزافا هنا وهناك، ونعلق فشلنا وخيبتنا على شماعة التآمر، نعم هناك متآمرون على ثورتنا المباركة في الداخل والخارج ولا همَّ لقوى كثيرة إلا إفشالها.
لكن أكبر أعداء ثورتنا المجيدة هم منا يعيشون بيننا، يسرحون ويمرحون بكل حرية، يتكلمون في الفضائيات ويكتبون في الصحف: فيرجفون في الأرض، ويخوِّفون العلمانيين من الإسلاميين، ويبثون الفزع والذعر في قلوب المصريين من هيمنة دولة الإخوان عليهم!!
ومن نكد الدنيا لأي فرد أو مجتمع أن تُبدَّد الطاقات وتُهدَر الأوقات في الجدال والمراء بدلا من التأسيس والبناء، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:"أنا زعيمٌ (أي ضامن وكفيل) ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا".
والآن ماذا نفعل بعد أن تأكدنا جميعا من جدية الأخطار المحدقة بثورتنا المباركة؟!! وكيف نمنحها قُبْلَة الحياة مجددا؟!
بداية يجب أن تعترف جميع الأحزاب والقوى والتيارات السياسية المصرية بكل وضوح وشفافية أنها قد أخطأت، وأكبر الأخطاء هو تخلي هذه القوى والأحزاب السياسية عن فكرة التوافق، وتنافسها على السيطرة، وتكالبها على السلطة والنفوذ، فبسبب ذلك حدث ما حدث من تمزيق الصفوف وتشتيت الجهود وتبديد الطاقات.
ولابد أن ننزل جميعا إلى الميادين والشوارع مجددا، ونتدارس سويا سبل التداول السلمي للسلطة، ونتعاهد على نشر ثقافة التعايش والتسامح فيما بيننا، وأن يعترف كل منا بالآخر، ويحترم حقوقه وواجباته، ، ونتصارح بكل شفافية فيما يعتمل في أعماق أنفسنا من شكوك متبادلة.
وعلى المخابرات العامة والمجلس العسكري أن يكفا عن عرقلة مسيرة التحول الديمقراطي السلمي في مصر، فالشعب المصري لم يعد قاصراً، ومزحة اللهو الخفي والطرف الثالث سخيفة وسمجة بما فيه الكفاية، وليعلم من بيدهم الأمر (...!!) أن الشعب المصري يعرف الحقائق كاملة لأنه أذكى من أن يخدع بهذه الطريقة الفِجَّة، ولن يُلدغ من نفس الجحر مرتين (...!!) ولا داعي لجرنا إلى سيناريوهات مظلمة ستفتح أبواب الشرور على الجميع، وساعتها لن يرحمكم التاريخ، ولن تسامحكم الأجيال القادمة!!
* كاتب إسلامي مصري