فن تعطيل الديمقراطية!
فن تعطيل الديمقراطية!
أ.د. حلمي محمد القاعود
هو فن شيطاني بامتياز !
ولا يقدر عليه إلا شياطين !
ذلك أن الديمقراطية التي تعني الاحتكام إلى صندوق الانتخابات ؛ تأتي بمن يختاره الشعب من أجل خدمته ، والعمل على تحقيق مطالبه وفقا للدستور والقانون في فترة يحددها نظامه الديمقراطي ، وبعد هذه المدة يمكن التجديد له أو الرفض .
ولأن مصر شهدت في العام الماضي ثورة فريدة في نوعها ، أسقطت الغزاة المحليين أو الإنجليز السمر، وأطاحت بجرائمهم الكبرى المتمثلة في الطغيان والاستبداد ومحاربة الإسلام ، وحرمان الشعب من الحرية والمشاركة في تقرير المصير ؛ فإن هؤلاء الغزاة المحليين أو الإنجليز السمر ، لم يستسلموا حتى الآن للثورة .. صحيح أن رءوسهم قد سقطت ، وأن الخوف الذي كان يكبل الشعب ويقيده قد ذهب إلى غير رجعة ، ولكن وجودهم على حجر النظام المستبد الفاشي طوال ستين عاما ، وكراهيتهم الشديدة والعميقة للإسلام ، ومصالحهم التي تعود عليهم بأرباح كبيرة ، وقدرتهم على التحكم في وسائط الإعلام والتوجيه ، أتاحت لهم فرصة العمل المؤثر لتعطيل الديمقراطية ، وزرع اليأس في نفوس أعداد لا بأس بها من الناس بعدم جدوى الثورة ، وعدم تحقيقها شيئا لهم ؛ بل إنها تؤثر على لقمة عيشهم وتوفير احتياجاتهم الضرورية ! ولم يكن غريبا أن يقول بعض العامة في خضم أزمة السولار والبنزين والبوتاجاز : " ولا يوم من أيامك يا مبارك " !
الانجليز السمر بارعون في إخفاء هدفهم الأصلي وهو الاستمرار في التحكم في رقاب الشعب ومخّه ، وإعلان أنهم يواجهون ديكتاتورية الأغلبية الإسلامية! وأنهم يبحثون عن نظام ديمقراطي حقيقي ، مع أنهم يدلسون على الناس من خلال إلباس الحق بالباطل ، ويعلنون في وسائط الإعلام التي تحت أيديهم أنهم ثوريون ومناضلون ويحبون مصر أكثر من غيرهم!
في البداية كانت هناك فترة انتقالية مدتها ستة أشهر ، ينتقل بعدها الحكم إلى حكومة مدنية ، ليست عسكرية ، وفي هذه المدة تتم انتخابات تشريعية ويوضع دستور ، ولكن القوم تصايحوا : المدة ليست كافية ، يجب أن تمتد ثلاث سنوات تحت الحكم العسكري ، وتطوع كبراؤهم فقالوا إننا لا نمانع في تسمية المشير – رئيس المجلس العسكري - رئيسا للجمهورية !وتحت ضغوطهم وأوراقهم ( ورقة الجمل – ورقة السلمي – المبادئ فوق الدستورية .. ) والجدل الذي لا ينتهي حول الانتخابات أولا أو الدستور أولا طالت المدة الانتقالية ، ولكن جاء ضغط الشعب الذي نزل إلى الشوارع والميادين ، فكانت خطة الطريق التي أثمرت مجلسي الشعب والشورى واللجنة الـتأسيسية للدستور ..
الإنجليز السمر يصرون اليوم أن مجلس الشعب باطل ومزور ، واللجنة التأسيسية باطلة ومزورة ، وأن الأغلبية التي أتى بها صندوق الانتخابات جاءت عن طريق الزيت والسكر والأرز الذي تم توزيعه على الناخبين ! وأنهم بسبيلهم إلى المحكمة لإثبات بطلان المجلس واللجنة ليعود الوطن إلى نقطة الصفر ، ويبقى المجلس العسكري في إدارة شئون البلاد !
لوحظ أن القوم قبل الانتخابات التشريعية كان يهتفون : الشعب والجيش إيد واحدة ، وعندما وضعت خطة الطريق للانتخابات تغير الهتاف إلى : يسقط يسقط حكم العسكر ، وبعد موضوع جمعيات التمويل الأجنبي توقف الهتاف الأخير ، وانفضت الاعتصامات في شارعي محمد محمود والقصر العيني !
وهم اليوم يرون أن اللجنة التأسيسية التي تم انتخابها لوضع الدستور تمثل انتكاسة عظمى للشعب المصري الذي يتحدثون باسمه ويحتكرون رعاية مصالحه لأنه لم يخترهم . لقد اختار مجلس الشعب ومجلس الشورى خمسين عضوا من داخل البرلمان ومثلهم من خارج البرلمان، وهو ما يوافق الإعلان الدستوري الذي نص في المادة 60 على أن " يجتمع الأعضاء غير المعينين لأول مجلس شعب وشورى في اجتماع مشترك بدعوة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة خلال ستة أشهر من انتخابهم لانتخاب جمعية تأسيسية من مائة عضو، تتولى إعداد مشروع دستور جديد للبلاد في موعد غايته ستة أشهر من تاريخ تشكيلها ....".
وجاء نص المادة في سياق عبارة عامة تحتمل أن يكون المائة جميعهم من داخل البرلمان بغرفتيه وتحتمل أن يكون جميعهم من خارجه وتحتمل أن يكون بعضهم من خارجه وبعضهم من داخله ؛ تاركاً تحديد كل ذلك لتلك السلطة التي خولها ذلك ، وهو ما يدخل في صميم عمل البرلمان من تشريع ورقابة وغيرهما .
ولكن القوم لم يرضوا بانتخاب جمعية تأسيسية تقوم على المناصفة بين المجلسين والخارج .. فراحوا يهاجمون الإسلاميين بلا هوادة بمناسبة وغير مناسبة ، وراحوا يعلنون عن استقالات من اللجنة ، ويقومون بمظاهرات ليلية في الفضائيات الملوثة وصحف الضرار، وتناسوا أن الدستور لا يحتاج إلى كل هذه المناحة التي نصبوها للإسلام والمسلمين ..
لقد نسي الإنجليز السمر بفصائلهم الشيوعية والليبرالية والطائفية ؛ أنهم أقلية لا وزن لها في مصر المسلمة ، وأن الأغلبية التي تعبر عن الوطن التي انتخبتها الملايين هي الأحق بوضع الدستور والتشريع للأمة ، ولكنهم يؤمنون بمنطق واحد منهم : " هما اللي جايين علينا " أي إن وجودهم في ظل الاستبداد الفاشي طوال ستين عاما منحهم الوطن ميراثا لا يجوز الاقتراب منه ، لذا لم يتصوروا أن تجيء انتخابات نزيهة بمن يختاره الشعب ، وكان عليهم أن يقبلوا نتيجة الديمقراطية ويلتزموا بها من أجل الوطن ، ويحسّنوا من واقعهم وبرامجهم ليتقبلهم الناس مستقبلا ، ويفعلوا مثلما فعل عبد الله واد رئيس السنغال الذي هزمه زعيم المعارضة في انتخابات الرئاسة ، فقد أعلن بشجاعة ووضوح وهو يخاطب شعبه : " أيها المواطنون، بعد انتخابات الدورة الثانية الأحد، فإن النتائج الحالية تشير إلى فوز ماكي سال، وكما تعهدت .. اتصلت به منذ ليل 25 مارس هاتفيًّا لأهنئه،...، وأنا أهنئكم جميعًا على الدور الذي لعبه كل منكم في هذه العملية".
وكان رد زعيم المعارضة : "نتيجة الانتخابات أن الشعب هو الرابح الأكبر في السنغال"، وتعهد بأنه سيكون "رئيس كل السنغاليين"، وتوجه بالشكر إلى واد على اتصاله الهاتفي، وتابع سال: "هذا المساء يبدأ عهد جديد في السنغال"، مشيدًا بسلوك الناخبين والديمقراطية في البلاد.
لقد افتعل القوم معركة تشكيل اللجنة التأسيسية الخاصة لإثارة الجماهير على النواب المنتخبين، وتعطيل الديمقراطية .ويتناسى القوم أن غالبية دول العالم تضع برلماناتها المنتخبة ديمقراطيا دستورها ، وأن برلمان مصر لا يقل عن هذه البرلمانات حرصا على مصلحة البلاد والعباد وصيانة الحقوق والحريات ، ولكنها الأنانية التي تتقن فن تعطيل الديمقراطية وحرمان الشعب من الحرية لتحقيق أهداف ذاتية رخيصة .
أليس من العار أن ينقلب من يسمون بالمثقفين على الديمقراطية بحجة استحواذ الإسلاميين على اللجنة التأسيسية ؟
لقد ساندوا الاستبداد الذي أدخلهم الحظيرة ، ووقفوا معه ضد إرادة الشعب طوال ستين عاما ، واليوم يظهرون بمظهر الثوريين المناضلين ، متناسين أن مصر مسلمة وليست شيوعية ولا علمانية ولا ليبرالية ، ولا من جمهوريات الموز ؟
أحدهم من أتباع النظام السابق يصف الإسلاميين باقتفاء أثر الحزب الوطني (المنحل) وأنهم لم يعوا دروس التاريخ القريب عندما حاول الحزب الوطني أن يستحوذ على الحياة السياسية بمفرده فاندلعت ثورة "25 يناير"المجيدة؟
ونسي الحظائري الكبير أنه وقد كان مقربا من رئيس الحزب الوطني لم يسمحوا لإسلامي واحد بالاقتراب من السلطة ، بل إن الحظائريين وهو منهم شاركوا في حملة تشهير رخيصة ضد الإسلاميين وهم في السجون ويعيشون تحت الحصار والملاحقة .
لقد اقترح أحد الإسلاميين ساخرا أو جادا أن ينسحب الإسلاميون من لجنة الدستور ويستقيلوا من البرلمان ، ويتركوا للإنجليز السمر وضع دستور ، وعليهم أن ينتظروا بعدئذ رفض الشعب المصري له !
مصر المسلمة لن تستسلم لتلامذة هنري كورييل واللورد كرومر وخدام الماسونية العالمية !