صراع الأصوليات... للعقلاء فقط
زهير سالم*
صراع الأصوليات المدمر ، هذا الذي نعيش ، ونتابع ، الأصوليات السابقة والغالبة والفاعلة والأصوليات التابعة والمغلوبة والمنفعلة . هو هذا الصراع الذي تحركه أو تسترسل فيه أو تصمت عليه القوى الدولية من منطلق أصولي أولي فاعل ونافذ . وهو هذا الذي يتنطح لرفضه ومقاومته أصوليون منفعلون أو مستجيبون . فيغرقون في مشروع أصولي بديل لأصولية الأول الكريهة والمدمرة لذاتها وللإنسانية أجمع .
فعل أصولي ؛ سليل ثقافات جهل وتعصب وكراهية هذا الذي تقدمه صحيفة ( شارلي ايبدو ) وكل الملتحفين بها ، والمتجلببين بجلبابها تحت عنوان ( أنا شارلي .. ) وكذا كل هؤلاء الذين يسلون سيف النقمة أو الانتقام عليها، بفعل غير نبيه ولا رشيد ...
و( الأصولية ) ليست كما يحاول البعض أن يصور هي موقف ديني يتلبس به أتباع الأديان فقط، ولا هي حالة إسلامية كما يحاولون اليوم إذا ذكرت أن يفرضوها على الإسلام ويربطوها بالمسلمين .
الأصولية موقف إنساني من الكون والحياة ومن العقائد والأفكار ومن الحضارات ومن الأقوام . هي موقف مستعل على البشر بدعوى تفوق ديني أو تفوق عرقي أو تفوق ثقافي أو حتى فئوي شخصي ..
يعتقد الأصولي في كل ميدان أنه الأول في كل شيء ، وأنه الذي يملك الحقيقة كلها ، وأن الناس كلهم بحاجته ، لوعيهم أو لنجاتهم أو لتطورهم أو لتقدمهم أو لتحضرهم وأنه هو لا يحتاج أحدا بل هو فوق أن يحتاج أحدا ..
الأصولي لا يقبل حوارا ، لأن الحوار هو النقيض العملي للموقف الأصولي المستعلي أو المتعالي . بل الأصولي لا يحاور عمليا ، و حين يدخل الحوار ، لا يدخله نظريا طلبا لحق أو بحثا عن معرفة ، ولا عمليا بحثا عن توافق ورضى بأخذ وعطاء ، بل حواره دائما حوار المداورة والمناورة والتضليل بين من يظن نفسه السيد ، صاحب الحقوق المطلقة ويظن في الآخرين العبيد أو القاصرين الذين يجب عليهم كل شيء ولا يحق لهم أي شيء .
تنبع الأصولية من جمود يرفض كل نمو أو تطور عقلي أو فكري فردي أو جماعي ، ومن يرفض أي تكيف مع متغيرات الزمان والمكان ومستجدات العلوم والفنون ، ويرفض معطيات الثقافة حتى الإيجابي المحض منها وبين هذا وذاك يظل الأصولي أسيرا لما تسلل إلى تكوينه العقلي والنفسي من أفكار وصور عن العقائد والأشخاص قبولا وإعجابا أو رفضا وازدراء ، فلا هو قابل للتعلم ولا هو قادر على تحديث مدخلات عقله وقلبه ليجد نفسه في كل يوم على يفاع معرفة جديد ، يطل منها على مشاهد لعالم أرقى وأجمل مما عرف أو ظن أو حسب ..
ومن هنا يبدو الأصولي ( كل أصولي ) منجحرا في الماضي ، شديد الحنين إليه يود أن يعيد صناعته دون أن يدري أن الشمس تطلع على الناس مع كل دورة من دوراتها بفجر جديد .
والانجذاب إلى الماضي لا يكون فقط في صورة عقيدة أو دين أو مذهب ، دون أن ننفي ، استغراق الكثير من أصحاب العقائد والأديان والمذاهب في مواقف أصولية قاتلة ومدمرة ، بل بدون أن ننفي أيضا أن أخطر الأصولية ما تكون في رداء عقيدة أو دين أو مذهب ؛ بل أكثر ما تكون الأصولية في نزوع الغارقين فيها إلى الماضي في التلبس في موقف تاريخي ديني أو قومي أو فكري ...
الأصولية كخلفية فلسفية وكموقف تاريخي يومي تتلبس بالعلمانية مع أن جوهر الموقف العلماني نقيضها ، وتتلبس بالدينية مع أن روحية جميع الأديان ولاسيما الإسلام تأباها ، وتلبست الأصولية تاريخيا في الغرب بكل حروب أوربة الدينية ضد الإسلام ، وبكل حروب أوربة المذهبية البينية ، وصاحبت حركة الاكتشافات وما رافقها من حملات إبادة ، وتلبست بالحركة النازية والفاشية كما تلبست بالستالينية الماركسية وكانت جوهر النزوع الاستعماري الغربي الحديث .
لقد استمد الغرب أصوليته المبطنة من ادعاء بالتفوق لا حدود له ، بدأ بالعنصرية الآرية ، وتفوق الإنسان الأبيض ، ثم ورغم الإعلان الظاهري لحقوق الإنسان ، فقد تفننت الأصولية ( الرأسمالية ) الغربية في شرعنة ثقافتها وموقفها باسم العلم والتقدم والتطور والرفاه ولم تعفَّ حتى عن استخدام سطور من شرعة حقوق الإنسان . لقد احتل الحديث عن التقدم والتفوق والرفاه موضع ( الإنجيل ) في التحرك التبشيري بثقافة الإنسان الغربي بدل مسيحيته المعدلة ، وتبطن النزوع الاستعماري كل هذه الادعاءات في تجميل حرب أصولية مقيتة يديرها قوي مسيطر على الشعوب المغلوبة والمقهورة والمستلبة .
واليوم وحين تستفز أصولية الغرب الفاعل الأول في العالم الآخرين بعناوينها ووسائلها وتستجرهم ليردوا عليها تتحول ردود الفعل هذه بما فيها من نزق وانفعال وعدم اتزان إلى سلاح إضافي بيد الأصولية الغربية الأولى كمادة للتشهير والتنديد لتصعيد حربها وتسعيرها والإيغال أكثر في سحق الآخرين...
إن إدمان أصولية الغرب المستعلي والمستهتر بحضارات المخالفين وثقافتهم ، وإصرارها على سياسات الاستخفاف بها وبهم ، سوف يقود المشهد الإنساني ، في ظل ظروف جديدة للعيش ، ووسائل جديدة للتواصل ، وأدوات للحرب أكثر خطرا لم يعد قادرا على احتكارها أحد ؛ إلى الدمار المحقق الذي يجب أن يحذره الجميع ...
إلى كل الأصوليات المتسربلة بالأنا الإبليسية المقيتة : الحوار أو الدمار . الحوار الجاد الهادف المنطلق من حقائق الوجود ، ومعطيات العلم من غير توظيف ولا ادعاء ، مع اعتراف بالإنساني المطلق واللامحدود أو الدمار الذي سيصنعه غباء مشترك لا يبقي ولا يذر ..
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية