لستُ فرنسا ولستُ شارلي
عبد العزيز كحيل
لا أدري من يقف فعلا خلف هجمات باريس ، فهي أشبه بأحداث 11 سبتمبر التي لم تبُحْ إلى الآن بأسرارها ، وأتساءل هل هي حقا مأساة عالمية يتحتّم أن يتباكى عليها العلم كله؟
فأنا لست فرنسا ولست شارلي لكني جزائري ما زلت أرى بعيني وألمس بيدي آثار الجرائم الفرنسية في حق بلدي وشعبي ، فقد قتلت بأسلحتها الفتاكة مليونا ونصف مليون من آبائي وإخواني وحرقت الأرض ولغّمت – قبل خروجا المخزي – حياتنا السياسية والثقافية ، وترفض إلى اليوم وبصفة رسمية الاعتذار عن احتلالها وجرائمها بينما تطالب تركيا – أو تفرض عليها – الاعتذار لأرمينيا .
وأنا مسلم وأعلم أن فرنسا – ابنة الكنيسة البكر – لم تتسامح حتى مع تلميذات فرنسيات صغيرات وضعن على رؤوسهن خمارا لا يزعج أحدا ولا يعتدي على شيء ، ولا هي منعت شارلي ابدو من الإساءة إلى المسلمين أكثر من مرة ، مع أنها ضايقت روجي جارودي مضايقة شديدة بسبب آرائه وانتقاده للصهيونية ومنعت نشر كتبه وألجأته إلى الصمت حتى وفاته...وهي هكذا دائما ، تقدّس حرية التعبير هنا وتنتهكها هناك.
أنا عربي وأعلم ان فرنسا هي رمز العنصرية والعنجهية ، فعلت بمواطنيها من أصل عربي الأفاعيل و فرضت عليهم أنماطا معينة من الهوية والسلوك وما زالت تعدّهم مواطنين من الدرجة دنيا بسبب مَزجهم المعاصرة بالأصالة .
لهذا لا اتعاطف مع فرنسا ولا أواسيها فضلا عن أعتذر لها ، فهي المجرمة ونحن والمظلومون ، وهي الجلاد ونحن الضحية.
ولماذا أتعاطف على جريدة بالغَ خطابُها في الدناءة والقبح ، تتعمّد الإساءة لمنتسبي ثاني أكبر ديانة في العالم وتتلذّذ باستفزاز مشاعرهم بصورة فجّة ، كلّ ذلك باسم حرية التعبير ، وقد تحدّاها بعضهم أن تنشر رسما واحدا مسيئا للصهيونية ، ولا يزال التحدي دائما ، إنها مثل دولتها عنصريةٌ ظالمةٌ معتدية .
لن أصطفّ مع المتباكين ولن أتبرّأ من الاسلام والمسلمين ، أما الفاعلون فلا يستبعد العارفون بالسياسة أيّ احتمال ، فكم من أيد تعمل في الخفاء – وحتى في العلن - لإثارة الشعوب الغربية ضدّ الاسلام وأتباعه لتتناسق موقفها مع سياسات الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي والكيان الصهيوني العدوانية ، فلماذا الاصرار على تحميلنا المسؤولية على قضية فرنسية داخلية لا ناقة لنا فيها ولا جمل ؟
أنا لست فرنسا ولا شارلي ابدو ، إنما انا غزّة التي لا بواكي لها ، وأنا مصر التي حوّلها التغريبيون إلى معتقل كبير لا مكان فيه لحريات ولا حقوق ، انا سورية التي تآمر عليها من نصّبوا انفسهم اصدقاء لها فعقدوا الأزمة وعمّقوا الجرح وأطالوا أمد الطغيان الحاكم ومعاناة الشعب ، أنا الاسلام الذي وضعوه في قفص الاتهام و يفرضون عليه الانبطاح والاعتذار لظالميه ولا يسمعون منه لدفاع عن النفس إلا في حدود الانسلاخ عن الذات والذوبان في " فضائل " الفكر الغربي و" محاسن " الرجل الأبيض.
أنا لست فرنسا ولست شارلي ، ولست القاعدة ولا داعش ولا النصرة ، أنا واحد من مئات ملايين المسلمين المتمسكين بدينهم ، لا يعتدون على أحد ولا يخضعون للمعتدي ، لا يظلمون أحدا بسبب دينه أو هويته ، ولا يعتذرون لمن ظلمهم ومنع عليهم حتى البكاء.
تركنا التباكي والتبرؤ من الاسلام للأنظمة العربية وللنخب العلمانية المتحالفة معها ، فهي فرصتها لتكون فرنسية أكثر من فرنسا وصليبية أكثر من الصليبيين واستئصالية أكثر من غلاة الصهيونية واليمين المتطرف ، هؤلاء يتناولون الاسلام بالتحريف والتشويه نظريا كما يسيء إليه الجهاديون عميليا ، يندّدون بالدين ذاته ويروّجون الأكاذيب ضدّ العلماء والدعاة والمصلحين والحركات التربوية والسياسية الأكثر وسطية واعتدالا ، ويحمّلونهم دماء الرسامين المغتالين ، ويتناسون الرسام ناجي العلي الذي قتله الصهاينة بسبب...رسومه ، و لا يطالبون فرنسا بالاعتذار للجزائريين ، ففرنسا أمهم ومرجعيتهم وقدوتهم الأسمى في العلمانية المتوحّشة ومحاربة الدين والأخلاق والعدوان على الشعوب والقيم ، إنهم يتسابقون للثأر من الاسلام الذي عرّى دعاويهم الباطلة وأظهر حجمهم الضئيل في كلّ استحقاق انتخابي وحاصر شبهاتهم من كلّ جهة بالحجة والبرهان ، فهم اليوم يستجدون فرنسا والغرب بتباكيهم على شارلي ابدو للإجهاز على هذا الدين الذي يعيق مشروعهم التغريبي الذي ترفضه الأمة .
أجل ، إنها أيام عصيبة على أصحاب المنهج الدعوي الذي ننتمي إليه ، يحشرهم الإعلام العربي – قبل الغربي – مع دعاة المنهج الدموي نكاية في الاسلام ومشروعه التحرري ونكاية في الربيع العربي الذي اوشك على الاطاحة بالأنظمة الاستبدادية والتمكين للشعوب ومشروعها ، لكنني لن أكون فرنسا ولا شارلي ابدو ن ، وسأبقى عربيا مسلما .
وتحية لأحرار فرنسا والغرب الذين كانت لهم جرأة كبيرة فانحازوا للاسلام والمسلمين وصدعوا بالحق في وجه قومهم وإعلامهم.