شهداء سوق المتنبي

شهداء سوق المتنبي

أطياف تسبح على ضفاف الذاكرة؟

علي الكاش

كاتب ومفكر عراقي

[email protected]

إلى ارواح شهداء مسيرة الثقافة والمعرفة في عليين ممن طالهم العمل الإرهابي البشع في سوق المتنبي للكتب بتأريخ 5/3/ 2007 أهدي مقالي هذا.

مكان مثير للغرابة أغلب رواده من الرجال متوسطي وكبار السن، شرائحه مختلفة كألوان قوس قزح مبهجة يكمل احدهما الآخر. فيهم المدني والعسكري، المتدين والزنديق، الساحر والعالم، الغني والفقير، المثقف والجاهل، الطبيب والعليل، البروفيسور والطالب. السلفي والعلماني، مكان رائد سبق تشريعات القانون الدولي وصكوك حقوق الإنسان بمنعه التمييز على أسس الدين والقومية واللون والجنسية. فهو يحتضن الجميع وبنفس القوة والدفء.

بناياته قديمة بعضها آيل للسقوط والآخر ينفض سقفه ترابه المتراكم حتى بنسمة عابرة. مطاعمه لاتزيد عن اثنين متواضعين لكنهما ينافسان أفخم مطاعم العاصمة. هوائه ملوث بغبار بضاعته وربما يثير حساسية البعض ممن يعاني المشاكل في الجهاز التنفسي. فيه مقهى قديمة واحدة تحتل أحد أركانه منذ خمسين عام رافضة التخلي عنه لجيوش الزاحفيين من المستثمرين. شهرتها لا تتناسب مع تواضعها. ضجيجه عال سيما يوم الجمعة حيث يختلط فيه صراخ الباعة مع مناقشات الرواد الحادة التي تعلو  بصورة تلقائية كموجات راديو قديم تضايق من طول خدمته مفضلا الراحة في سوق الهرج القريب لتفكيكه. باعة البسطيات أكثر عددا من المتاجر. بل إن بعض أصحاب المتاجر أقاموا بسطيات إفترشت الأرض لمنافسة أقرانهم.

لا حدائق ولا متنزهات ولا دور سينما ولا مسارح ولا مراكز ثقافية أوسياحية أو دينية ولا مظاهر حضارية. مكان ربما برأي البعض مقزز. لكن سيزداد فضولك عندما تعلم بأنه فردوس المثقفين على الأرض. وأحد أكبر الصروح الحضارية والثقافية في العراق. وربما يتضاعف فضولك عندما تعلم بأنه مثل مارد هائج يثير الرعب في أوصال الحكومات وأجهزها الأمنية. فبعضها تعتبره بيت الداء. وأخرى تخشاه كأنه وباء.

في الثورات والإنتفاضات تجده كالأوكسجين يشتعل ويساعد على الإشتعال. وقد يصل فضولك لحده الأقصى عندما تعلم بأن من زواره المستشرق ماسينيون وجاك بيرك وجيرتروود بيل وكافن يونغ وصموئيل كريمر والسير مالون(زوج الكاتبة اجاثا كريستي) والجواهري والرصافي والسياب والفيتوري وزكي مبارك وعلي الطنطاوي وعباس العزاوي وجواد علي وطه باقر واحمد سوسة وعلي الوردي وعشرات الألوف من رواد النهضة العرب والعراقيين.

إنه سوق المتنبي الذي يحمل إسم  الشاعر العربي الكبير ابو الطيب المتنبي وربما إستمد عظمته وكبريائه وشهرته من الشاعر او العكس حيث خلد إسم الشاعر. إنه السوق الذي شهد اكبر جريمة بحق ثقافة العراق وحضارته منذ حقبة المغول. حيث تعرض إلى هجمة إرهابية في الخامس من آذار عام 2007 راح ضحيتها حوالي(130) ما بين قتيل وجريح وأبيدت العشرات من المطابع عن بكرة أبيها وعدد كبير من المكتبات سيما تلك التي تعتبر من اكبر وأغنى المكتبات في العراق. بما تحتوية من نفائس المخطوطات ونوادر الكتب وذخائر التراث العربي كمكتبة النهضة والعصرية والقانونية ومكتبة عدنان. امتصوا رحيق نفوسنا البريئة دون أن يطرف لهم رمش وعملوا منه عسلا ليتذوقه إعداء العراق.

هجمة بربرية شرسة استهدفت روح الثقافة قبل اجساد المثقفين. تراجيديا بشعة إختلطت فيها دماء الشهداء مع اوراق الكتب التي داعبتها اناملهم ردحا من السنين، حب سرمدي رائع فقد عاشا معا وماتا معا ودفنا سوية. بموتهما إختفت الوان قوس قزح المبهجة من سماء سوق الثقافة والمعرفة وتركت لونين مصطنعين يرمزان للموت والدمار هما الأسود والرمادي. لم تستهدف الجريمة الكتب النادرة ورواد المسيرة الثقافية فحسب بل استهدفت كل المثقفين العراقيين من دهوك حتى البصرة. ومن ديالى للأنبار. فسوق المتنبي كان المتنفس الثقافي الوحيد لجميع العراقيين، والنهر المعطاء الذي يفيض معرفة على روافد المحافظات العراقية كافة فيغنيها.

الكتاب الذي تعجز في الحصول عليه من المكتبات العامة ستجده حتما في سوق المتنبي. وإذا فشلت في الحصول عنه بسبب ندرته فهناك من الباعة ممن يرشدك لشخص يمتلكه من رواد السوق المعروفين او قد يتوسط لك عند  صاحبه لغرض الإستعارة سيما إن كنت من الباحثين او من طلبة الدراسات العليا. فالباعة على معرفة تامة بما يمتلكه كبار رواد السوق وبما يحتاجونه منها لذلك يحجز بعضهم كتب نادرة ولا يبيعونها إلا لزبائنهم فقط ولو حرمهم ذلك من ربح وفير. فأكرم الفلفلي ونعيم الشطري ونبيل عبد الرحمن وطارق الأعسم وتوفيق التميمي ومازن لطيف ومعن حمدان وزين النقشبندي وناصر ابو ليث وخالد العزاوي وحسام الأعظمي وبديع الخاقاني والقطيفي والسوداني  والعشرات غيرهم لا بد ان اطلعوا يوما على الكتاب. فهم جمهرة من المثقفين وليس مجرد باعة كتب فقط. لاغرابة في الأمر فمعظمهم تتلمذ فى أبجدية  المعرفة مند نعومة اضافره وله باع طويل فيها.

بعد الهجوم تغيرت الوجوه تماما وإنعطفت المسار الثقافي الى منحدرات حادة، فقد أمسى القلق مكتملا كالبدر بعد أن كان هلالا يشكو النحول. وإستمرت غيوم الأرهاب تتكاثف يوما بعد عن يوم في سماء السوق ولايعرف متى وأين ستمطر. وكان الرعد يصم الأذان زلزال سمائي يحمل  رسالة تحذير من شر مستطير. في هذه الأجواء الهوجاء اقتلعت الرياح غصون الحماس والآمال عند الجميع. فما عاد صوت الشطري يهز الشارع ولا ضحكات ابو ليث يسمع لها صدى في أركانه ولا مفاكهات الفلفلي ولا نكاشات السوداني. ولامداعبات الخاقاني. صحيح إن بعضهم ممن استمر في المهنة نهضوا من جديد وبقوة! لكنك تشعر بفتور الهمة وإنخفاض مستوى الحماس مع ارتفاع درجة السرحان. إنها حالة طبيعية فليس من السهل نسيان وجوه تعودت على لقائها كل يوم.

ومثلما أختفت من السوق الكتب النادرة والنفيسة كذلك إختفت وجوه عدد كبير من الباعة لإنصرافهم لمهن أخرى وبعضهم إحتل موقعا مرموقا في وسائل الإعلام. كذلك اختفى عدد كبير من رواد السوق المعروفين وكان يطلق عليهم تسمية (المحترفين) فهم خبراء بالكتب الثميية ولايصدهم سعر مهما تبختر وتكبر. لم تعد ترى الشيخ محمد الكسنزاني وصباح الدليمي ومازن البصام وشاكر العزاوي وحسين الوهب وجبران الحديثي وكاكه محمود وصلاح الفلوجي، واختفى الفنان مقداد عبد الرضا وكامرته المشاغبة وقاسم المختار الذي يمتلك جميع دواوين الشعر العربي ونعيم الشكري وخليل الصحفي والعشرات غيرهم.

صحيح ان الإحتلال العسكري دمر مؤسسات العراق كافة. ولكن كما هو معروف في ظروف ما بعد الحرب كل شيء يمكن تعويضه الا الإنسان والتراث الحضاري. ولو تفحصت الضربات الارهابية التي اصابت هوية العراق الثقافية والحضارية بدقة ستجد إنها خططت بذكاء ونفذت بدهاء وعولجت من قبل الحكومة بمنتهى الغباء.

الضربة الأولى: استهدف المتحف العراقي حيث سرقت نفائس الآثار من قبل قوات الإحتلال ودول الجوار والعراقيين ممن باع شرف المواطنة. ويكذب كل من يدعي بإسترجاع أكثريتها. فما تزال المتاجرة بحضارة العراق تجري على قدم وساق من قبل المواطنين والمسئولين وتهرب للخارج بسهولة. وقد صرح مؤخرا (طلال حسين) نائب رئيس لجنة السياحة والآثار بأن "حوالي 60% من المسئولين في الحكومة يتاجرون ببيع الآثار" مؤكدا من جهة أخرى " إستمرت عمليات نهب الآثار خلال الفترة 2003- 2010 مما يدل على وجود حكومة عملت مع القوات الامركيية في المتاجرة بالآثار"!

الضربة الثانية: كانت رباعية التشظية. إستهدفت الشظية الأولى: المكتبة الوطنية العراقية ودار الكتب والوثائق. حيث فقد حوالي 60% من الأرشيف الوثائقي الذي يغطي تأريخ العراق منذ الاحتلال العثماني عبورا بالعهد الملكي وإنتهاءا بالجمهوري. بمعنى ضياع أهم فترة من تأريخ العراق المعاصر. كما فقد 25% أي ما يقارب(250) ألف كتاب من أثمن وأندر الكتب الحجرية المطبوعة في المطبعة السلفية وحيدر آباد والدكن والمطبعة الكاثوليكية والجوائب وبولاق والاميرية ودار السلام والآباء اليسوعيين الدومنيكان. علاوة على الكتب العربية المطبوعة قبل عدة قرون في اوربا كروما ولندن وليدن وأكسفورد وامستردام وهامبورغ وبتافيا وجوتنجن والقسطنطينية.

استهدفت الشظية الثانية: سرقة الأرشيف اليهودي -الذي تم اخفائه في قبو جهاز المخابرات- من قبل العملاء احمد الجلبي وعادل مكية والعميل المغترب د. اسماعيل حجارة. وقد نقل فورا الى تل أبيب وقد ذكر النائب العمالي( موردخاي بن بورات) في حديث لصحيفة هارتس الإسرائيلية "تمكنا من الحصول على تعليق نادر لسفر أيوب نشر سنة 1487 وقسم من كتب الأنبياء المنشورة في البندقية سنة 1617 من مخازن حصينة لأجهزة الأمن العراقية في عهد صدام حسين. وليس من الصعب الحصول على أي شيء من اللصوص الذين ظهروا في أعقاب احتلال العراق. مضيفا بأن " الموساد تمكن من السيطرة على أكبر مكتبة يهودية أثرية في العراق، كانت محفوظة في جهاز المخابرات العراقي. تضم مخطوطات خطت باليد على لفائف البردي كالتوراة والقبالة و الزوهار ويعود تأريخها إلى(2500) سنة حفظت في العراق منذ السبي البابلي".

استهدفت الشظية الثالثة: الفن العراقي من خلال نهب لوحات ومنحوتات الفنانين العراقيين الرواد كجواد سليم وحافظ الدروبي وفائق حسن وغني حكمت وخالد الرحال وعطا صبري ونداء كاظم التي كانت محفوظه في(مركز صدام للفنون) وتم إستعادة حوالي(400) عمل فني من خلال مواطنين عراقيين شرفاء. في حين كان جهد الحكومة لإسترجاع ما نهب منها هشا كقشرة البيضة!

استهدفت الشظية الرابعة: سرقة متحف هدايا الرئيس الشهيد صدام حسين وكانت تضم عددا كبيرا من المخطوطات والكتب النفيسة والتحف الفنية. علاوة على سرقة مكتبة القصر الجمهوري.

الضربة الثالثة. كانت موجهة الى الحصن الثقافي الأخير وهو سوق الكتب والمعرفة وقد تحدثنا عنه في البداية.

كل عام يحتفي سوق المتنبي بذكرى شهداء الملحمة الثقافية الخالدين فتلقى القصائد والكلمات وتروى قصص الشهادة وتقام معارض للصور واللوحات. وهذا هو أقل مايمكن ان يجود به الأحياء لتكريم الشهداء. ونقترح بهذا الصدد على فنانينا الكبار إقامة نصب يخلد ذكرى الفاجعة في مدخل الشارع من جهة جسر الشهداء ليكون الجسر رابطا بين شهداء الماضي واحفادهم شهداء الحاضر.