أهو ذكاء أم غباء

(بين الرؤية الإستراتيجية والنظرة التكتيكية)

محمد قاسم "ابن الجزيرة "

[email protected]

إذا تتبعنا سلوك الحكام – والسياسيين عموما- تاريخيا وراهنا- في المشرق على الأقل- لا تخفى علينا الطريقة المتبعة للتفكير والسلوك لديهم..

ففي موقع الحكم يمارسون القهر والقوة الميدانية – إضافة الى المراوغة...- وبوسائل غير مقبولة أخلاقيا ومنطقيا، بل ولا بمعايير الحاجة الواقعية الى التطور...

وفي موقع الإدارة الحزبية ،يمارسون – على الأغلب- المراوغة، والفهلوة  تجاه الخصوم والآخرين عموما...

وإذا تأملنا سيكولوجية هذا التفكير والسلوك، - أو الذهنية والسيكولوجية (الثقافة)- - نجدها جلية لدى السياسيين في أحزاب ،أو في سدة الحكم ،أو من بعض المستقلين-  ما داموا يمارسون هذه الثقافة (  صيغة عامة لفهم الثقافة السياسية).

والملفت أنهم  يظنون أنهم الأذكى ...وبالتالي فهم يقدرون على الهاء الناس، وتضليل بوصلتهم دائما،  في نهج وعي المعطيات، ومن ثم بلورة المواقف بشأنها.

لذا فإن النهج الغالب في ذهنيتهم وسيكولوجيتهم-أو ثقافتهم-  هو اعتماد اتجاه اللعب بالآخرين، لتجنيدهم -أو تحييدهم- لأجنداتهم التي تصب -في حصيلتها- في خدمة طموحات شخصية، أنانية، بتجليات مختلفة؛ بحسب الظروف والاتجاه العام للمجتمع، أو أهوائه ومزاجه، وقلما نجد من يختلف عن هذا النهج، خاصة في ظروف الثقافة السياسية السائدة راهنا في المجتمعات المتخلفة –ومنها العربية طبعا.

عادة هناك بعض آليات اجتماعية-  كصيغ التفكير الكلاسيكية المتجذرة ، وتجلياتها العملية،في العادات والتقاليد  وقيم معينة...وما شابه... هذه الآليات تفرض ذاتها على (نمط التفكير والسلوك) ودعونا نشير إليه بتسمية:  "الذهنية والسيكولوجية" وأفضل تسمية: "  الثقافة" .

 فلنتفق- "  منذ اللحظة فصاعدا - على تداول مفهوم "الثقافة "  كبديل عن استخدام مفهوم "الذهنية والسيكولوجية"  بشرط  أن لا ننسى الصلة البنيوية بين كلتيهما، في مفهوم (الثقافة). والتي تختصرهما، وتشمل كل ما يتعلق بالحياة في عمومها وتفاصيلها.

هذه الآليات الاجتماعية تكون  أكثر حضورا في ميادين محددة، منها (الميدان السياسي).

 لكن الخاصة- أو الخصائص- العقلية  وفعاليتها في الإنسان –كالوعي، والمرونة، وإمكانية التغيّر والتغيير...الخ. هذه الخاصة –أو الخصائص - تعينه على أن يتجاوز هذه الآليات في صيغها البالية، أو الجامدة، أوالكلاسيكية عموما، لاسيما في الجانب العنفي والمتجاوز عموما:

 -  لفظيا، وهو ما يتعلق بآداب الحديث والحوار، والتعامل...والتعبير عموما... وقد يسمى في بعض تعبيراتها: الصيغة الدبلوماسية، في السياسة خاصة .

-  ميدانيا، ومن بعض تجلياته، مناوشات وعراك ضمن الحياة الاجتماعية العادية واليومية؛ تمثل تنفيسا عن بعض انفعال في لحظة محددة، تعالج بآليات اجتماعية عادية، وغالبا لا ضرر كبير منها، ومن تجلياته  الخطرة والأخطر، الحروب .

هذا الجانب المتجاوز عنفا ميدانيا- كالحروب وما تفرزها او تقاربها-  من الوسائل التي يتبعها السياسيون في تحالف مع بعض القيادات العسكرية –وغالبا مع الطغمة المالية .

 ما يؤسف له أن هذه الوسائل هي: جزء فاعل في الثقافة التي  يبدو أنها لم تطرح للتعديل، فكأنها جزء أصيل لا فكاك عنه. (لهذا، اعتبر بعض الفلاسفة وعلماء النفس...–ومنهم فرويد-"  أن العنف خاصة غريزية في الإنسان،وكان "مالتوس" يجد في ذلك معالجة لإعادة التوازن بين النمو السكاني والاقتصادي).

إن قيما كثيرة، جرى عليها تعديل نافع، ، وكان البشر يظنونها غير قابلة للتعديل؛ فلم لا يناقش أمر العنف الميداني كقضية قابلة للمعالجة والتعديل إلى ما يقلل من آثارها التدميرية للبشر والطبيعة؟!

إن التعامل مع قضية العنف الميداني كمهج ثقافي –تطبيقي- تمثل رؤية تكتيكية –على صعيد المستقبل البشري في الكون- وبالتالي فإن التفكير- وتطبيقاته-  في نطاق هذه الرؤية التكتيكية- قصيرة المدى-  ينمو على حساب الرؤية الإستراتيجية –بعيدة المدى-  ومن ثم فإنه يسهم في نمو النزوع الأناني لدى الشخص، -والجماعة- وكل الذين يعتمدون هذا النهج.

هذا النهج من التفكير الذي يتضمن الفهلوة، والميل الى توظيف العنف من اجل بلوغ مصالح خاصة على حساب قتل الآخرين أو تعذيبهم،أو حرمانهم،أو أي أمر آخر شبيه...هذا النهج يدفع نحو ردات فعل؛ تنمو فيها اتجاهات عنيفة مماثلة ، وفق صيغة: (عنف ينتج عنفا) وعلى هذا بنى الفيلسوف الألماني كانط ، برنامجه الذي ينظم طبيعة التعامل في الحروب ما دمنا لا نستطيع ايقافها. فيتجه البشر الى تبني صيغ أنانية - بفعاليتهم  المؤثرة  مباشرة على حياة الشعوب والأفراد ومن إفرازاته مقولات مثل:

-               "مية ام تبكي ولا تبكي أمي"  .

-              أو قد يتطور هذا النزوع الى مقولة "أنا أو الطوفان من بعدي".

-               أو "علي وعلى أعدائي" ..الخ..

-              أو الطموح المنحرف –شهوة الحكم والتحكم والاستغلال...ومفرزاتها السيئة والخطيرة على نموذح الحياة المعاشة خاصة في جانب التعامل.الخ.

-              ........

هذه المفاهيم –وامثالها- تنطوي على النزوع الأناني والعدواني معا، في نمط التفكير وتطبيقاته-السلوك-وضعف الشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الحياة عموما، والشعوب خصوصا...

الأصل في الحياة الطبيعية-كما أفهمها- أن يعيشها الإنسان بما فيها من ايجابيات، ومحاولة زيادتها، والعمل على استبعاد السلبيات الى الدرجة الممكنة، ويجهد للمساهمة في عمارها، ويحصل على ما يستحقه  فيها ، يرتد عليه؛ شهرة، رفاهية، شعورا بالخلود والسعادة...الخ.

 لكن النزوع الأناني عندما يغلب في النفس؛ فإن المقاييس تختلف، وينحسر–غالبا- دور المنطق العقلي المتوازن، لصالح هيمنة النفس وما فيها من قوى تلقائية وعشوائية، فيصبح العقل عبدا للأهواء..وهنا الطامة الكبرى.لذا يقال " فلان استعبدته نفسه، أو شهواته".

للأسف هذه الخصائص أكثر وجودا وحضورا وعمقا ... لدى غالبية السياسيين ، خاصة هؤلاء الذين يمسكون بزمام الأمور؛ عبر الحكم والتحكم –هذه الخاصة التي هي من مفرزات النزوع الأناني الذي غلب في حياتهم، بعد إذ استمرؤوا الحكم ومزاياه... و الشعوب هي  الضحية عادة.

 تاريخيا، قامت الشعوب بثورات قدمت في سياقها الكثير من التضحيات، من اجل التحرر من هذه الهيمنة السياسية؛ وعبر حكام  تستعبدهم شهوة الملك-الحكم- ويحاولون البقاء على الدوام.

 بسبب الأخطاء التي أنتجتها الحالة؛ فقد لجأت الشعوب من خلال نضالها،إلى تغيير وتطوير نظم الحكم.

 فألغت الملكيات، أو قلصتها إلى أدنى حدودها، وابتكرت نظما جمهورية، تتوزع فيها المسؤوليات، ويقل دور الحاكم فيها إلى أدنى حد ممكن، بحيث لا يؤثر على حسن أدائه للحكم لمصلحة الشعب عموما- او في صيغة تعاقدية لكل طرف وظيفته المحددة والمنتظمة بتواوزن يضمن سير حياة وعمل كل طرف، بحرية معقولة ومرونة تسمح بالتغير والتطور...هذا ما نشهد الكثير منه في الغرب والعالم المتقدم عموما..

ولئن لم تبلغ هذه ا لتجربة حد الكمال- يقر المفكرون فيها بذلك - لكنها اختطّت الدرب الى اتجاه قد يؤدي الى أعلى نسبة ممكنة من الكمال، في الزمن القادم من الحياة-.

فإذا دققنا في ثقافة الشعوب المتخلفة –والأفضل أن نقول في ثقافة النظم المتخلفة، -لأن الشعوب هنا ، ذات فاعلية ضعيفة واهنة- وتكاد تتحول الى كائنات تهتم –فقط بالطعام، وبعض أمان مزيف؛ بالوجود الكثيف لأجهزة  أمنية قمعية، تمثل الركيزة الأساسية للنظم المستبدة ،وقد تجاوزت تأثيراتها الفعل في بنية الثقافة الاجتماعية كلها.... حتى استحالت إلى أجهزة بعدت المسافة –إنسانيا –بينها وبين الحياة الطبيعية للبشر. بل لقد تجمدت ذهنياتها –أو هكذا فرضت النظم عليها – عند حدود ممارسات لا تنتبه إلى طبيعتها، ولا إلى انتمائها –ربما-  هل هو الى البعد الإيجابي في عمارة الحياة، ام إلى البعد السلبي المدمر للذات والآخرين والطبيعة ذاتها...

هنا تصبح ثقافة حياتية؛ تُمارس يوميا ، وليس مجرد سلوك متجاوز لأفراد أو جماعات كما يحلو للنظم دائما أن تدّعي.

فهل هؤلاء الحكام  أذكياء ؟

ام أنهم غلّبوا الشر في ثقافتهم،على الخير؟

 وتضخمت الأنا لديهم في اتجاه السوء؟

 فتنازلوا عن الخير في شخصيتهم؛ لتنمو نزعة الشر وتتضخم الى الدرجة المشكو منها في شعوب العالم، والتي تعاني منها...؟!

نردد –مع المفكر المصري المعروف خالد محمد خالد: من أين نبدأ...؟!