إكراه المرأة على الزواج، الأسباب والنتائج

د. عامر حسين أبو سلامة

ظاهرة تزويج المرأة غصبا عنهاُ، ظاهرة موجودة قديماً وحديثاً، وهي ظاهرة مؤلمة ومؤسفة، لها آثارها وتداعياتها السلبية، وتقود في غالب الأحيان_ إلى عواقب وخيمة، وتؤدي إلى مصاعب ومصائب.

والحق، أن هذه الظاهرة، بدأت تزول تدريجياً في بعض المجتمعات بحكم عوامل متعددة، لعل في مقدمتها:

التعلم والتحضر، وترك التقوقع، والانفتاح على المجتمعات التي تعرف حق المرأة في هذا الشأن.

كما أن عوامل التربية الشرعية والنفسية والاجتماعية، كان لها أكبر الأثر في هذا التحول.

لكن الظاهرة_ رغم كل التحول_ مازالت واقفة على أقدامها، بارزة بقرونها، واضحة بكل ملامحها.

من هنا، كان لزاماً، أن تعالج هذه الظاهرة، من أجل القضاء عليها، بإذن الله تبارك وتعالى.

إشاعة للخير في مجال حقوق الإنسان، فمن حق المرأة ألا تزوج إلا بمن ترغب، فإن لم يكن ذلك كذلك، فهو عدوان صارخ عليها، وظلم واضح تجاهها، وعودة إلى الروح الأولى، ولو بلون من الألوان الخافتة أو الساطعة الظاهرة.

.ííííí.

وإذا أردنا أن نتعرف الموضوع، بشكل صحيح، ودقيق، وواقعي، لابد لنا من معرفة أسبابه، إذ المقدمات تدل على النتائج.

ولعل_ والله أعلم_ من أبرز الأسباب ما يأتي:

آراء بعض الفقهاء: إن بعض الفقهاء، يرون أن إجبار الأب على تزويج ابنته البكر_ كمثال_ جائز شرعاً.

لذلك فإن كثيراً من الذين يكرهون الفتيات على الزواج يأخذون بهذه الآراء، وينهجون نهجها، وهم صادقون في هذا اتباعاً للمذهب الفلاني، وأخذاً برأي فلان من الفقهاء.

وقسم من الناس، ليسوا صادقين في هذا التوجه، إنما جعلوا آراء هؤلاء العلماء تكأة لهم، وذريعة يتذرعون بها، وحجة يستندون إليها، لتبرير سلوكهم، لا أكثر ولا أقل.

فإذا قلت لأحدهم: يا رجل اتق الله تعالى، وهذا الأمر الذي أنت عليه، في تزويج ابنتك بمن تكره، غير صحيح، وليس منطقياً، انبرى لك بالقول، أنت أعلم من الإمام الفلاني،والشيخ العلاني؟؟! والحق:

إن آراء العلماء، فوق العين والرأس، ولا يجوز التقليل من شأنها، فضلاً عن تحقيرها، أو السخرية منها، أو الهزء بأصحابها من العلماء، وهذا لا يجوز_ إن لحوم العلماء مسمومة_ ولكن يسعنا خلاف العلماء، في بناء الحياة، وصناعة الأمة في كل مفردات الصناعة، والذي يلزمنا من ذلك إجماعهم، وما سواه نخضعه_ كباحثين_ لقاعدة، الفقه المقارن_ الاستدلالي_ الترجيحي.

طبيعة النظر إلى المرأة في بعض المجتمعات:

ذلك أن قسماً من المسلمين_ خصوصاً في بعض المناطق التي لها طابع معين_ ينظرون إلى المرأة، بمنظار فيه تقليل من شأنها، بل حط من قدرها، حتى وصل الأمر ببعضهم أنه إذا ذكر المرأة في مجلس الرجال، يعقب بعد ذلك بقولة( أكرمكم الله)، وكأنها جيفة من الجيف، أو قاذورة لا يريد أن يدنس المجلس برائحة ذكرها.

من هنا كان النظر إلى هذه المرأة، على أنها كيان، لا حول لها ولا قوة، ولا رأي لها، حتى في شؤونها الخاصة، فإذا قرر أبوها أو أخوها أو عمها أو....الخ أمراً فليس لها إلا السمع والطاعة، والويل كل الويل لها، إن نطقت بكلمة، أو نسبت ببنت شفة، لأن هذا سينزيل عليها سخط العائلة، والقبيلة، لأنها_ بنطقها_ تنكس رأس أهلها، وجلبت لهم العار، وسبب ذلك على تعبير بعضهم: (نحن لا يوجد عندنا بنات تعترض على خيار وليها لها، في شأن الزواج)، ويعتبرون هذا من الأصالة، ومن الشرف، ومن تربية العرف العائلي، الذي من خلاله رفعوا رؤوسهم أمام جميع الناس.

هذا تصور جاهلي، ما أنزل الله به من سلطان، بل إن كتاب الله تعالى، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرة سلف الأمة، وإجماع العلماء، على خلاف هذا، في النظر إلى المرأة.

الطمع والجشع:

إن الطمع والجشع، إذا سيطر على عقل وقلب صاحبه، فإنه يعميه، فلا يعود يرى إلا هذا الذي يطمع فيه، ولا يشعر إلا بالذي يتطلع إليه، ولا ينظر إلى ما يتشوف له، ولعل من أبرز مظاهر الطمع والجشع، حب المال، وجمعه، ( وحب الدنيا، رأس كل خطيئة) وأساس كل  كارثة، ومصدر كل طامة.

فهناك أناس ملك حب المال، عليهم كل شيء لديهم، فما عاد يفكر إلا  فيه، فله يحب ويكره، ومن أجله يصالح ويسالم، أو يقاتل ويخاصم، وفي سبيله يفعل كل شيء.

فهذا الصنف من الناس، إذا أراد أن يزوج ابنته، فلا يلتفت إلا إلى هذا المعنى، المهم عنده المال، فإذا بذل له واحد مالأ، وآخر مثله، فلا يفكر إلا في الذي يبذل أكثر، ويعطي له ما يروي ظمأه، ويلبي داعي الجشع لديه.

حتى ولو كان ما كان، في مجال السن والخلق والدين، ولو كرهت البنت هذا الذي تقدم إليها.... والمهم المال، ولا شئ غير المال، وكأن القضية قضية بيع وشراء.

عقد النقص:

إن بعض الناس، تسيطر عليه عقدة نقص ما، لسبب ما، نتيجة سوء التربية، أو ضعف الإيمان، أو عوامل ضغط المجتمع، بصورة أو بأخرى.

فيريد أن يسد هذا النقص، ويحاول أن يملأ هذا الفراغ الذي يعيشه.

ومن صور ذلك، حب الجاه، والمنصب، أو عشق أن يكون شيئا مذكوراً، أو رغبة أن يشار له بالبنان، وتعقد عليه الأنامل، وأن تقضى له الحاجات، وتلبى له الطلبات.

من هنا، فإنه إذا تقدم له أحد الناس، يريد الزواج من ابنته، فلا يلتفت إلا إلى منصبه، وشهادته، وجاهه، ومكانته الاجتماعية، فإذا رأى واحداً ممن يصدق عليه وصف ما، في تصوره، فإنه يوافق عليه، وبلهفه وشوق، وكأنما سقط على كنز ثمين، ليرفع به خسيسته، أو ليحل له عقدة نقصه، أو ليسد له خللاً في نفسه، دون النظر_ كذلك_ إلى دينه أو خلقه، ولو لم توافق الفتاة عليه، وهنا بيت القصيد، فيضغط عليها بكل السبل، لتمرير هذا الزواج، ويتمه ولو كرهت.

جهل بعض أولياء الأمور:

هذه مصيبة من المصائب، إذ من خلالها تضيع كثير من المصالح، ويفرط بالعديد من الحقوق، وتحل المصائب على الفرد والأسرة والمجتمع بسببه.

من هنا، تلاحظ، إن بعض الآباء الجهلة، إذ يزوج ابنته، لا يلاحظ المعاني النفسية والعاطفية، بالنسبة لهذه البنت، بل لا يخطر له هذا الأمر على بال، وكأنها جماد، لا مشاعر لها، ولا عواطف، ولا رغبات، ولا حرية لها في تقرير مصيرها.

إن جهل بعض الآباء، أو بعض أولياء الأمور عامة، يدفعهم إلى التفكير بمقاييس الزوج، بمنظار ما، يختلف عن المنظار الذي ترى فيه الفتاة مقاييس الزواج.

حرص أولياء الأمور، على تزويجهن بناتهن، ستراً لهن، أو تأميناً لمستقبلهن، أو خوفاً عليهن من الضياع، أو الفساد، أو الانحراف.

والشعار: (مستقبل المرأة زوجها وبيتها وأولادها).

وهذا في عمومه، أمر طيب، وجيد، وشرعي، ومطلب واقعي، ويحمل في طياته معالم المصلحة لهذه البنت، والخوف عليها من قادمات الأيام.

على أن لا يكون هذا الأمر، على حساب إرادتها واختيارها.

والذي يحصل في مثل هذه الحالة، ومن الدافع المذكور آنفاً، أن الأب، أو ولي الأمر، يقوم بتزويجها جبراً، دون النظر إلى موافقتها.

فيزوجها، ولو كرهت، ويقذف بها إلى بيت الزوج الكارهة له، ولو مكبلة، ويدفع بها إلى مستقبل، وإن لم تره، ويسوقها للسير في طريق، لا تحبه ولا ترتاح إلى مؤداه ونهايته.

فأراد الخير، لكن وقع في الشر، بحث عن المصلحة، لكن سقط في المفسدة، أراد لها الحياة الرغدة، فجعلها في سجن مظلم، لا تحمد عواقبه، وعلى كل المستويات.

.ííííí.

أما النتائج السلبية التي تترتب على حدوث هذا الآمر، فكثيرة، لكن يمكن أن نذكر أبرزها بما يأتي:

1_ الألم الذي يلحق المرأة التي تتزوج مكرهة، وياله من ألم عظيم، وحسرة كبيرة، وجرح غائر يكاد أن لا يندمل.

وهذا من الظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة.

2_ قيام الحياة الزوجية_ بناء على الناتج الأول_ على غير المودة والرحمة، فينعدم الهدوء، وينحسر مد الرحمة، وتنقطع حبال المحبة، ويتحقق الاضطراب، ويحل القلق، عوضاً عن الطمأنينة والاستقرار.

وتصور معي، أن حياة بيتية، هكذا عنوانها، كيف سيكون حالها؟!!

3_من ثم نقول: تحقق الهم والغم على هذه المسكينة، وعاشت حالة (الكآبة)      والحزن القاتل.

وهذا أمر له تداعياته على صحة البدن، واستقرار النفس وطمأنينتها، وينسحب بعد ذلك، على كل مفاصل حياة هذه المرأة، ومن حولها، على اختلاف صيفة كل واحد منهم.

(واتقوا فتنة لاتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)

4_ التعرض للفتنة: إن سبب ردة الفعل الخاطئة الآثمة، وإن بعلة عدم الإرواء العاطفي، والاستقرار النفسي، فيحدث ما لا تحمد عقباه.

وكم سمعنا من قصص في هذا المجال، يندى له جبين المرء.

.ííííí.

_ لذا فالراجح من أقوال أهل العلم، ما ذهب إليه الحنفية، ومن وافقهم، من عدم جواز، تزويج المرأة وهي كارهة، بل لابد من رضاها، وإلا فإن العقد قابل للفسخ، وهذا حق من حقوق المرأة.

يقول الإمام المرغيناني في الهداية(1/213): (ولا يجوز للولي إجبار البكر البالغة على النكاح)1:هـ.

واستدلوا بجملة من الأدلة، منها: ما أخرجه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه_ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن)

وأخرج أبو داود وابن ماجه بسند صحيح، عن ابن عباس_ رضي الله عنهما_ أن جارية بكراً، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له أن أباها زوجها، وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم.

يقول ابن القيم_ رحمه الله_ في(زاد المعاد)(5/96): (لا تجبر البالغ على النكاح، ولا تزوج إلا برضاها، وهذا قول جمهور السلف، ومذهب أبي حنيفة، وأحمد في أحدى الروايات عنه.

وهذا القول الذي ندين الله به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره، ونهيه، وقواعد شريعته، ومصالح أمته)1هـ.

من هنا، كان لزاماً على الآباء، وأولياء الأمور، أن يتقوا الله عز وجل، في بناتهن، فلا يزوجوهن إلا بمن يرغبون، ويوافقون عليه.

كما علينا أن نعمم_ بكل وسائل التربية والتوجيه_ ثقافة عدم الإكراه، وبيان مضار الزواج من غير رضاً وقناعة، إن لم نقل، من أجل منع هذه الظاهرة، فعلى الأقل حتى نقلل من حدوثها في المجتمع.

وعلى الدولة، والمهتمين بقانون الأحوال الشخصية، أن يجعلوا (عدم جواز الزواج بالإكراه) مادة من مواد القانون، التي بناء عليها، ولا يحقق للقاضي أو كاتبه،أن يمضوا عقداً، إلا بعد التأكد من رضا المرأة بهذا الزواج، ومن خالف فإنه يكون عرضة للعقاب.