"السلميّة" مرة أخرى وأخيرة

مجاهد مأمون ديرانية

رسائل الثورة السورية المباركة (52)

الثورة السورية: المرحلة الثانية (18)

"السلميّة" مرة أخرى وأخيرة

مجاهد مأمون ديرانية

فأما أنها مرة أخرى فلأني سبق وأن كتبت مقالة كاملة عنوانها "إعادة تعريف السلمية" ومقالة كاملة عنوانها "حماية الثورة وحق الدفاع عن النفس"، ولأني كرّرت ما أقصده بالسلميّة حتى مللت من نفسي قبل أن تملّوا أنتم مني. وأما أنها المرة الأخيرة فلأني أدرك أنكم ستتوقفون عن قراءة ما أكتبه لو مضيت بتكرار المعاني نفسها بلا نهاية، ولأن علينا أن ننتقل إلى الخطوات العملية المفيدة لا أن نستمر بالدوران في تلك الحلقة المفرغة: سلمية، لاسلمية، سلمية، لاسلمية...

سأعرّف "السلمية" المقصودة للمرة الألف، واسمحوا لي أن أنقل فقرتين من مقالتين سابقتين:

قلت في مقالة "إعادة تعريف السلمية" التي كتبتها يوم الجمعة 9 أيلول: السلمية موقف تُمليه المصلحة ويُختار بمفاضلة أقل الضررين وليست مبدءاً أخلاقياً مطلقاً، والسلمية لا تعني الاستسلام لأن الاستسلام سلوك قبيح لا يلجأ المرء إليه إلا مضطراً وتجنباً لشر كبير. وقلت في مقالة "حماية الثورة وحق الدفاع عن النفس" التي كتبتها يوم السبت 17 أيلول: الفرق بين الثورة السلمية والثورة العسكرية هو في آليات التغيير. الثورة المسلحة تسعى إلى إسقاط النظام بالقتال والقتل، فتحمل جماهيرُها السلاحَ وتخوض معارك مسلحة ضد الخصم (النظام) فتقتل عناصره وتغتال رموزه وتهاجم مراكزه بالسلاح، ويمكن أن تلجأ إلى العمليات الانتحارية لاستهداف مراكز وشخصيات أمنية، إلى غير ذلك من أوجه استعمال السلاح بكل شكل متاح. بالمقابل فإن الثورة السلمية ترفض أن تستعمل السلاح في فعالياتها الثورية وتعتمد على الضغط الجماهيري البشري السلمي كما رأينا في سوريا حتى اليوم. لكن أجهزة النظام المجرمة لا تقتصد في حمل السلاح واستعماله، فتهاجم المتظاهرين العزّل بالرشاشات والقنّاصات وتقصف القرى والمدن بالمدافع وتقتحمها بالدبابات، أليس من حق الثورة السلمية أن تدافع عن نفسها ولو بالسلاح؟ وهل تتحول إلى ثورة مسلحة لو فعلت؟ بلى، من حق الثورة أن تدافع عن نفسها ولو بالسلاح. ولا، لن تتحول إلى ثورة مسلحة بمجرد الدفاع عن النفس.

*   *   *

أرجو أن يكون في الاقتباسَين السابقين ما يُغني عن أي تكرار لاحق وأن يوضح تماماً ما أعنيه كلما كررت مصطلح "سلمية" من الآن إلى آخر يوم في عمر الثورة بإذن الله، إذ لا يُعقَل أن أشرح المصطلح كلما استخدمته، ولا أريد أن يضيع الوقت في خلافات ومناقشات على الألفاظ لا على المعاني.

الذي أتمناه وأرجوه من إخواني الثوار الأحرار الكرام في سوريا هو أن لا يُعَسكروا الثورةَ نفسها، بمعنى أن لا يحوّلوها إلى ثورة عُنفية تسعى إلى التغيير بالسلاح، لا أن يتوقفوا عن الدفاع عن أنفسهم وعن ثورتهم. أنا لا أدعو إلى "السلمية المطلقة" ولم أكن يوماً من دعاتها، ورأيي أنّ مَن ضربني على الخد الأيمن فإني أضربه على خدّيه الأيمن والأيسر معاً، وإذا استطاع الثوار أن يدافعوا عن أنفسهم وعن أعراضهم وممتلكاتهم بالسلاح فليدافعوا بالسلاح، بشرط أن لا يتسبب دفاعهم المسلّح في ضرر أكبر من ضرر عدم الدفاع. فلا تخلطوا بين ما يروّجه البعض على أنه مبدأ أخلاقي صارم وبين ما نختاره لثورتنا من باب المصلحة.

للتوضيح وليفهم كل الناس الفرق بين الثورة السلمية والثورة المسلحة يكفي أن أقدم بعض الأمثلة على الثورات المسلحة، وبعد تأملها سنجد أن الثورة المسلحة تتميز بخمس خصائص تجعلنا نفكر ألف مرة قبل اختيارها طريقاً للتغيير في سوريا:

(1) النسبة الأعلى من الثورات المسلحة تنتهي إلى فشل.

(2) أكثر الثورات السلمية انتهت في أسابيع أو شهور، أما الثورات المسلحة فمن النادر أن تنتهي قبل مرور سنوات طويلة، ربما عشر سنوات أو أكثر.

(3) محصلة الضحايا في الثورات المسلحة تزداد على الأقل بمقدار خانة واحدة عنها في الثورات السلمية (أي أنها تتضاعف عشرة أضعاف فأكثر)، ودائماً يكون أكثر الضحايا من المدنيين.

(4) ليست الزيادة والمضاعَفات هي في أعداد القتلى فقط، بل تشمل جميع أنواع الإصابات، بما فيها أعداد الجرحى والحوادث البشعة كالتعذيب والاغتصاب، وأيضاً الخسائر المادية من نهب وتدمير.

(5) أخيراً فإن تسليح الثورة يحوّلها في أغلب الأحوال إلى حرب أهلية، وذلك لأن انتشار السلاح يشجّع على استثمار التناقضات الكامنة -من اختلافات عرقية ودينية وطائفية- واستقطاب أطرافها لهذا الطرف أو ذاك.

*   *   *

وإليكم -ختاماً- قائمة بعدد من الثورات المسلحة التي يعيها الكبار من أمثالي لأننا عاصرناها، وأكثرها تنطبق عليه أكثر الخصائص الخمس السابقة، أسردها فيما يأتي -مرتّبة تاريخياً- بلا تعليق وأختم بها المقالة:

(1) الثورة الكردية المسلحة بقيادة مصطفى البرزاني ضد نظام البعث في العراق (1961-1970): لم تحقق الثورة أي نتيجة تُذكَر. الضحايا من الطرفين 105 آلاف.

(2) ثورة الشيوعيين في ظفار أيام السلطان سعيد بن تيمور (1962-1975): انتهت بهزيمة الثورة. الضحايا من الطرفين 10 آلاف.

(3) الثورة اليمنية على النظام الملكي (1962-1970): شاركت فيها قوات مصرية، انتهت بسقوط النظام الملكي وولادة الجمهورية العربية اليمينة. الضحايا من الطرفين 126 ألفاً.

(4) ثورات مسلحة في كولومبيا (1964 إلى اليوم): لم يتحقق أي حسم بين أيّ من أطراف النزاع حتى اليوم، وغرقت البلاد في حكم العصابات وتجّار المخدرات. الضحايا 200 ألف أو أكثر.

(5) بيافرا (نيجيريا) (1967-1970): كانت ثورة مسلحة هدفها فصل إقليم بيافرا عن نيجيريا في دولة مستقلة، انتهت الثورة بالفشل وعاد الإقليم إلى نيجيريا. الخسائر نحو مليون قتيل.

(6) الصحراء الغربية (1975-1991): الثورة قادتها جبهة البوليساريو بهدف الانفصال عن المغرب، انتهت بلا نتيجة وبقي الإقليم تحت السيادة المغربية. الضحايا بحدود 24 ألف قتيل.

(7) ثورة موزمبيق (1977-1992): انتهت بانهيار النظام الماركسي الحاكم وإنشاء حكومة برلمانية. الضحايا 900 ألف قتيل.

(8) أفغانستان (1979-1989): انتهت الثورة بانتصار المجاهدين الأفغان وهزيمة الحكومة الشيوعية وانسحاب الجيش الروسي من أفغانستان. الضحايا أكثر من مليون.

(9) سيريلانكا (1983-2009): انتهت الثورة قبل نحو سنتين بالقضاء على جبهة نمور التاميل المتمردة وتصفية المتمردين والقضاء على قياداتهم. الضحايا نحو 100 ألف قتيل.

(10) السودان (1983-2005): النتيجة انفصال جزء من السودان في دولة مستقلة بدعم ورعاية غربية أميركية. الضحايا نحو مليونين.

(11) ثورة الأكراد في تركيا بقيادة حزب العمال الكردستاني (1984-اليوم): لم تحقق الثورة أي نتيجة حتى الآن. الضحايا 56 ألف قتيل.

(12) الثورة المسلحة في الجزائر (1992-2002): بدأت بسبب إعلان حالة الطوارئ وإلغاء الانتخابات التشريعية التي فاز فيها الإسلاميون، واستمرت عشر سنوات دون أن تحقق أي نتيجة. الضحايا نحو 200 ألف قتيل.

وبطبيعة الحال فإننا نعتبر الأحداث الدامية التي وقعت في سوريا في السبعينيات والثمانينيات نوعاً من أنواع الثورات المسلحة، وقد نتج عنها عشرات الآلاف من الشهداء وعشرات الآلاف من المعتقَلين والمعذَّبين ومئات الآلاف من المشردين خارج سوريا، دون أن تؤدي إلى أي تغيير حقيقي.