العلماء بين المحنة والامتحان
محمد فاروق الإمام
[email protected]
قد أتفهم الأسباب التي دعت بشار الأسد كي يلوي عنق الدستور ويغير أهم مواده المتعلقة بسن الرئيس لتتوافق مع عمره كي يعطي رئاسته لسورية نوعاً من الشرعية حتى وإن كان مشوهاً، ولكنني لا أستطيع أن أتفهم ليَّ بعض علماء الشام لعنق الآيات والأحاديث خدمة للسلطان وتبريراً لجرائمه!!
فقد سمعت العجب العجاب من بعض علماء السلطان في بلدي سورية وهم يلون عنق الآيات والأحاديث لإرضاء السلطان وتبرير مجازره وقمعه للمتظاهرين من خلال فتاواهم التي ما أنزل الله بها من سلطان حول تحريم المظاهرات والخروج على السلطان، بحجة درئ المفاسد وسد الذرائع، مغمضين أعينهم عن أن الأسس الشرعية في عدم الخروج على السلطان ينصرف، كما جاء في مداخلة الشيخ محمد أبو الهدى اليعقوبي المدرس في المسجد الأموي في دمشق في الحلقة الأخيرة من برنامج (الشريعة والحياة) التي بثت يوم
الأحد 2 تشرين الأول الحالي من قناة الجزيرة، "ينصرف إلى الإمام العادل، والإمام الكافر يجب عقده بالإجماع أيضاً والإمام الفاسق، ويستشهد بما نقل عن الإمام النووي الإجماع على عدم جواز الخروج عليه درءاً من الفتنة، فبقي الإمام الجائر، الإمام الجائر إذا عم جوره، يقول الإمام الجويلي، ولم يَرْعَوي عن ظلمه ولم يرجع عنه، نقل هذا الكلام الإمام سعيد التلسماني في آخر صح المقاصد، قال وجب عزله ولو بشهر السلاح وإقامة الحروب. والإمام العلامة ابن العابدين في رد المحتار في الحاشية الشهيرة أيضاً
في كتاب البغاة في المجلد الثالث عرض لهذه القضية والأصل الأول الذي ينبغي أن ننظر فيه هو أن من خرج على الأمام بحقٍ لا يسمى باغية، وهذا كلام الإمام الحصكفي صاحب الدر المختار في تعريف الخوارج، فالخوارج كما قال هم الخارجون على الإمام بحقٍ بغير حق، فلو بحقٍ فليسوا ببغاة هذا الأصل الأول، نقل عن جامع الفصولين أيضاً أنهم لا يعانون ولا يعانُ عليهم، ثم ذكر الإمام ابن عابدين أيضاً في صفحة 311 من الحاشية كلاماً معناه أن من خرج لظلمٍ لحق به أو نزل به لا شبهة فيه وجب على الناس معاونتهم،
فهذا الأصل إذن وجوب مسلط من ظلم ووجوب عزل الإمام لهذا الظلم الذي أنزله بالناس".
نحن هنا يا علماء السلطان لا نتكلم عن حادثة فرضية، لا نتكلم عن ظلم في الأموال أو في شيءٍ من الدماء فيه شبهة نزل ببعض أفراد الناس، وإنما نتحدث الآن عن أمة تقتل، نتحدث عن مساجد تقصف، نتحدث عن أعراض تنتهك، نتحدث عن ظلمٍ وقتلٍ، هذا لا يسمى خطأً، وقد اعترف بشار الأسد فقد قال هناك أخطاء ارتكبت، وأنا أقول له الأخطاء تقال هذه إذا كان إنسان أخطأ في تهجئة كلمة يقال أخطأ، إذا أخطأ في شيءٍ في تصحيح أوراق امتحانات يقال أخطأ، أما الخطأ في قتل الشعب وفي انتهاك الأعراض وفي
تعذيب الأطفال وفيما يجري هذا لا يسمى خطأ هذه جرائم حرب، والإسلام لا يقر هذا الظلم إطلاقاً.
من يتتبع التاريخ السياسي الإسلامي، يجد أن السياسي العادل لا يخشى التعددية لأنه لا يخفي ما يخاف أن يكشفه أحد، صدق نفسه؛ فصدقه الناس خاصة وعامة، وصلحت أحوال الناس دين ودنيا، بينما السياسي الجائر يهاب تلك التعددية لأنها ستكشف المستور الذي يغضب العامة ويهز أركان عرشه، ولا سبيل إلى قطع هذا الطريق في نظره إلا بتقريب بعض العلماء تحت عباءته ورهن إشارته لكي يكونوا واجهة تجاه مخالفيه ولو بليهم لعنق الآيات والأحاديث وتسخيرها لخدمة أهداف السلطان وتبرير جوره، ولن يتردد
في سجن ناصح أو قتل منكر عندما يمس شيئا من زوايا ملكه مهما علا علمه أو جل شأنه أو صدق نصحه؛ فلا دين يعلو تدينه، ولا فتاوى تعلو فتاوى علماء بلاطه، وهذا ما فعله بشار الأسد بعلماء الشام الذين لم يبيعوا دينهم بدنياهم ووقفوا إلى جانب الحق وإرادة ومطالب الشعب المحقة وصمدوا أمام الامتحان وصبروا على المحنة فكانوا بين مطاردين أو معتقلين أو مهجرين أو مقتولين، فبشار لا يقبل الحوار معه في ذلك ولو بالحسنى والكلمة الطيبة، وحبل الإصلاح في قاموسه شر مقطوع!!
وعن الموقف من عامة مواقف مشايخ سورية مما يجري فيها من مظاهرات واحتجاجات وسلوك نظام يقول الشيخ اليعقوبي:
"الساكت معذور لأن القهر والظلم والضغط شديد جداً، ولكن نحن لا نعذر من يؤيد هذا النظام، الذي يؤيد هذا النظام في هذا الوقت الذي يريد أن يؤيده فيه الظلم مشترك معه في الظلم والذي يؤيده في القتل مشترك معه في القتل لأنه يعينه على ذلك كما جاء في حديث النبي عليه الصلاة والسلام ولو بشطر كلمة، فهذا لا يجوز إطلاقاً وحديث الفتن وما جاء في كلام النبي عليه الصلاة والسلام في الفتنة العمومية هي التي لا يعرف فيها الحق من الباطل، أما هذا الحق الباطل ظاهر الآن، الحق الباطل
ظاهر والعدل من الظلم والبريء من الظالم هذا معروف ومشهور وإعانة الظالم حرام ونصرة المظلوم واجب شرعاً".
إن أكثر عصور التاريخ الإسلامي ثراء العصور التي كان العلماء فيها متحررين من سلطة الحاكم وشرعنة توجهاته، وبالضد نتج الضد؛ فكلما اقترب العلماء من بلاط السلطان، زاد توسعهم في جلب دعاوى درء المفاسد وسد الذرائع ونحوهما خوفا من غضب السلطان عندما يصدر عنهم ما يخالف خطه السياسي؛ لذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم العلماء بقوله: "من أتى أبواب السلاطين افتتن، وما ازداد أحد من السلطان قربا إلا ازداد من الله بعدا". فالعالم يستمد صدقه من صدق ما يحدّث به لا من درجة قربه
من السلطان، بل إن أكثر علماء السلطان في التاريخ الإسلامي كانوا أقل أقرانهم دفعا لظلم الحاكم شعبه، وأكثرهم عونا - بالقول أو الصمت - على دعمه في بطشه بالمخالفين حتى لو كانوا ناصحين، وما استمد الظالم قوته إلا من علماء بلاطه الذين رسخوا في مخيلته احتكار تفسير الدين حسب سياسته، وازدادوا ولاء بتصديهم للمنكرين عليه بشرعنة ما يقوم به بدعوى السمع والطاعة ما لم تروا كفراً بواحاً، وكأن الإنكار على تجاوزاته، والجهاد بقول كلمة الحق تجاه سلطانه الجائر نوع من الخروج يستدعي العقاب!!
لو سبرنا تاريخنا الإسلامي واستعرضنا بعض الأمثلة من صفحاته، لوجدنا ما يغذي هذه الظاهرة. الإمام سفيان الثوري كان أكثر علماء زمانه علماً بالحلال والحرام، كما قيل عنه في كتب السير والتراجم، وقد ضاق خلفاء بني العباس به ذرعا من جرأته في قول الحق؛ فنصحه بعض علماء السلطان بقبول عطايا الخليفة؛ فغضب وقال: "بهذه تمندل بنا الملوك!!". وضيق عليه في آخر حياته حتى مات مختفيا من بطش الخليفة. وسجن ملك دمشق الإمام العز بن عبد السلام لأنه لم يكن يدعو له في الخطبة دعاء يشتهيه
كما يفعل باقي الخطباء، وهذا ابن تيمية صدح بالحق؛ فتكالب عليه غضب السلطان وخور قضاة البلاط فسجنوه في سجن القلعة الكبير في دمشق لأنه خالف هؤلاء العلماء في مسألة فقهية من مسائل الطلاق!! ومات في سجنه، بل إن من أكثر الشواهد في التاريخ الإسلامي بشاعة في درجة احتكار الحاكم تفسير الدين لتصفية خصومه ما جرى في فتنة خلق القرآن. فقد قرب المأمون بعض علماء المعتزلة ليستمد منهم غطاءً دينياً للتنكيل بخصومه من الحنابلة، ثم جاء المتوكل بعده ليعكس المعادلة حسب هوى السياسة فيقرب منه علماء
الحنابلة وينكل بخصومه بغطاء ديني. هكذا هو مآل احتكار السلطان الدين سياسيا، وما علماء البلاط إلا أدوات لترسيخ حكمه، وشرعنة بطشه بخصومه تحت شعار السمع والطاعة متناسين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، وليس قول كلمة الحق من الخروج في شيء إلا عند بعض علماء بلاط السلطان!!