روسيا ترتزق.. وسوريا تحترق
عبد الله زنجير * /سوريا
يبدو أن الدب الروسي لم يتأدب ، رغم كل كدماته و نكباته التي كانت في أفغانستان أولا ( 1979 - 1989 م ) و بلاد الأباظة و الشيشان و جورجيا و أوكرانيا إلخ ، كما دومينو الهزائم الاستراتيجية في أوروبا الشرقية و آسيا الوسطى و سواها ، و التي قلصت من جغرافيته قرابة الربع لتكون مساحة روسيا الإتحادية الحالية 17075200 كم مربع و عدد سكانها 150 مليون نسمة ، بعد أيام زمان حين كانت مساحة ما سمي بالإتحاد السوفييتي - القوة العظمى الثانية - أكثر من 22 مليون كم مربع و 294 مليون نسمة و 16 دولة من مختلف الأعراق و الأديان والألوان . و أيضا لم يكن للبريسترويكا و إعادة البناء ذلك الأثر الأخلاقي أو الروحاني على عقلانية الدب العجوز الذي ازداد شراهة و شهوانية ، و لو لفرخ من السمك السلامون يسرقه أو يأسره أو يعبث به في لعبة الأمم ، بانتهازية لا ترى أبعد من أنفها و لا تقيم للجوار أي جوار !
انتهى حكم القياصرة في 1917 م ليأتي القياصرة الجدد ، فماذا قدم هؤلاء للعرب و المسلمين سوى الشيوعية و الشمولية و الشيطنة ؟ و ماذا أفدنا من الدب الروسي غير الهدايا المسمومة و الضلال المبين ؟ ذبحوا ملايين المسلمين و غير المسلمين في بلشفيتهم ، وكانوا أول من اعترف بإسرائيل المزعومة سنة 1948 م قبل الولايات المتحدة ، و نصحوا الرئيس جمال عبد الناصر أن لا يكون البادئ في الهجوم يوم حرب حزيران ، و وقفت كنيستهم الأرثوذكسية و قيادتهم السياسية مع قصابي الصرب إبان أحداث البوسنة و الهرسك ( 1992 - 1995 م ) و بذلوا من خزينتهم آلاف المليارات لبث الإلحاد و الإفساد الفكري و الثقافي و القيمي . و بعد انهيارهم الأهم في 1991 م و وراثة ذلك الشر ، اتجه الدب الروسي للبيع و القمار في قضايانا العادلة لمن يدفع أكثر ، و راح يرسل الرقيق الأبيض لإلهاء الشباب العربي و ابتزازه ، إمعانا في الاستهتار و الاسترزاق و الرعونة الحضارية .. و قد رأينا تناقض المواقف الروسية و تباينها مع تطلعات الشعوب التواقة للحرية منذ أن بدأت إرهاصات الربيع العربي ، و ليتجلى ذلك التخبط - كأوضح ما يكون - في التعاطي غير الذكي مع الثورة السورية العتيدة ، و كيف ذهب هذا الدب للجانب الخاطئ من التاريخ فأعاق بعناده و صلاحياته ، حتى مجرد استصدار إدانة لفظية ضد التقتيل و الترويع لعشرات ألوف الجماهير الثائرة في طول سورية و عرضها ، ليذكرنا ذلك بالكوميديا الباكية و نموذج اليهودي المرابي عند شكسبير و تجارة النخاسة و الصفقات في أسوأ صور الانتهازية و الانشطار . نعم ، الذاكرة دوما على حق ولا بد من الدندنة حول السر الاستعماري للعلاقات الروسية السورية المترنحة الآن مع ترنح أصنام الأسد :
في 28 / 10 / 1957 م و خلال عهد الرئيس شكري القوتلي - رحمه الله - أبرم أول اتفاق من نوعه للتعاون السوري الروسي ، و ربما كان مرد هذا التأخير في التعاون لحساسية الوطن السوري من الشيوعية العقدية ومن دعاتها المحليين كناصر حدة - مؤسس الحزب الشيوعي السوري في 1924 - و رفاقه فوزي الزعيم و علي خلقي و خالد بكداش . و مع عصر الوحدة و الجمهورية العربية المتحدة التي أعلنت يوم 22 / 2 / 1958 تطور الوضع و النفع قدما ، لينتقل بعدها خطوة نوعية عندما استولى البعث على السلطة في 1963 م ، فاقتصر تسليح الجيش و حماة الديار على السوفييت دون سواهم ، و ذهب ظن الكرملين بعيدا في خيالاته و حساباته نحو التمدد المنفلت إلى المياه الدافئة و الرجاء الصالح ، فبارك انقلاب 8 آذار و أسهم بتمويل سد الفرات سنة 1966 م بمبلغ 120 مليون روبل متجاهلا التحفظات العراقية لحكومة عبد الرحمن عارف و شقيقه من قبله عبد السلام عارف ، و تبرع بإنجاز الخط الحديدي الداخلي بطول 1500 كم من خلال الشركات و الخبراء الروس . إلا أن الدب وقع بخديعة الأسد الأب الذي كان براغماتيا ينسق مع الأمريكان و يهرول لمصالحه الذاتية ، رغم وقوع حرب تشرين أكتوبر 1973 م و الحاجة للذخيرة و العتاد الشرقي ، حيث لم يستفد منه الروس شيئا أكثر من الكلام و الوعود وتراكم الديون على الخزينة السورية نتيجة شراء الأسلحة الحديثة بعض الشيء ، و التي هي بالضرورة دون مستوى حلف وارسو و عسكريته المتفوقة ! وفي سنة 2005 م و أثناء زيارة الرئيس بشار الأسد لموسكو تم التوقيع على تسوية مالية ما بين الطرفين ألغي فيها ما نسبته 73 % من الديون السورية المستحقة ، و هو ما يعادل 8 / 9 مليار دولار من أصل 4 / 13 مليار دولار ، بحيث يتبقى 6 / 3 مليار تسددها الحكومة السورية بالتقسيط المريح على مدى 10 سنوات ، ومنذ ذلك الحين لم يزد متوسط المدفوعات السورية عن 150 مليون دولار فقط . و المفارقة أن التسامح أو الكرم الروسي جاء نتيجة و ليس سببا للعلاقات الدولية المعقدة في الشرق الأوسط ، فسورية لم تكن تسدد شيئا للروس من منتصف التسعينيات ، مستغلة للتطورات الجيو سياسية و الاقتصادية هناك ، و كان حجم التبادل السلعي في 2004 - مثلا - لا يزيد عن 210 ملايين دولار .. و لعل الجزرة الحقيقية التي قدمها حكم الأسد لصديقه الدب لم تكن المزيد من التجارة البينية و التي وصلت إلى 2 مليار دولار في 2008 م مقابل 38 مليار دولار مابين تركيا و روسيا ذات السنة ، من أصل حجم صادرات روسيا البالغ 396 مليار دولار و واردات 229 مليار حسب أرقام سنة 2010 م ، ولا في إنشاء المحطات الكهروحرارية و الكهرومائية و تنفيذ المشاريع الصناعية و الزراعية و الاستثمارات النفطية و السياحية لشركات مثل نات نيفت و ستروي ترانس غاز و غيرها ، إنما كانت غالبا تأجير ميناء مدينة طرطوس على المتوسط للبحرية الروسية ، ليكون قاعدة ارتكاز و إسناد للسفن الحربية و حاملات الطائرات التي يمكنها ذلك من الوصول للبحر الأحمر و المحيط الأطلسي بأسرع ما يمكن ! و هذا التعاون مابين النظامين الحليفين أشبه ما يكون بزواج المتعة ، مؤقتا و مؤطرا بوهم المصالح حيث يظن الدب الروسي أنه الرابح الأكبر ، مع أن الديون العسكرية السورية وحدها تبلغ الآن 11 / 2 مليار دولار ، و برامج التدريب المشترك باتت تحرج الطرفين و تزيد الطين بلة . ومن هنا دخل الرئيس ديمتري مدفيديف و معه الثعلب بوتين بازار المساومات مع الغرب ، قبل أن يتحول حرق الأعلام الروسية في الشوارع السورية إلى طلاق بائن ، حيث لا أثمن من الدم في تقلبات السياسة و القرارات الزئبقية ، فتارة يتم تحذير الأسد من المصير الحزين كما في تصريحات الرئيس الروسي يوم 4 / 8 / 2011 م لشبكة آر تي و صدى موسكو ، أو في استقبالات ميخائيل مار غيلوف مسؤول الأزمات في العالم العربي للمعارضين السوريين ، أو القيام بزيارات استطلاعية للواقع السوري برعاية مخابراتية ، و تارة يلوحون بسيف الفيتو و يرعدون و يزبدون لتزداد حرائق الشام اشتعالا و الديكتاتورية فجورا و ثمالة وكأن الدب الروسي يحفر قبره السوري بيده لا بيد عمرو ، إذ لا صفح ولا مصافحة مع من يقتلوننا بمواقفهم البليدة وأسلحتهم الكسيدة من أجل حفنة دراهم ! تبا لكم أيها الروس..
* عضو رابطة أدباء الشام