إلى الذين يخافون من تطبيق الشريعة

د.محمد عبد الرحمن

عضو مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين

مجتمعاتنا والحمد لله مسلمة، وإن كان ينقصها استكمال التطبيق الصحيح للشريعة الإسلامية، إلا أن مفهوم بعض الناس عن المجتمع المسلم والشريعة، به بعض التشويش، ويتصورون أنه مجتمع مغلق، كل شيء فيه بالأمر، ومن يتجاوز تتم معاقبته، والحريات فيه شبه منعدمة، والجلد والضرب فيه هو الأسلوب الشائع في التعامل.

هذه الصورة القاتمة مخالفة للحقيقة تماما، ومخالفة لمنهج الإسلام والمجتمع المسلم الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالحدود والعقوبات فيه ليس هدفها الانتقام أو الإذلال أو الإيذاء، وإنما هي زواجر.

وكثير من التوجيهات والأوامر الاجتماعية والسلوكية في المجتمع المسلم تعتمد على الجانب الإيماني وتحفيزه عند الأفراد، وعلى الرأي العام الذي يشكل وسيلة ضغط، وكذلك النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم في النهاية تأتي الحدود والتعازير في أضيق النطاق.

ونجد في هذا المجتمع إعلاءً كاملا لقيمة الحرية، وإبداء الرأي مهما كان، مجتمع تنتشر فيه قيم التسامح والتكافل لأبعد حد. ليس هناك مسارعة في توقيع العقوبات، فهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «تَعَافُّوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ»،«ادرأوا الحدود بالشبهات»، فإذا رفعت إلى الحاكم دخلت مرحلة التنفيذ بشروطه وضوابطه الشرعية. بل إن من يقع تحت طائلة العقوبات بعد استنفاذ الوسائل الأخرى في التقويم، لا يعتدى أحد على كرامته الإنسانية وحقوقه المجتمعية.

وما أعرضه هنا ليس بحثا شرعيا، وجمعا للأدلة، وموازنة وترجيح فيما بينها، فهذا له ميدان آخر، ولكني أعرض رؤية واضحة في بعض الأمور التي حولها تساؤلات بعد دراسة وبحث شرعي لعدة سنوات، وهي رؤية تتفق مع منهج الاتساع لجميع الآراء المعتبرة شرعا، مع الاتفاق على الالتزام بالأصول المجمع عليها، وفتح باب الاجتهاد بشروطه لتلبية المستجدات ومتطلبات العصر.

بالنسبة لما يتعلق بأهل الكتاب والسياح:

أهل الكتاب في هذا المجتمع المسلم تُحترم تماما قوانين أحوالهم الشخصية، بل ويحرص المجتمع المسلم على تسهيل وتيسير أدائهم لعبادتهم، ولا يتم الاعتداء على كنائسهم وصلبانهم وأطعمتهم بأي صورة، ولا يُفرض عليهم زي معين. بالإضافة إلى أنهم مواطنون في المجتمع، لهم حق المواطنة كاملة، كما بينتها قواعد الشريعة الإسلامية.

ولهم أن يصنعوا الخمور، وأن يستوردوها، وأن يتاجروا فيها فيما بينهم، وأن يشربوها في بيوتهم وفي أماكن خاصة بهم في المجتمع (سواء كانت هذه الأماكن محلات أو فنادق)، لكن لا يجوز للمسلم أن يعمل فيها أو يشاركهم فيها، وحسب حكم الشريعة: لا يجوز تكسير زجاجات الخمر الخاصة بهم، وإذا قام أحد المسلمين بذلك فإنه يحاسب ويغرم ثمن الزجاجات التي كسرها.

والزي الإسلامي لا يفرض عليهم، وكذلك بالنسبة للسياح الأجانب، فإنه تنطبق عليهم شروط المستأمن من أهل الكتاب، فهم في حفظ الدولة ورعايتها، وتنطبق عليهم نفس قواعد التعامل الاجتماعي مع أهل الذمة، فلا يُفرض عليهم زي معين، ونحترم أداءهم لشعائرهم وعباداتهم.

وبالنسبة لموضوع الخمر فينطبق عليهم ما هو على أهل الكتاب، ومن الجائز تخصيص أماكن في الفنادق خاصة بهم، لا يعمل فيها مسلم، يتداولون فيها الخمر، فهذا حق لهم.

وهناك مسألة معروفة في الفقه خاصة بالتجار من غير المسلمين (من خارج البلاد) الذين يتاجرون في بلاد المسلمين، وذلك بعقد أمان، إذا كان في تجارتهم الخمور، ومطلوب منهم العشور (أي الضرائب السنوية المستحقة على تجارتهم، فهل تؤخذ الضريبة أموالا أم ما يوازيها من زجاجات الخمر ثم تباع لهم بعد ذلك؟!

كان الرأي الراجح أخذها أموالا.

إلى هذا الحد ذهب فقهاء الدولة الإسلامية سعة صدر وقدرة على التعامل مع الآخرين، وتقدير حسن للمستجدات.

وبالنسبة للمصايف، فهناك أماكن مخصصة لأهل الكتاب والسياح، لا يلتزمون فيها بشروط الزي الإسلامي، يعمل فيها غير المسلمين.

أما المصايف العامة للمسلمين ولمن يحب أن يشاركهم فيها من غير المسلمين، فلها ضوابطها الشرعية المنظمة للتواجد في تلك الأماكن.

كما أن الشرع ينهانا أن نفتش عن صور وأشكال الزواج بينهم، ولا نسأل عن ذلك ولا عن ماذا يعتقدون أو ماذا يفعلون في أمورهم الشخصية. أما إذا احتكموا إلينا في أي أمر من أمورهم الخاصة؛ فإننا نحكم بقواعد وأحكام الإسلام.

وبالنسبة للفعل الفاضح منهم (في المظهر والسلوك) في الأماكن العامة [الشارع – الحدائق.... إلخ]، فهذا متعارف على رفضه في كل الشعوب والأديان، وليس أمرا خاصا بالإسلام، ولا يدعي أي أحد أن كل ما خالف معتقده هو فعل فاضح. وأذكر هنا ما روي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عند توزيع سبي معركة جلولاء على المقاتلين، فكان أن قبّل من كانت من نصيبه أمام الجميع.

ومنع هذا الأمر –الفعل الفاضح- يكون بالتوعية والتعريف أولا، ثم بالنصيحة، ثم بالزجر بالأسلوب المناسب، والأمر كله خاضع للقانون ولجهات التنفيذ المعتمدة في مؤسسات الدولة، وليس بتجاوز فردي.

انظر إلى هذا الأعرابي المسلم الذي بال في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة أمام الجميع، لقد كشف عورته –وهذا فعل فاضح- وأتى بما ينجس المكان، ويدل على عدم احترامه، لكنه الجهل وعدم الفقه. وانظر إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هم الصحابة بمنعه، بل وضربه، فقال صلى الله عليه وسلم: «لَا تُزْرِمُوهُ –أي لا تقطعوا عليه بوله- ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَصَبَّ عَلَيْهِ»، وأدناه وعلمه وعرفه مدى هذا الخطأ.

إن المسلم عندما يكون له تعامل مع أحد، وخاصة من غير المسلمين، يكون شفوقا رحيما عطوفا، يتقي الله فيه، وهذا قول المولى سبحانه وتعالى

وانظر معي إلى الأسير من الكفار الذي يحارب الإسلام ويحارب المسلمين ويعتدي عليهم، ثم يقع في الأسر، انظر كيف يأتي القرآن فيوصي برعايته وحسن معاملته، ويدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إكرامه، وكأنه ضيف عندنا،

فإلباسهم وإطعامهم أفخر أنواع الأطعمة التي نحبها ونتمناها نؤثرهم بها على أنفسنا... هذه هي الروح التي عليها قلب المسلم، فهل هناك حب وإحسان واحترام للإنسان مهما كان أمره يصل لهذا المستوى إلا في الإسلام؟

وانظر معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرسخ معنى المواطنة والتواصل الاجتماعي مع أهل الكتاب في الدولة الإسلامية، فها هو يزور اليهودي المريض في منزله.

وأيضا يقترض من اليهودي شعيرا وغيره، رغم أنه يستطيع الاقتراض من المسلمين بالمدينة، وذلك ليؤكد على هذا التواصل الاجتماعي ويزيل الإحساس بمعنى الطائفية، رغم أن هذا اليهودي أساء في طلب رد الدين قبل حلول موعده، فقابله بابتسامة وسعة صدر، بل ورفض أن يعنفه سيدنا عمر وعوضه عن هذا التعنيف وهو المخطيء ، ليعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يكون الإحسان والبر وسعة الصدر في تعاملنا مع إخوة الوطن.

وبالنسبة لموضوع الردة، والإعلان عنه للرأي العام:

الإسلام في ا لمجتمع الذي يحكم فيه وينتسب إليه ويدين الغالبية به، يرفض أن يغير أحد دينه وينتقل من دين إلى آخر إلا إلى الإسلام؛ لأنه مجتمع مسلم صاحب رسالة ودعوة لأهل الأرض جميعا، ولا يُسمح للحوار في هذا الشأن إلا بالأسلوب الحسن، وينتقل الإنسان لدين الإسلام بإرادته الحرة، وباقتناع كامل منه، ويكون في علمه أن الارتداد عن الإسلام ليس مسموحا به.

للإنسان المسلم أن يفكر، وأن يعلن آرائه حتى ولو كانت خاطئة وفيها مخالفة، وهو يتحمل تبعاتها، ويتم الرد عليه ومحاورته فيما يذهب إليه تفكيره، ولا يرغمه أحد على تركها. أما الطعن في أصول العقيدة الإسلامية، فهذا يعتبر اعتداءً على عقيدة الأمة، فمع بيان الخطأ فيما يذهب إليه والرد عليه، يكون -في هذا الشأن فقط- مطالبا أن يكف عن ذلك، وله في داخله أن يعتقد ما يشاء.

كذلك، فالشخص المسلم الذي اعتقد ما يخالف أصول عقيدة الإسلام، وأراد أن يرتد عن هذا الدين، له أن يعتقد ما يشاء دون الإعلان، والمجتمع المسلم ليس مكلفا باستجواب الناس حول ما يعتقدون أو التفتيش عن أفكارهم وعقائدهم، أو التجسس عليهم، فهذا الأسلوب مرفوض ابتداءً، لكن إعلان هذا الشخص عن ارتداده وتركه عقيدة الإسلام، وإصراره على هذا الإعلان، يترتب عليه اتخاذ  إجراء من المجتمع، حيث سينبني عليه آثارٌ اجتماعية، يبدأ الأمر بمناقشته والرد على الشبهات أو الأسباب التي يبديها. وله أن يقتنع بها أو لا يقتنع بها. لكن لا يواصل الإعلان عن ردته وخروجه من الدين، فإذا استمر على ذلك؛ تم رفع أمره إلى القضاء الذي يلتزم بالإجراءات القانونية من بعد التوضيح، ثم مرحلة استتابة يحدد القضاء مدتها (حتى تتاح له فرصة المراجعة مع نفسه) ثم الحكم عليه وفق العقوبات التي يحددها القانون في ضوء مباديء الشريعة الإسلامية، سواء كانت القتل حدًّا أو الحبس المطلق مدى الحياة. كما يترتب على موقفه هذا آثارًا اجتماعية في الزواج والميراث... إلخ.

هذا توضيح للجانب الشرعي في ذلك الأمر، وشريعتنا السمحة نعتز بها ونحرص على تطبيقها كما جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعنينا كثيرا إن وافق عليها غيرنا أو اعترضوا عليها؛ لأنه:

وبالنسبة لأحوال المرأة في المجتمع المسلم:

إن الزي الشرعي للنساء المسلمات في المجتمع، ليس له شكل معين، وإنما له مواصفات معينة، والنقاب في أرجح الأقوال الفقهية ليس فرضا واجبا، فلكل امرأة الحرية في ارتدائه أو عدم ارتدائه.

ولا يتصور أحد أنه سيتم فرض الحجاب أو الزي بالعصا على الجميع، وإنما بالنصيحة والتحفيز الإيماني والرأي العام والمناخ العام الذي يساعد على ذلك.

وهذه السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، تمدح مسارعة نساء الأنصار في تغطية رؤوسهن عندما نزلت آية الحجاب، فلم يكن الأمر بالجبر والإكراه.

بل إنه في المجتمع المسلم في عهد الصحابة رضي الله عنهم كان هناك فئة من النساء –وهن مسلمات في أغلب الأحوال- لا تغطي رأسها؛ حيث كان هناك الإماء.

(ملحوظة: عمل الإسلام بصورة متدرجة احتاجت لسنوات، على إلغاء نظام الرق حيث كان وقتها نظاما عالميا متعارفًا عليه وله جذور اقتصادية واجتماعية قوية).

فأحكام ستر العورة بالنسبة للإماء مختلفة عن الحرائر من النساء، ففي أغلب الأقوال، عورة الأمة من السرة إلى الركبة، بل وفي صلاتها كانت الرأس والرقبة والذراع وأسفل الركبة مكشوفا، وتصح صلاتها.

وورد أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين، كان يزجر من تغطي رأسها من الإماء (وليس وجهها فقط). وكانت الأمة تمارس عملها في المجتمع رأسها مكشوفة ورقبتها وذراعيها وأسفل ركبتها دون حرج أو مشكلة، بل وإذا حدث أثناء عملها أن انكشف ما أكثر من ذلك مما فوق السرة؛ غض الناس بصرهم.

أقول هذا، لتوضيح صورة المجتمع المسلم، وأنه لم يكن بالصورة التي يتصورها البعض، لكن ليس لأحد اليوم أن يدعي أن هناك إماء فيقيس عليه.

كانت المرأة تخرج في الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقوم بخدمة الجيش والأعمال الإدارية، ليس لقلة عدد الرجال، ولكن للمشاركة، وكذلك كدليل على الجواز والإباحة.

وللمرأة أن تستقبل ضيوف زوجها، وأن تحضر لهم الطعام، وأن تقوم على خدمتهم بطريقة مباشرة، فهذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي استضافه الأنصاري وزوجته، وتصنّعا أنهما يأكلان حتى يشبع هو، وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم صنيعهما.

وهذه امرأة تصنع طعاما في منزلها وتدعو له رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدد من الصحابة، وتقوم على خدمتهم مباشرة، وورد أنها أطعمته رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها.

وللمرأة أن تهدي ويُهدى إليها من الرجال والنساء على السواء، وقد أهدى سيدنا أبو موسى الأشعري (عند عودته من العراق) وسادة جميلة لزوجة سيدنا عمر، وهو خليفة المسلمين، وقد قبلتها زوجته، لكن سيدنا عمر ردها لشبهة أن تكون بنية الرشوة للتأثير عليه.

إن الإسلام لم يحرم الاختلاط بين المرأة والرجل، وإنما وضع له ضوابط.

وهذه العلاقات الإنسانية تتم في جو من السمو الأخلاقي وتقاليد المجتمع المستمدة من الإسلام، وإذا كان هناك صور فاسدة وانحرافات في هذا المجال؛ فإنها لا تمنع الأصل في الإباحة وإنما تأتي التربية والتوعية وإيقاظ الإيمان. وقد حدثت بعض الانحرافات الفردية من هذا النوع في عهد الصحابة، لكنها كانت قليلة لا تؤثر على نظافة المجتمع.

وجدير بالذكر أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجتمع فيه الرجال والنساء معا في الصلاة، وعندما يخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك عندما يخطب الخلفاء، ولم يكن هناك ساتر أو حاجز بينهن وبين الرجال، وإنما يخصص لهن منطقة في آخر المسجد، وما ابتدعه الناس بعد ذلك

 من صور الفصل لم يكن موجودا في صدر الإسلام، ونشير إلى أن سيدنا عمر بن الخطاب عيّن إحدى النساء محتسبة في سوق المدينة (أي وظيفة مفتشة تموين)، وفي السوق يبيع النساء والرجال.

وكانت المرأة تعلّم الرجال والنساء على السواء في مجال تخصصها، وكانت تمارس الطب وتعالج جراحات الرجال الناتجة من المعارك، مهما كان موضع  هذه الجراحة.

وإذا كان بعض المعاصرين يميل للتشديد وتضييق المباح، فلم يكن هذا هو طبيعة المجتمع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، «ولن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه»، ومن أراد أن يشدد؛ فليشدد على نفسه أولا.

وإن المرجعية لقواعد ومباديء الإسلام، ووجود مساحة من المندوب والمباح واسعة، تتيح لنا المرونة في التعامل مع مستجدات العصر ومتطلباته بشرط عدم الخروج على قواعد ومباديء الشريعة. والشريعة الإسلامية بريئة من التطبيقات الخاطئة لمبادئها وقواعدها.

وللشيخ محمد الغزالي رحمه الله توضيح لهذه الجوانب والرد على هؤلاء المتشددين، وأباح استخدام جميع آلات الموسيقى وفق الدليل الشرعي الراجح لديه.

وبالنسبة لممارسة الرياضة للرجال والنساء، فهذا مندوب إليه وقد يرتقي إلى مستوى التكليف إذا كان فيه اكتساب القوة والمهارة اللازمة للإنسان لسعيه في الحياة وأداء واجبات دعوته.

وقد جعل الإمام الشهيد حسن البنا في منهج التربية للرجل والمرأة أن يكون الإنسان قوي الجسم، صحيح البدن. وجعل ذلك أول صفات التكوين التربوي.

واعتبر في رسالة المؤتمر الخامس أن الفرق الرياضية من وسائل التربية العامة التي تأخذ بها الجماعة.

وبالنسبة لممارسة الرياضة ومشاهدتها كجانب من الترفيه، يُعتبر أمرًا مباحًا، وقد شاهد الرجال والنساء في مسجد المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال من الحبشة وهم يلعبون بالرماح، وليس عليهم إلا الإزار فقط.

وأجاز الفقهاء صلاة الرجال وهم في زي المصارعة.

وبالنسبة لممارسة المرأة الرياضة، فهي مثل الرجل.

وكان يتم تدريب المرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركوب الخيل واستخدام السيف والسهام ، حتى وإن لم يشاركن في المعارك.

وكذلك مارست أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها رياضة الجري، وسابقت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والمسابقات بين النساء في مجال الرياضة جائزة ومباحة مع مراعاة الضوابط الشرعية من ستر العورة حين يكون هناك مشاهدين، وكذلك من ضوابط الاجتماع الشرعية.

وقد ورد أنه في عهد سيدنا عمر بن الخطاب كانت تجري بعض المسابقات الترفيهية بين النساء ويتفرج عليهن جمهور من الناس. ولكن سيدنا عمر عزّر وعاقب أحد الرجال المشرفين على ذلك؛ حيث كان يربط أقدامهن ببعضها البعض وهن يتسابقن في الجري فيقعن فتنكشف عوراتهن؛ فعاقبه لأنه خالف الضوابط الشرعية.

وبالنسبة للمرأة ومشاركتها في الفن والتمثيل بكل أنواعه فهذا أباحه الإسلام، فليس صوت المرأة عورة، وكانت تتكلم في المسجد، وفي وجود الرجال على عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك في مواجهة سيدنا عمر عندما أراد تحديد المهور.

وكانت المرأة تنشد في وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، وأنشدت الخنساء الشعر أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة واستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالته.

والشعر فيه تمثيل بلاغي وحكايات ومشاعر تعبر عنها الأبيات.

كل هذا أباحه الإسلام مع الالتزام بالضوابط الشرعية من ناحية طريقة الأداء والنص الموجود، والزيّ الذي يتم ارتداؤه.

وقد مارس الإمام الشهيد هذا الجانب عمليا بتشكيل فرق التمثيل في الجماعة والتي بلغت مستوى فني متقدم، وعرضت حفلاتها في الأوبرا. (وإن كان الوقت لم يمهل الجماعة حتى تساهم الأخوات في التمثيل حيث تعرضت الجماعة بعد ذلك لضربات ومنع وحظر).

وبالنسبة لبعض الأمور الشخصية الخاصة بالنساء، فقد أباح الشرع أنواعا من الزينة للمرأة، أكثر مما يتصور البعض، ومنع فقط أمورًا قليلة محددة فيها تغيير للخلقة؛ لأن رغبة المرأة في الحفاظ على جمال جسمها رغبة جائزة شرعا، بل هي إذا خافت على جمال صدرها لها ألا ترضع طفلها، ويقوم الزوج باستئجار مرضع له؛ فالمحافظة على جمالها أمر له اعتباره من الناحية الشرعية، وكذلك ممارستها الرياضة لتقليل السمنة وتحسين المظهر.

ويمكن مراجعة ما جاء في هذا المجال في كتابات الفقهاء مثل: (المنتهى في فقه الحنابلة)، و(أحكام النساء) لابن الجوزي، وما ذهب إليه الشافعية والحنابلة، ورأي القاضي عياض المالكي، في زينة الوجه المباحة، واستخدام الخضاب وغيره من مواد الزينة، لنرى هذه المساحة الواسعة من المباح، مع مراعاة الاعتدال وإذن الزوج في أغلب هذه الأحوال.

وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنلطخ جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا». (سنن أبي داود).

لقد قرر الإسلام المساواة والتكامل بين المرأة والرجل، بل وأعطاها وخصها بحقوق فوق ذلك، مثل حق الرفق، وحق الحماية والأولوية في الرعاية، وحق المحافظة عليها وعلى سمعتها ومنع ما يمس كرامتها.

وقد ورد في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رفقا بالقوارير)، (استوصوا بالنساء خيرا)، (خيركم خيركم لأهله).

واهتم الإسلام بالحفاظ على ستر المرأة وكرامتها، وألا يتعرض أحد بسوء أو يوجه اتهامات لعرضها، حتى ولو لم يكن سلوكها يرضى عنه البعض أو فيه خلل، فاتهام العرض أمر خطير يعاقب قائله عقوبة شديدة.

(راجع كتاب حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم الغُزّي على متن أبي شجاع في مذهب الإمام الشافعي في تفصيلات في هذا الأمر لم تذهب إليها كثير من القوانين الوضعية التي تدعي التقدم).

ودور المرأة السياسي وممارستها له كان واضحا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشكلت أول جمعية نسائية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اجتمع عدد من نساء المدينة يدرسن بعض مشاكلهن وأرسلن موفدة عنهن بمطالبهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها أن يخصص لهن يوما يأتينهن فيه، واستجاب لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد أوضحت جماعة الإخوان المسلمين رؤيتها الكاملة لدور المرأة السياسي والاجتماعي، وحقوقها في الوثيقة الصادرة عن الجماعة بهذا الشأن بعد الدراسة الشرعية الكاملة، ومارست ذلك عمليا في حراكها الاجتماعي والسياسي.

وبالنسبة لموضوع الأمر بالمعروف، أو ما يعرف بالحسبة:

في المجتمع المسلم، لا يتم سؤال الناس: هل صلوا؟ هل صاموا؟ أو ما هي معتقداتهم وأفكارهم؟

فهذا كله ممنوع، والأصل هو إحسان الظن بالمسلم، وعدم التفتيش عليه أو هتك ستره، بل ونتأول لإزالة الشبهات عنه، وممنوع كذلك في المجتمع المسلم التجسس على الناس لمعرفة من يرتكب معصية أو مخالفة، فتتم معاقبته.

وأمامنا مثال، سيدنا عمر رضي الله عنه الذي تسور السور على رجل يشرب الخمر ليلا، فاعتذر منه سيدنا عمر على فعله ذلك.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له ضوابط شديدة، فهي على المتفق عليه في شرع الله، وبأسلوب ليس فيه تجسس أو إساءة ظن أو اعتداء على الشخص أو إهانة لكرامته. ولا يعيّر أحد بذنب أو معصية.

وتُحفظ له حقوقه الاجتماعية والشرعية كاملة. والكراهية هنا تكون لذات المعصية وليس لذات الشخص، فهو إنسان وأخ في الدين، وله كل حقوق الإخوة والإنسانية، واستخدام اليد في التغيير له ضوابط شرعية شديدة، وبإذن الحاكم في أغلب أحواله، ولا يتصور أحد أن المجتمع المسلم تنطلق فيه مجموعات تضرب الناس وتجلدهم حسب ما ترى أهواءهم، أو ما قد يفسرونه من مخالفة.

لا شأن للإسلام بأي نماذج تطبيقية مخالفة لذلك، وشرع الله ليس غامضا أو حكرا على أحد فيدعي لنفسه احتكار تفسيره وتطبيقه، وليس في الإسلام رجال دين، إنما علماء دين، ولكل مسلم أن يعترض على أي تطبيق مخالف لشرع الله ما دام معه الدليل.

وهذه فتاة صغيرة –ليست عالمة- في المسجد وأمام الناس تعترض على سيدنا عمر عن قراره بتحديد المهور ويقر بخطأه أمام الناس.

إن مساحة الاجتهاد الفقهي وتراثه واسعة، والمراجعة لها في ضوء مباديء الشريعة وقواعدها، وفي ضوء المستجدات، تصبح أمرا واجبا، بشرط الالتزام بشروط وقواعد الاستنباط والاجتهاد.

(ومن الممكن مراجعة توصيف الشريعة الإسلامية ومساحة الثوابت ومساحة الاجتهاد في مقالنا توضيحات فقهية).

خاتمة

لا يوجد دين أو قانون وضعي أو مذهب فكري يحفظ للإنسان كرامته وحريته الشخصية مثلما يفعل الإسلام، وهو يقدم نموذجا للتوازن الدقيق بين الفرد والمجتمع.

وهذا ليس كلاما نظريا، وإنما طُبق عمليا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، وعلى شريحة من البشر كانت في جاهليتها صعبة المراس تنتشر فيها الأمية، متفرقة متناحرة لا تعرف نظاما سياسيا يجمعها، فإذا بهذا الشرع وذلك التطبيق، تقدم منهم نموذجا رائعا ساميا تقتدي به البشرية.

ولم يحدث الانحراف إلا عندما ابتعدنا عن هذا النموذج الواجب الاقتداء به وعندما تركنا أجزاء أساسية من تطبيق شرع الله.

إن المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية تقوم على حفظ النفس والدين والعقل والمال والنسل.

والأمر ليس مجرد الحفظ، بل يرتقي إلى تكميلات وتحسينات لأبعد مدى في كل مجال من هذه المجالات الخمس.

ومن مباديء الفقه الإسلامي في الشريعة: مبدأ (التيسير لا التعسير)، ومبدأ (رفع الحرج).

وإذا كان هناك بعض الفتاوى لبعض الأشخاص تخرج عن هذا المقتضى، فإن رد الأمر للقواعد والمباديء الكلية للإسلام والنظر في الدليل الشرعي يضبط ذلك الأمر.

ودعوة الإخوان لا تتعصب لرأي فقهي معين أو تحصر نفسها في مذهب معين، بل تسع الجميع؛ لأنه تجمعهم الأصول المتفق عليها، فلا ينبغي أن تفرقهم الفرعيات مع احترامنا لكل صاحب رأي، ولا بأس عندنا من التمحيص الفقهي العلمي للموازنة بين الآراء.

والشعب هو مصدر السلطات بما فيها سلطة التشريع لسياسة أموره؛ حيث أن الاجتهاد الفقهي، واستنباط الأحكام هي جهد بشري يصيب ويخطيء، والشعب هو الذي يحدد ويختار مؤسساته التي تتولى ذلك الأمر، ولكل من يملك الدليل أن يدلي برأيه، مع اعتبار المرجعية العليا لدستور الأمة: القرآن والسنة بما تشمل من الفرائض والقواعد والمباديء الكلية حتى لا يشتط أحد أو يزايد على منهج الله.