بين العسكرة والسلميّة... وآفاق الحراك السوري

بين العسكرة والسلميّة...

وآفاق الحراك السوري

د. حمزة رستناوي*

[email protected]

(1)

إن الدعوات لعسكرة الانتفاضة الشعبية  - في الشرط السوري الراهن-  تساوي تماماً خيانة الثورة و الوطن السوري, و تساوي الانتحار الجماعي للأسباب التالية:

 أولاً: ما حقّقته الانتفاضة الشعبية من نجاح سياسي  و زخم إعلامي ما كان له أن يتم و ربّما أن يستمر لو أنّها كانت انتفاضة مسلّحة , فعندها سيتعامل العالم معها على أنها حرب أهليه بين فرقاء , و الذي نعرفه  و جرَّبناه خير من قوى ناشئة غير واضحة المعالم  لم نتعرّف عليها .

ثانياً: التكلفة العالية على الصعيد الإنساني: فما خسره الشعب السوري مثلاً من قتلى خلال ستة أشهر يقدّر بحوالي 3000 قتيل , هذا العدد نفسه قد يكون حصيلة يوم أو أسبوع في حال عسكرة "الثورة السورية".

ثالثاً: برغماتيّا: السلطة السورية هي الأكثر تفوّقا بما لا يقارن سواء من الناحية العسكرية , فكيف لمجموعات من المسلّحين أن تقاتل جيش نظامي مكوّن من طائرات و دبابات ..إضافة لميلشيات مسلّحة و ربّما أسلحة غير تقليدية , مع الأخذ بعين الاعتبار أن أرض الصراع هي مناطق مأهولة مما يعرّض المدنيين و الأهالي  لخطر أعمال انتقاميّة و قصف عشوائي .

رابعاً: تاريخيّا: جُرِّبَ الخيار المسلّح ضد السلطة من قبل الطليعة الأخوانية المقاتلة في أواخر السبعينيات و بداية الثمانينات مع الأخذ بعين الاعتبار آنذاك  دعم عربي من دول مجاورة كالعراق و الأردن بالسلاح و المال ,و كذلك الأخذ بعين الاعتبار وجود  تنظيم سياسي و عسكري متماسك يتبنّى ايديلوجيا الإسلام السنّي السياسي؟

ماذا كانت النتيجة؟ خرجت السلطة أكثر قوة إضافة للتكلفة الإنسانية الباهظة " 15-40 ألف في حماة لوحدها" معظمهم ممن لا ناقة لهم و لا جمل , و تم إخضاع المجتمع بكل أطيافه و تعبيراته و ليس فقط من قاتل السلطة من ميلشيات الإخوان المسلمين؟

خامساً: المجتمع السوري يعاني للأسف من شرخ طائفي , و إن اللجوء إلى العنف المسلّح سوف يزيد هذا الشرخ الطائفي و سيجر سوريا غالبا لحرب أهلية, و إذا كانت الانتفاضة الشعبية تنادي بالحرية و الدولة المدنية الديمقراطية , و إن هذا الهدف يُلزم المتظاهرين و المعارضين للسلطة بتجاوز صلاحيات الجوهرانيّة الطائفية و كلُّ يوقد عليها,  فالدولة المدنية الديمقراطية ليس فيها مكان للأقلية و الأكثرية بالمنظور الطائفي العقائدي, و الأكثرية و الأقلية فيها هو فقط منظور سياسي.

سادساً: بطلان القياس مع الحالة الليبية: عند تدخل الناتو كانت الثورة مهددة بالموت , و هذا ليس حال الثورة السورية؟

و في الحالة الليبية وجد انشقاق كبير في الجيش الليبي كذلك؟ و هذا ما لم يحدث في سوريا؟

و المجتمع الليبي ليس لديه مشكلة طائفية ’ و هناك مصالح واضحة للدول الغربية خاصة النفط, و كذلك وُجِدَتْ إمكانية لتحقيق حسم عسكري , لنلاحظ أن الذين قاتلوا على الأرض هم الليبيون  و ليس قوات الناتو البرية؟ و مع ذلك استمرت الحرب ستة اشهر؟

سابعاً: الديمقراطية كفكر و ممارسة تتعارض مع الصراع المسلّح فهي تقتضي الاعتراف بالآخر , و هي تقوم على  توازنات تستبعد الصراع المسلّح  بين فرقاء يتّفقون على قواعد اللعبة الديمقراطية؟ و من الصعب لمنتصرين في حرب أهلية مؤدلجة أن يكونوا ديمقراطيين؟ فالمشروع السياسي للحراك الاحتجاجي يجبرهم بتقنين استخدام العنف و فتح ذراعهم لكل السوريين دون إقصاء أو تمييز ؟

فمن شروط  الثورة الناجحة أن تكون احتوائية لأبناء الوطن الواحد , و أن يخرج منها الجميع منتصراً على الظلم و ازدواجية المعايير.

ثامناً: الدرس اليمني: الثورة اليمنية متطوّرة عن "الثورة السورية"  من ناحية كمية الحراك الشعبي السلمي و انتشاره الأفقي , و كذلك من ناحية انشقاق الجيش و انحياز قوى مهمة منه لصالح الحراك الشعبي و مع ذلك لم يلجأ اليمنيون للسلاح و كلنا يعلم التركيبة القبلية لليمن و أن القبائل مسلّحة ؟

بالمقابل كان نظام علي عبد الله صالح يجرُّهم للحرب و يتحرّش بهم , و بالزعامات القبلية المؤيدة لهم؟ و في ذلك عبرة؟!

تاسعاً: عامل الوقت:عامل الوقت هو العامل الحاسم في الثورة السورية , فاستعجال الحسم هو المطبّ الكبير و القاتل "للثوّار"  فهذا مما لم  تتوفَّر شروطة بعد.

و كذلك الغرور و المغامرة الطائشة فهناك شباب مندفع تأخذه العزَّة بقليل من القوة المتوافرة بين يديه قد يكون كلاشنكوف وما شابه

و كذلك الاستسلام لغريزة الانتقام – وقد يكون انتقام من أبرياء- ما يتعرّض له المدنيين من انتهاكات لحقوق الإنسان و ظلم ؟ كل هذا قد يدفع باتجاه خيار عسكرة "الثورة" و فشلها.

مع أن قوّة الانتفاضة الشعبية  هو في استمرارها و تجذّرها في المجتمع السوري فهي لم ترخي بثقلها بعد , هناك فئات لم تنضم إليها, و هناك مسار طويل من النضال اللا عنفي و السياسي و الاقتصادي و الإعلامي مطلوب عمله , و المطلوب  تصحيح أخطاء وقعت أو قد تقع بها كالطائفية و الانتقام و الارتهان  لأجندات غير وطنية إقليمية و غيرها.

عاشراً: السيناريوهان المتوقّعان لسقوط النظام – و هذا ليس حتمية بل احتماليّة-

 هما:

-انشقاق في المؤسسة العسكرية و ما يهيئ لذلك المحافظة على السلمية , و تجاوز صلاحيّات الطائفيّة.

- تأثير دولي فاعل و مؤثر ...و ما يهيئ له كذلك المحافظة على سلمية الثورة كذلك.

(2)

هل الانتفاضة الشعبية في سوريا هي سلمية أو مسلّحة؟

و كان من الواجب علينا مناقشة ذلك منذ البداية فهناك قطاع من السوريين يؤيدون رواية الإعلام الرسمي حول وجود مسلّحين و عصابات مسلّحة

و هذا موضوع مستقل

الطابع العام للانتفاضة هو المظاهرات السلمية, يمكن تلمّس ذلك بوضوح في تقصي مهد الانتفاضة في درعا مثلا, و الكم الهائل للمظاهرات السلمية الخالصة و تقصّي حالات كالاعتصامات المتكّررة  يوم الجمعة في  ساحة العاصي في حماة..الخ.

و لكن طريقة تعامل السلطة العنيف مع المتظاهرين , و الانتهاك الواسع لحقوق و كرامة الإنسان,  كل هذا من الطبيعي أن يولّد ردّات فعل عنيفة- في الشرط السوري-  تجاه السلطة وأجهزتها , إضافة لعامل الاحتقان السابق على الانتفاضة .

كل هذا حرّض على استخدام العنف ضد السلطة و نجد تعبيرات ذلك في حادثة و قتل عناصر الأمن جسر الشغور و في حوادث متفرّقة في  جبل الزاوية مثلا, و كذلك بعض حالات انتقام فردية كجريمة قتل نضال جنود مثلاً, و نجد تعبيرات للعنف كأعمال الخطف المتبادل مثلا ً في حمص مع الأخذ بعين الاعتبار وجود احتقان طائفي في هذه المدينة, مُحَرّض عليه و مُستفاد منه ,عنف طائفي وقوده الجهل و قصر النظر.

و كذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار أن أحد مُسبّبات العنف هو  الدفاع عن النفس عند انتهاك  حرمة البيوت و في بعض الحالات  النساء , و كذلك إذلال الناس خاصة أمام نسائهم, أو أثناء محاولة إلقاء القبض على بعض المطلوبين و ما ينتظرهم من تعذيب و عنف مفرط في بعض الأرياف.

الأشكال المسلحة نعم هي موجودة و لكنها وُجِدَتْ كاستثناء و ليس كقاعدة, وُجِدَتْ كردّات فعل لعنف السلطة , و لم تأخذ طابع منظّم لجماعات مسلحة تقوم على هيكلية تنظيمية صارمة أو تتبنى ايديلوجيا إسلامية كتنظيم القاعدة مثلا أو إحدى مُشتقاتها أو شكل مشابه لتجربة الثمانينات .

لا ينبغي أخذ الكل بجريرة الجزء, فلو سلّمنا بوجود أفراد يستخدمون العنف هذا لا يعني المتظاهرين السلميين و مشروعية مطالبهم في الحرّية و الكرامة , فلا تزر وازرة وزر أخرى  , و لكن شيطنة الحراك الاحتجاجي السوري و إسباغ لباس العنف و الطائفيّة عليه إضافة أنّه مناف لبرهان الحدوث, يخفي مصالح نظام جوهراني شمولي يحاول إعادة إنتاج ذاته.

و لنا في التجربة اليمنية عبرة: فجنباً  إلى جنب , ثمّة  حراك احتجاجي سلمي يطالب بإسقاط النظام الجوهراني الاستبدادي ,  و ثمّة وجود  حقيقي لتنظيم القاعدة يصارع السلطة , إنّ النظام اليمني يحاول  أخذ الحراك السلمي الاحتجاجي بجريرة القاعدة و تصوير المحتجّين على أنهم اسلامويين و متطرفين, لا بل على أن هناك مؤشرات  لدعم و تسهيل حركة القاعدة من قبل السلطة اليمنية لتبرير البطش بالمتظاهرين السلميين , فالإسلام السياسي الجوهراني و السلطات  الاستبدادية العربية الجوهرانيّة  يكمّلون بعضهم بعضاً, و هم يشكّلون حلفا واحدا تجاه قوى التغيير الوليدة في العالم العربي.

أيا كان فإن تنامي اتجاه العنف  - في الشرط السوري الراهن-   في الانتفاضة الشعبية يهدّد بقتل "الثورة" و خسارة الوطن السوري , و الانتحار الجماعي.

(3)

*يجب علينا تذّكر أن:

المستقبل السوري مفتوح على خيارين:

أوّل: هو تجاوز صلاحيات السلطة الحالية و التأسيس لدولة مدنية ديمقراطيّة حديثة.

ثانياً: الفوضى و الدخول في حرب أهلية و تقسيم أو استعمار سوريا.

كلّها واردة, و طريقة إدارة الصراع في سوريا و ضمنا الحركة الاحتجاجية هي من يحدّد خيارات المستقبل.

فالشعوب الحيّة الناهضة تصنع مستقبلها و لنا في ألمانيا و جنوب أفريقيا و تركيا و ماليزيا قدوة.

و الشعوب القاصرة تصنع : عراق أو صومال أو لبنان  آخر, لا قدّر الله .

فنحن السوريون نستحقّ  و نأمل  بأفضل من ذلك .

                

* شاعر وكاتب سوري