عذاب البحث عن المبررات
عذاب البحث عن المبررات
د. ضرغام الدباغ
كل الحق على الطليان: مصطلح عربي مشهور، ربما يعود في قدمه إلى مطلع القرن العشرين المنصرم، وهو تعبير صادق عن مسرب ما نلبث أن نلجأ إليه كلما ادلهمت بنا الخطوب، وما أكثرها، وهي تحيط بنا وتعتورنا كما تعتور فارس مغلوب على أمره، ولكننا لا ننسى في الرمق الأخير أن نبحث عن شماعة ومبرر، وعن خصم وإن كان خرافياً لنضع عليه أوزار هزائمنا ومصائبنا، لنلغي بذلك عملية سياسية ديمقراطية مهمة المتمثلة بالنقد والنقد الذاتي، وتوجيه أصابع الاتهام لمن يستحق التهم فعلاً وحقاً، وتبعات سياسة درجنا عليها ونتحملها وعواقبها المميتة بصبر شرقي مذهل.
أن نختزل أزمات كبيرة جداً، وعجزنا عن حلها، على الصعيد الرسمي والشعبي، وأن نضعها بسهولة لفضية عجيبة على ظهر المتآمر الأجنبي، وأعداء حقيقيين نعرفهم، أو خرافيين نخترعهم، هي بتقديري الأزمة الأكبر، وبهذه الحالة تبقى الأزمة هي الأزمة ولا حل يلوح في الأفق ولا ميناء لهذه السفينة المتعبة التي لا تغرق ولا تبلغ هدفها، كأن قدرها هو أن لا تريح ولا تستريح.
هل أوضاعنا: السياسية منها والاقتصادية والثقافية والاجتماعية سليمة ...؟
الإجابة الواضحة للغاية، هي بالطبع .... كلا ....!
هل هناك حل سحري يلوح في الأفق .... بالطبع كلا ....!
هل الحديث عن الإصلاح الموعود حقيقي، أم أنه في الواقع ليس سوى ملهاة مضحكة وأكثر مرارة من الحنظل .... ؟
بالطبع فإن الحديث عن الإصلاح ممنوع، إلا عندما يحشر الحاكم العربي في الزاوية بفعل قوى داخلية أو خارجية ..! آنذاك سيتحدث همساً عن الإصلاح بصوت خجول وكأنه يتكرم يرمي بفتات لجائع، حتى البونبارتية أشرف وأكرم منها، تفوح منه المماطلة والتسويف، ولكنه يسمعنا حديثه بالتهديد والوعيد عن القمع بصوت جهوري، عال أجش تسيل الدماء من شدقيه، ومن سلاسل دباباته ..!
وإن اعترفوا بضرورة الإصلاح بعد دماء تسيل في الشوارع والساحات، فالحديث عن الإصلاح عندهم دائماً خير يقبل التأجيل يستحق التفكير العميق وتشكيل اللجان، واستشارة الأنس والجان، لنفهم في نهاية المطاف أن الإصلاح يعني التجديد لدورة رئاسية جديدة ليس إلا، بل وربما تعديل الدستور ليضمن الخلافة لنجله المغوار، الذي ما زال يلعب في حضانة الأطفال، وكل مواهبه أنه هبط من نسل الرئيس الخالد قائد المسيرة، ليصبح هو الآخر أبن الخالد ومن يخلفه يصبح الخالد أبن الخالد حفيد الخالد، وإذا فتح الشعب فمه، يهب المرتزقة والزعران يملئون فم الشعب الجائع المقموع بالرصاص، وإن تحرك ضمير إنسان في العالم فهذا تدخل في الشؤون الداخلية، وتحضير لعدوان... فما لعمل أيها الأخوان حيال هذه المهزلة...؟
أما إطلاق النار على المواطنون العزل، واعتقالهم بالآلاف، وقتلهم تحت سياط التعذيب، فهذا شأن سيادي يستحق العزم والحزم، ودليل على قوة النظام، وحكمة السيد الرئيس القائد ... ولا يجوز التدخل في شؤوننا الداخلية، وكأنهم ليسوا هم من وقع على قرار الجامعة العربية باستدعاء قوات أجنبية لحرب العراق، بل وشاركوا فيها بقوات عسكرية، وبالأمس فقط وافقوا على الحظر الجوي على ليبيا ...!
في دول الطغيان والفساد مصطلح: المغيبون، أي الذين انقطعت آثارهم ولا يعرف مصيرهم، وهؤلاء يعدون بالآلاف...بل وحتى من مواطنين دولة شقيقة أيضاً، وهؤلاء غير المعتقلون والمحتجزون، والموقوفون، ولديهم مصطلح فلسفي غامض لا يفهمه حتى سيبويه، يطلقون عليه الممانعة، ودولة تدعي أنها دولة، تشكل ميليشيا طائفية قبيحة يطلقون عليها الشبيحة ... وما أدراك بعد ما لديهم ..!
والنتيجة ... هي إننا دائماً الخاسرين ... ولماذا لا نعترف بحسرة أن أنظمتنا الطغيانية قتلت منا أكثر مما قتله المستعمرون والإمبرياليون أعداء شعبنا التاريخيون... أليس من المحزن الاعتراف بأن الصهاينة لم يقتحموا ولم ينسفوا لليوم مسجداً ... ولم يفعلوا أفاعيلهم ... للأسف..!
لنعترف بألم، أن الأنظمة الفاسدة حتى النخاع، قد نهبت من أموال الشعب بمقدار شقاؤه من الفقر ... وإن التراكم في الثروة الوطنية كان يذهب(في غالبيته العظمى) إلى أفواه الحكام التي لا تشبع، وبطون أبناءهم وأصهارهم وأبناء خالاتهم وعماتهم عليهم اللعنة أجمعين...
هل يستطيع أحد منا أن يتخيل ... مجرد تخيل، أن يصدر حاكم أوربي أوامره بإطلاق النار على محتجين لنظامه ...؟ فمن المؤكد أن بوسع أي شرطي اعتقاله كمجنون، ولكننا نشاهد بحزن وبلا ذرة فخر، الدبابات وهي تتجول في قرى ودساكر الوطن، تسحق وتقتل بلا رحمة وكأنها تفعل ذلك في حرب ضروس ضد عدو غاصب محتل، في مشهد مثير للدهشة والاشمئزاز معاً.
يتخبطون في تبرير فاشيتهم وفشلهم في إدارة البلاد والعباد، فتارة بالسلفية، وأخرى بالإرهاب، وتارة بالمؤامرات الخارجية، وبكل التهم التي تداعب قلوب الدول الكبرى عليهم ويدر عطفهم ليمعنوا بقتل شعوبهم أكثر، يعقدون الصفقات السرية، ويسمونها الممانعة، ليبقوا في السلطة عام أكثر، لينهبوا من مال شعبهم مليار آخر.
متمترسين بالقضية: تحرير فلسطين، أو الوحدة العربية، وبعد أن انقلبوا على الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، إلى الرأسمالية، باتت شعاراتهم في فحواها ومحتواها: المكوث في السلطة لأطول مدة لممارسة السادية، والتحكم في رقاب الناس ومالهم، هذا هو صلب برنامجهم، طالما ليست هناك سلطة قادرة على مسائلتهم، وكل هذا يفسر قوة الرد الدموي على الإرادة الشعبية التي انطلقت من عقالها، ومضت تقدم ارتال الشهداء قرابين لحرية سينالوها بفخر، ودولة حديثة محترمة سيؤسسوها لينعموا بالعيش كمواطنين أحرار محترمين لهم كرامتهم الغير قابلة للمساومة.
لا يدافعن أحد عن هذه الأنظمة، هي ساقطة قبل أن تسقط فعلاً، هي ساقطة لأنها لا تمتلك الشرعية، ولا تقاليد أشباه الدول ولا عصابات المافيا، بل ولا حتى أخلاق الساقطين في قاع المجتمعات، هي تكذب علناً وتكرر ذلك، هي تعد ثم تنكر وعودها، هي تسرق وتنهب البلاد حتى رغيف الخبز الأخير من أيدي جياع شعبها، تقتل الناس جهاراً نهاراً وأمام عدسات التلفاز بلا حياء ولا وازع ضمير، لا قيم لديها ولا مثل عليا، أحالوا الناس إلى روبوتات آلية، إن فتحت فاها، فمن أجل إطلاق المديح والتغني بعظمة الزعيم ...!
يا جماهير شعبنا الطيب، كفى طيبة، أيتها الجموع الغفورة، كفى غفراناً لمن لا يستحق المغفرة، أنتم في حمأة ثورة سيخلدها التاريخ، أثبتوا للأرض والوطن أنكم مستحقوه، هو طريق يستحق التضحية بلا سقف.
ليذهب الطغاة ومحترفي القتل، إلى قاع جحيم المزابل غير مأسوف عليهم، لا تأسفوا عليهم، لنتأسف على أنفسنا وشعوبنا.