الأمريكوقراطيون

محمود صالح عودة

لم نسمع الجماهير العربية تنادي بالديمقراطية منذ انطلاق الثورة في تونس، لكننا سمعناها تنادي بإسقاط النظام والحريّة والعدالة الاجتماعية، وتصرخ بأعلى صوت شوقًا للكرامة والعزّة المفقودة.

هذا لا يعني أنّ العرب يرفضون الديمقراطية، فممثلو جماهير الثورة العربية - بالإجماع تقريبًا - أعلنوا رغبتهم في دولة ديمقراطية حديثة، كون الديمقراطية أسلوب الحكم الحالي الأمثل في التعبير عن إرادة الشعب، فهي أصلاً تعني "حكم الشعب". لكن أرى أنّ سبب عدم ترديد الجماهير العربية "الشعب يريد ديمقراطية" أو ما شابه بشكل واضخ، يعود للتجربة العربية المريرة، بل الدموية، مع الديمقراطية خلال العقدين الماضيين.

إذ بعد الانتفاضة الشعبية التي شهدتها الجزائر عام 1988، خضع الرئيس الجزائري آنذاك شاذلي بن جديد (العسكري في الجيش الفرنسي سابقًا) للضغوط الشعبية، وأصبحت هناك تعددية حزبية وديمقراطية في الجزائر. وبعد نفس قصير من الحرية تشكلت "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" التي حصلت على شعبية كبيرة، ممّا أثار قلق الرئيس الذي تراجع بعدها عن الإجراءات الديمقراطية، فهبّ الشعب مرة أخرى.

وبعد الهبّة الثانية أجريت انتخابات ديمقراطية، وفازت الحركة الإسلامية بأغلبية ساحقة؛ 188 من أصل 231 مقعد في الجولة الانتخابية الأولى، ممّا أثار سخط الرئيس والجيش المدعومين فرنسيًا، فألغى الجيش الانتخابات وأجبر الرئيس بن جديد على التنحي، وعرض الرئاسة على محمد بوضياف صاحب السمعة الحسنة، لكنه اتهم باغتياله بعد تسليمه منصب الرئاسة بستة أشهر نظرًا لجديته في مكافحة الفساد.

ثم العراق، البلد العربي القوي المستقل الذي تحدّى أمريكا وإسرائيل ولم يقبل بالانبطاح لهما، وعملية "الدمقرطة" التي حدثت فيه بعد الغزو الأمريكي؛ إذ جيء بالديمقراطية على دبابات المحتل، وانكشفت حينها حقيقة فرض الأيديولوجية والدين، فالذين روّجوا أكاذيب فرض الإسلام بالسيف، هم الذين فرضوا ديمقراطيتهم المزعومة بالحديد والنار والفتن المذهبية والقتل الأعمى. هذا لا يبرر دكتاتورية صدّام بالطبع، ولكن يظهر من الدكتاتور الأكبر الذي يتستر خلف الديمقراطية، ومن يعتدي على من، ومن يفرض رأيه ومشروعه على الآخر، ومن هو الإرهابي الحقيقي.

بعدها الأراضي الفلسطينية عام 2006، إذ شهدت انتخابات ديمقراطية نزيهة بعد اندحار الاحتلال الإسرائيلي من غزة عام 2005، حيث فازت فيها حماس بأغلبية نسبتها 70% في غزة والضفة الغربية. رفض الجزء الأكبر من العالم - الغربي تحديدًا - نتائج الانتخابات، بالرغم من إشراف 900 مراقب دولي عليها أولهم الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر، وبدأ بمحاربة الفلسطينيين؛ إقتصاديًا من خلال الحصار، وسياسيًا من خلال التحريض الزائف ومحاولات الابتزاز، وعسكريًا من خلال دعم فرق الموت والمليشيات التي أثارت الفتنة بين الفلسطينيين. كل ذلك فقط لأن الشعب الفلسطيني عبّر عن رأيه، بانتخابه من يمثله، تحت مظلة الديمقراطية.

إنّ التجربة العربية الحديثة مع الديمقراطية إذًا ليست وردية، لكن المطلوب ليس رفضها، بل عدم أمركنتها أو غربنتها أو علمنتها خدمةً لأعداء الإرادة العربيّة، أو نزع البعد الروحي منها كما تفعل وسائل إعلام عربية كبيرة، وكما يفعل بعض "المفكرين" والمعارضين "الأمريكوقراطيين" في عالمنا العربي.

ذلك لأن هذه التجربة أثبتت أن الديمقراطية التي تأتي بما لا يرضي أمريكا والصهيونية مرفوضة بقوّة، ومفروضة بقوّة إذا كانت سترضيهم وتخدم مشاريعهم. كما أن محاربة هؤلاء للخيارات الشعبية التي صوتت للحركات الإسلامية في الجزائر وفلسطين، لا تصب في صالح ليبراليتهم المزعومة وادعاءاتهم بأنهم حماة الحرية الفكرية والدينية، بل تظهر مدى حقدهم وكراهيتهم لكل شيء له صلة بالإسلام.

قد يحل تعريب الاسم وتطويره جزءًا من المشكلة؛ فسمّها "الحاكميّة الشعبيّة" أو اسمًا عربيًا آخر بدلاً من "الديمقراطية" - مع الاحترام لمؤسسي الفكرة - فعسى أن يسهّل ذلك عملية التحوّل التحرري في العالم العربي، ويخفف من رفض الأمّة للمصطلح وتاريخه الأسود - كما حدث مع "العلمانيّة" - ويحفّز الاجتهاد والتجديد والابتكار، لا سيما أنّ الأمّة العربية والإسلامية ولاّدة مبتكرة معطاءة.

ذلك وأننا بحاجة إلى استبدال ثقافة الاستهلاك المادي والأيديولوجي الأعمى بثقافة الفكر والعمل الإبداعي، فكما قال جبران: ويل لأمّة تلبس ممّا لا تنسج، وتأكل ممّا لا تزرع، وتشرب ممّا لا تعصر.