الانتخابات الرئاسية التونسيّة والإختيار المرّ
م. فتحي الحبّوبي
كتب هذا المقال يوم الإقتراع أي قبل فوز الباجي قائد السبسي بالرئاسة
مارس الشعب التونسي يوم 21 ديسمبر2014، عمليّة إنتخاب أوّل رئيس جمهوريّة منتخب إنتخابا تعدّديّا ديمقراطيّا، بعد ثورة 14 جانفي 2011 التي إنتفض فيها الشعب التونسي على الاستبداد والاسترقاق، وبعد إنقضاء فترة الإنتقال الديمقراطي التي طالت على التونسيين وذاقوا أثناءها الأمرّين. حيث تدهور الإقتصاد وتفاقم التداين الخارجي بما يقترب من الإفلاس وطلّ الإرهاب برأسه محاولا بثّ الرعب في صفوف التونسين بشكل لم يعهدوه من قبل.
ولعلّ ما يلفت الإنتباه في هذه الإنتخابات أنّها وضعت الناخب التونسي، بعد خروج 25 متنافس من السباق، سواءا بالإنسحاب أو بالهزيمة الإنتخابيّة في الدور الأوّل، أمام خيارين أحلاهما مرّ. بتعبير آخر يجد الناخب التونسي نفسه اليوم أمام خيار بين المرشّح السيّء والمرشّح الأسوأ. بما يعني أنّه أمام مرشّحين غير أكفّاء لتحقيق طموحاته التي من أجلها قامت الثورة التي من بين شعاراتها البليغة والمكثّفة التي رفعت وهدرت بها الحناجر التونسية بين نساء ورجال شعارات ثلاثة هي "انقلع" dégage و"الشعب يريد إسقاط النظام" و" التشغيل استحقاق، يا عصابة السرّاق".
فأمّا المرشّح المنصف المرزوقي، وهو الرئيس المنتهية ولايته، فقد أثبت بما يقطع الشكّ باليقين، خلال إعتلائه هرم السلطة لمدّة 3 سنوات، أنّه غير أهل للرئاسة. حيث أنّه لم يسع، في حدود صلاحياته -ولو أنّها محدودة جدّا في مجالي الدبلوماسية والدفاع فقط - إلى المساهمة في تحقيق الشعار الثوري الثالث الذي يعنيه باعتباره محسوبا على الثوريين المناضلين ضدّ النظام السابق وليس على من ساهموا في منظومة الإستبداد. ليس هذا فقط، بل إنّه تعامل مع هذا الشعار بمنطق مقولة "أذن من حديد وأخرى من عتيد" فساهم في نفور المستثمرين الأشقّاء والأجانب الذين كانوا قد يحقّقون نسبة مهمّة من القدرة التشغيليّة التي تدحرجت على ما كانت عليه قبل الثورة. وجاء هذا النفور كردّة فعل مشروعة على انتهاجه لسياسة خارجيّة تجلب الأعداء للشعب التونسي أكثر من جلبها الأصدقاء للإستثمار في تونس التي عرفت سابقا بدبلوماسيّتها الهادئة على مدى العقود الستّة الماضية. وكان من تداعيات ذلك أن قطعت تونس علاقاتها مع سوريا بشكل متسرّع وغير مدروس، علاوة على افتعال الأزمات مع كلّ من ليبيا في قضيّة تسليم البغدادي المحمودي و الجزائر ومصر والإمارات، بل وكذلك مع كوريا الشماليّة!
كما أنّه فشل فشلا ذريعا في تحصين الثورة ضدّ عودة منظومة الإستبداد وفي إستعادة حقوق شهداء الثورة الذين كان قد وعد أهاليهم بها. يضاف إلى ذلك إستشراء الإرهاب وإطلاق التصريحات العديدة التي لا يمكن إلّا أن تبعث على السخريّة والشفقة على من يطلقها، بما يمثّل إهانة ليس لمؤسّسة الرئاسة فحسب بل وكذلك للشعب التونسي بجميع مكوّناته. لهذه الأسباب فلن يكون المرزوقي بالتأكيد هو المرشّح المفضّل.
أمّا المرشّح الباجي قائد السبسي، الذي يدنو عمره من سنّ التسعين، والذي تقدّمه وسائل الإعلام المختلفة على أنّه رجل المرحلة المتخرّج من المدرسة البورقيبيّة التي بنت تونس الحديثة، وأنّه صاحب التجربة الطويلة في مختلف دواليب السلطة، حيث تقلّد منصب الوزارة في عهد بورقيبة عدّة مرّات ورئاسة البرلمان في عهد المخلوع بن علي، ثمّ رئاسة الوزراء ما بعد قيام الثورة ، فإنّه يعتبر من أزلام النظام السابق ومن الفاعلين الأساسيين في منظومة الإستبداد التي كانت شاهرة عصاها الغليظة على كلّ مواطن يتوق إلى تحقيق العدالة الإجتماعيّة واستنشاق نسيم الحرّيّة العابق. كما أنّه متّهم بتعذيب أنصار المعارض صالح بن يوسف أيّام تقلّده زمام وزارة الدّاخليّة في ستّينات القرن الماضي. يضاف إلى ذلك خذلانه لبورقيبة وتنكّره له في عهد المخلوع بن علي وعدم زيارته له ولو مرّة واحدة في إقامته الجبريّة، خلافا لما فعله غيره من أنصار الزعيم بورقيبة الحقيقيين الذين دافعوا عنه عبر رسائل موثّقة وجّهت للرئاسة بغرض تحسين ظروف عيش الزعيم في "حبسه". بل أنّ من دواعي عدم الثقة به أنّه لم يكلّف نفسه حتّى مجرّد حضور جنازة بورقيبة الذي أصبح يتشبّه به اليوم ويتقوقع في جلبابه ويلتفّ بعباءته للتوظيف السياسي لا غير.
ورغم ما يشاع عنه من أنّه رجل دولة، فإنّه ليس كذلك. وحتّى وإن سلّمنا جدلا بانّه رجل دولة، فهو اليوم غير قادر على تحمّل عبء ملفّات رئاسة الدولة وفق الدستور الجديد. علما أنّه لم يكن بحقّ رجلا بارزا في عهد بورقيبة بالشكل الذي كان عليه بعض وزراء بورقيبة الأحياء كالوزير القويّ، رجل التعاضد أحمد بن صالح أو الرجل الديمقراطي الأصيل، الوزير أحمد المستيري الزعيم التاريخي لحركة الديمقراطيين الإشتراكيين أو محمّد الصيّاح مدير الحزب الإشتراكي الدستوري المثير للجدل. فالمرشّح قائد السبسي لم يسطع نجمه سياسيّا إلّا بعد الثورة بفعل مناورات الدولة العميقة. وبأعتباره من المنظومة الإستبداديّة السابقة، فلا أخاله قادرا على ممارسة الحكم الديمقراطي، ولا أخاله الرجل المناسب للمرحلة الحاليّة وهو المحسوب على من قامت عليهم الثورة وشملهم شعار "انقلع" dégage. فكيف إذن يسمح له بالعودة للسلطة من جديد؟!. لهذه الأسباب فلن يكون قائد السبسسي بالتأكيد هو المرشّح المفضّل.
وما دامت المفاضلة بين المترشّحين شبيهة بحال "المستجير من الرمضاء بالنار" سيكون التصويت الأبيض إذن معبّرا عن الإحتجاج والرفض للمترشّحين الإثنين من خلال الورقة البيضاء الناصعة والنقيّة التي لا يشوبها خدش ولا تلويث أو فساد بمثل ما لحق تونس والتونسيين مع المرزوقي وقائد السبسي. لكل ّ هذه الاسباب فالإختيار بين المترشّحين في مطلق الأحوال إنّما هو إختيار مرّ.