الجماعة والمشروعية وتداول السلطة 2

د. محمد عبد الرحمن

د. محمد عبد الرحمن

عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين

الموقف من القانون الوضعي :

القانون يشمل مع النص التطبيق والممارسة له، وقد يكون الخلل فى أحدهما، وقد يكون الخلل فى كليهما.

والنص الدستورى أن مصدر التشريع فى الدولة هو الشريعة الإسلامية، يجعلها المرجعية الأساسية والميزان الحاكم الضابط لأى قانون ، وإن كان هذا الحق ثابت وقائم لها حتى بدون هذا النص، ولكن الواقع فى هذا المجال حالياً يشير إلى أنه يكاد لا يلتفت لهذا الأصل الدستورى.

وبالتالى تواجه الجماعة منظومة قانونية، بعضها له الصفة الدستورية الحقيقية المعبرة عن إرادة الأمة، وبعضها يسيء الحاكم استخدامه وتطبيقه، وبعضها يتمكن الحاكم من خلال نظامه المستبد من سنّ القوانين حسب هواه ووفق مصلحته الشخصية التى يحددها هو،حتى عُرف فى مجتمعنا مصطلح "القوانين سيئة السمعة" والجماعة فى تعاملها مع القانون، ومن حرصها على وحدة المجتمع وعدم إثارة القلق والفتنة فيه تنطلق أساساً من احترام القانون والتعاون على الخير والإصلاح،لأن استقرار حالة المجتمع يتمشى مع أهداف الجماعة وحرصها على مقدرات الأمة، ويساعد على نمو الدعوة وتقدم المجتمع، أما الفوضى والتخريب فهو ضد سياسة وأهداف الجماعة.

وهذا الأصل فى رؤية الجماعة تجاه القانون ينبع من الرؤية الشرعية فى هذا المجال، ومن الضابط الشرعى "لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق" حديث شريف.

أى أن القانون الذى فيه مخالفة واضحة ومعصية متفق عليها بين الفقهاء ، لا يجوز للجماعة أن تمارسه وترتكب به تلك المعصية، بل إنه فى الأصل القانونى فاقد أيضاً للشرعية الدستورية. ( مثل قوانين إباحة الخمر- وإباحة الزنا - والربا .. الخ ) وقد يكون هناك قوانين تمنع الأفراد أو الأمة من قول كلمة الحق أو تقيد حريتهم وتستبد بهم أو تمنعهم من المطالبة بحقوقهم وفق الضوابط الإنسانية العامة، أو تمنعهم من التعبير عن مناصرة وتأييد ومساندة شعوب العالم العربى والإسلامى فى قضاياهم.

فلا ترضى الجماعة بهذه القوانين ولا توافق عليها،وتسعى بوسائل النضال الدستورى تصحيح هذا القانون وما فيه من مخالفة لشرع الله.

يقول الإمام الشهيد فى مواجهة هذا الخلل والفساد: "..أما الإخوان المسلمون فهم لا يوافقون على هذا القانون أبداً ولا يرضونه بحال وسيعملون بكل سبيل على أن يحل مكانه التشريع الإسلامى العادل الفاضل فى نواحى القانون([1]).

وهناك قوانين تنظم أمور الحياة والمجتمع داخل نظام الجواز الشرعى، وقد تكون غير موفقة فى تنظيم هذه المجالات كأن يكون فيها قصور أو تجاوز لبعض الحقوق (مثل قوانين الضرائب – قوانين سياسات العمل والعمال .. الخ ) .

فهذا تلتزم به الجماعة لأنه من نظام المجتمع الخاضع للاجتهاد البشرى، وفى نفس الوقت تسعى لإصلاح القانون من خلال مؤسسات المجتمع المنوط بها ذلك وتبذل النصيحة فى هذا الشأن.

إن تربية أفراد الجماعة على احترام الكيان المجتمعى ، والحرص على مقدرات الوطن والأمة واحترام القانون والنظام بصفة عامة ، هو من متطلبات التربية الاجتماعية الأساسية عند دعوة الإخوان ، ولهذا نجد الجماعة وأفـرادها حريصين على أمن الوطن ومصلحته ، وعلى وحدة الأمة وعلى مقدراتها ، ويعتبرون هـذا واجباً شرعيـاً ، وضمـن أهدافهم ، وإن منهج الجماعـة وسياستها ومواقفها المختلفة طوال تاريخهـا كانت تنطلق من هذه الرؤية وذلك الأساس.

نوجز الموقف العملى من القانون فى هذا الإطار:

قوانين تتفق مع الشريعة الإسلامية، وهذه توسع تأثيرها وتفعل تنفيذها.

قوانين لا تخالف الشريعة، وهى تنظم حياة الناس، ضمن الاجتهاد البشرى وهذا نحترمه وننصح فيه ليأتى محققاً لهذا الأمر.

قوانين تخالف الشريعة ، أما أنها تمنع حقاً شرعياً أو تفرض رأياً مخالفاً أو تؤدى إلى معصية.

وهنا يكون التعامل حسب الأصل وحجم الخلل؛ كالآتى:

رفض ما فيه معصية لله، وعدم الرضى به، الرفض الواضح لكل ما يخالف أحكام الإسلام، فهو المرجعية العليا ونتحمل ما يترتب على ذلك من تضحيات.

التزام المكره، وتطبيق حدود الشرع وضوابطه فى حالة الإكراه، وحسب حجم الخلل.

إيصال الحقوق لأصحابها قدر الاستطاعة.

عدم تنفيذ ما فيه معصية سواء أباحها القانون أو فرضها، ونتحمل ما يترتب على ذلك من تضحيات.

الدعوة للتغيير لهذا القانون وغيره،ومواجهة الانحراف فى تطبيقه بالوسائل السلمية والقانونية الموجودة فى المجتمع.

الفرق بين الدولة والنظام الحاكم :

هناك فرق بين الدولة كمؤسسة تشكل جزءاً من المجتمع وهى قمته والمعبرة عنه، ولها أركان وأسس تقوم عليها، وبين النظام كمجموعة أشخاص تشغل هذه المؤسسة وتعمل من خلالها.

وهذا الفرق هام جداً فإن مصلحة الوطن والدولة لها اعتبارها الشرعى والإنسانى فى حياة الناس وهم مطالبون بالحرص عليها وتقوية دعائمها والارتقاء بها، أما النظام فهو بمقدار التزامه بهذه المؤسسية وأدائه للواجبات التى تفرضها عليه مصلحة الوطن وتحقيق قوة الدولة، بمقدار قيامه بذلك يكون ميزان التعامل والتقدير له واحترام ما يقوم به.

أما إذا كان يسعى لمصلحته الشخصية وإحكام قبضته وسيطرته دون اعتبار لإرادة الأمة، ويستغل هذا الموقع فى سن القوانين بل وحتى تغيير الدستور،بما يمكنه من تحقيق أغراضه دون الضوابط الشرعية والأصول الدستورية، والإرادة الحرة للأمة ، فهذا ليس له اعتبار ولا وزن له فى مصلحة الوطن وسلامة الدولة.

وهو صورة فاسدة تشابه صورة النظام الملكى الذى يعتبر الدولة هى شخصه ، ويختصر الوطن فى نفسه وحاشيته.

وهى صورة فاسدة كذلك تشابه صورة أصحاب ادعاء الحق الإلهى والقداسة الشخصية يحكمون بها باسم الله، والله منهم برئ كما شاهدنا فى سيطرة الكنيسة على الدولة فى العصور الوسطى.

وفى هذه الحالة يجب أن تميز الأمة وكل مؤسساتها بين هذين الجانبين بين الدولة والوطن، وبين أشخاص النظام ولا يخلطون بينهما، فالوطن والدولة باقية، والأشخاص زائلون متغيرون.

ويكون التطابق هنا هو بمدى التزام أشخاص النظام بالوطن ومصلحة الدولة واحترام إرادة الأمة.

وعلى المؤسسات العاملة فى المجتمع والخاضعة بحكم السيطرة من أشخاص هذا النظام أن تتقى الله فى الحفاظ على مصلحة الوطن وألا تنحرف أو تتجاوز فى عملها بالمثل مجاراة أو تقليداً لهم، وأن تعرف أن بعض الإجراءات والمطالبات أو حتى بعض القوانين التى يقوم بها النظام لحماية أشخاصه وكراسيه هى إجراءات ظالمة متغيرة، فيجتهد فى الإصلاح قدر الطاقة عند التنفيذ من باب الإكراه العملى مع عدم رضا القلب { إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ } [النحل:106] ، أما من وافقهم ورضى بذلك وعاونهم فهو يحمل من الإثم مثل ما يحملون ، وهذا فرعون وهامان وقارون لم يدخلوا هم فقط النار بل دخل معهم جنودهم وأتباعهم { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } [القصص:8] .

والجماعة فى معارضتها أو خلافها مع النظام لا يكون هذا الأمر على حساب مصلحة الدولة والوطن ، فتراعى ذلك فى الوسائل التى تسلكها وفى المواقف التى تتخذها .

والجماعة لا تعتبر نفسها فوق أحد أو تجعل نفسها فى كفة والآخرين فى كفة أخرى ، ولكنها تنطلق من أنها صاحبة دعوة ورسالة تؤمن بها وترى أن عليها واجب أداء هذه الرسالة إنقاذا لنفسها وخدمة لوطنها وأمتها .

والإسلام وأحكامه هو الذى يشكل المرجعية العليا للجماعة ولأى تجمع أو كيان آخر، وهو كذلك يعتبر الضابط الحاكم لأى قانون ويمنع عنه الشرعية إذا خالف قواعده ومبادئه الأساسية .

وليس هذا الحق للجماعة أو لأى كيان آخر ، أن يجعل نفسه المرجعية أو أن يحتكر الحديث عن الإسلام أو يوزع الشرعية على هذا أو ذاك وفق رؤيته وهواه.

                

([1]) من رسالة المؤتمر الخامس صـ140 .