بماذا نصف عمليات التنمية في أقطارنا ؟

د. ضرغام الدباغ

[email protected]

لم يخف معد البرنامج التلفازي (ندوة ضمن برنامج اشتركت به مع غيري من الخبراء) حيرته عن المشاهدين بقوله: بماذا نصف عمليات التنمية الدائرة في أقطارنا ؟ هل نصفها بكونها متجمدة، أم أنها تراوح في مكانها، أم أن الاقتصاديات الوطنية تتراجع، أو تتقدم ببطء، أم ببطء شديد ..؟  والحق أن هذه (Theme) هي موضوعة نعدها في كل الأحوال ممتازة من أجل حوار مثمر مفيد حول قضية بالغة الأهمية، حوار يساهم حقاً في توعية الناس، وأهمية دورهم في عملية التنمية، وهي تصب في صلب ما تشهده الساحات العربية الآن.

لا بد من الإقرار بحقيقة كبداية، أن عمليات التنمية في أقطارنا لا تدور بشكل سليم(وإن كان لا يمكن الحديث عنها بنسق واحد)، وعدا الحالة العراقية التي يتراجع بل يتدهور فيها الاقتصاد العراقي رغم الواردات الهائلة، (وهذه بالطبع متعمدة لتدمير العراق بأسره وليس اقتصاده فحسب، بعد أن كان قد حقق رغم ظروفه منجزات اقتصادية مهمة)، فالتنمية في أقطارنا ليست متوقفة، ولكنها تسير ببطء كمسيرة السلحفاة، لا تعطي ثمارها المرجوة، بل يمكن القول: أن النتيجة دائماً هي أقل مما يمكن أن تكون عليه فعلاً.

من المهم ملاحظة أن تطوراً في فكر اقتصاد التنمية أو اقتصاد التخلف ليصبح فرعاً من فروع الاقتصاد، بالنظر لأتساعه ولتعدد مسالكه ومباحثه. وإذا ما اعتبرنا ابتداء، أن معوقات التنمية العامة تتلخص بثلاثة عناصر أساسية وهي:

* الحاجة لرأس المال.

* الحاجة إلى التكنولوجيا.

* ضعف الإنتاجية (Productivity).

هذه المعوقات الثلاث متوفرة في البلدان النامية بنسب متفاوتة، إذا اعتبرنا أن بعض البلدان النامية لا تعاني من نقص شديد لرأس المال بسبب تصدير الخامات المعدنية غالباً. وقدراتنا في أقطارنا العربية ليست ضعيفة (لاسيما إذا وضعنا في تقديرنا حسابات الاقتصاد العربي ككل)، الفرد في أقطارنا ذو إنتاجية قابلة للتطور والتقدم، وأفضل دليل على ذلك هو مواطنون من أقطارنا العربية العاملون في أرقى المؤسسات الأوربية في كافة الميادين، أطباء ومهندسون وعلماء، كما أن الحاجة لرأس المال ليست حادة(على الأقل في الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة)، كما أن ظروف الحصول على التكنولوجيا هي اليوم أفضل من ذي قبل(قبل عقود) بسبب تعدد المراكز الصناعية في العالم والتنافس الحاد فيما بينها.

وإذا ركزنا بحثا في الأسباب الجوهرية لتراجع مكانة البلدان النامية، الذاتية منها أي الداخلية، نجد أن منظومة من العناصر والعوامل تنشب أظافرها في البلدان النامية ومنها العربية، وهناك نظريات ترجح أسباب التخلف الاقتصادي (أو بنسبة مهمة منه) إلى التخلف الثقافي / الاجتماعي في البلدان النامية، ولشيوع أنماط من التفكير المتخلف والميل للأساطير والخرافات والغيبيات، والابتعاد عن التفكير العلمي والواقعي، وهو ما يشجع على قيام علاقات غير إنتاجية، وإبقاؤه حبيس أطر العلاقات الإقطاعية والقبلية(العشائرية)، والأسرية، عموماً في علاقات ما قبل العصور الصناعة الراقية.

وتخلق مجموعة العوامل هذه وغيرها، أنماطاً للعمل والتفكير، وتصوراً للعلاقات الاجتماعية التي تفرز بالتالي الأنماط السياسية، وبالتحديد أنظمة حكم متخلفة لا تتيح المجال لانطلاق القدرات الذاتية للجمهور(على ضعفها)، فينجم عن ذلك حركة ضعيفة لا تتناسب أو لا تستطيع متابعة التطورات السريعة التي تدور في العالم وفي مقدمة تلك، التسارع الشديد في دولنة الاقتصاد(أي جعله دولياً)، وإقحام منجزات التطور العلمي / التكنيكي في الصناعة بل وفي كافة أفرع الإنتاج بما في ذلك الإنتاج الزراعي.

وفوق كل هذه العناصر المثبطة، يأتي دور الأنظمة الطغيانية، وهي نتيجة موضوعية لمحصل تلك العوامل وغيرها، تؤدي إلى تخلف سياسي / دستوري، أنظمة قمع، وديكتاتوريات صريحة أو مقنعة، تهيمن الأجهزة الأمنية على تعددها وتخصصها حتى على مفردات الحياة السياسية / الاقتصادية / الاجتماعية / الثقافية، تشجع الفساد من أجل خلق بطانة وحاشية موالية لها، كسبيل للاحتفاظ بالسلطة، بالإضافة إلى غياب سلطة دستورية تحاسب الحاكم الطاغية، وذالك يؤدي فيما يؤدي، أن تتحول موارد البلاد إلى ممتلكات خاصة، وفي حالات يصبح البلد بأسره يدار من قبل عصابة فائقة التنظيم استولت على المفاتيح الرئيسية، وصارت رؤيتها التنموية الاقتصادية/الاجتماعية تنطلق من فكرة حجم فائدتها من هذه المشاريع، التي يطلق عليها أسم مشاريع الأبهة والبهرجة التي تهدف إلى خلق دعاية شعبية للطاغية ونظامه أكثر من فائدتها لتطوير وتعزيز مصادر الدخل القومي.

الفساد في الأنظمة الطغيانية توسع واستشرى حتى غدا مؤسسة قائمة بذاتها، أقوى من الدستور والقوانين، ومؤسسات السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية معاً، بل وتنافس حتى الديكتاتور نفسه في طغيانه، بعد أن أدركت أنها السبب الأهم في وجوده ومكوثه في السلطة، فراحت تطالب بنصيبها من المغانم. مما يعيد إلى الأذهان الدور الذي كان للحراس البريتوريين (Praetorian) في العصر الروماني، وهم حراس مرتزقة تنامى دورهم وتدخلهم في الحياة السياسية في روما بلغت درجة خلعهم الملوك أو تتويجهم، وربما أن شيئاً من ذلك يحدث أو أنه على وشك الحدوث في كواليس أنظمة الطغيان بصور وأشكال مختلفة.

الفساد في ظل الأنظمة الطغيانية، في اتساع نفوذه، صار يهيمن أيضاً على قطاع الأعمال والتجارة وأنتعش قطاع الأعمال (Business البزنس)، وسائر الأنشطة التي تحقق الربح الوفير بسهولة وسرعة، في استثمارات مالية للنفوذ السياسي دون الولوج في تفاصيل صناعية معقدة ومرهقة، وبذلك خلق في بلدان الطغيان عالم من القابضين للعمولات على المشاريع (Commission)، في غالبيتهم من أقارب الطاغية وبطانته من رجال الأمن مراكز القوة والنفوذ في البلاد، وصارت لهم خبرتهم في اقتناص الفرص والاستفادة من النفوذ في تحقيق مكاسب مالية كبيرة.

وببساطة شديدة تقدم لنا أجهزة الإعلام الأوربية والأمريكية أدلة صارخة أن الفساد (Corruption) في أجهزة الدول مسئول رئيسي عن تخلف البلاد، ومثل هذه الأمثلة تجدها في مجلة الإيكونوميست ( Economist)، والفيننشال تايمز (Financial Times)، التي نشرت مرة أن مجموع الأموال المودعة في البنوك الأمريكية والأوربية للحكام الدكتاتوريين في أميركا اللاتينية تعادل مجموع ديونها الحكومية. كما قرأنا أن المبالغ المصرية في البنوك الأوربية والأمريكية تناهز المئتان وثمانون مليار دولار، وهو مبلغ يمثل عدة أضعاف الميزانية المصرية لعام كامل(514 مليار جنيه/ 2011)، كما أنها أكثر من ثمانية أضعاف الديون المصرية الخارجية (32.8 مليار دولار)، وإن ما يسيطر عليه رجل واحد في سورية (من أسرة الرئيس الحاكم) من أعمال بمليارات الدولارات تبلغ نحو 60% من مجموع الأعمال، فيما يبلغ حجم الدين السوري العام (7.68 مليار دولار)، فأي درجة خيالية من الفساد هذه ..؟ والنظام يضرب بالأسلحة الثقيلة وكأنه يقتل من أحتل أرض البلاد لمن يطالب بالحرية ..!

ولا يسمح الحكم الديكتاتوري بأتساع أفق العلاقات الاجتماعية فهذه مهددة لسلطانه، ولذلك فإن ازدهار ثقافي / اجتماعي حقيقي هو احتمال مستبعد، بيد أن في عالم اليوم، حيث أصبحت تقنيات الاتصالات(Communication System) بالغة التطور وفي متناول اليد، وقيد الاستخدام الشعبي الواسع النطاق، كالأنترنيت والفيسبوك، ومواقع كثيرة للاتصال وتبادل الرأي والمواقف وهو ما لا يصب في خدمة الانضباط المجتمعي الصارم الذي تفرضه أجهزة النظام الطغياني، إذ يخلق فرصاً للتبادل الثقافي والمعرفي، ويؤدي إلى خلق مواقف جمعية، قد تكون مناوئة للنظام الأمني والقمعي، بمجرد تداول الحديث عن الحريات الديمقراطية، والانفتاح الاجتماعي، إذ يتبدد خوف الإنسان أو يتضاءل عندما يشعر بأن هناك معه من يشاركه الرأي والموقف، قد تكون عفوية في البداية، إلا أنها تتحول تدريجياً إلى وعي وعمل اجتماعي تنخرط فيه أوسع الجماهير.

وربما شرارة صغيرة تؤدي لحريق واسع، كما يقول ماوتسي تونغ،  فالطغيان والديكتاتورية تؤدي للفقر، إذ لا يمكنك أن تطلب من إنسان العمل ويداه مقيدتان، أو الحديث وفمه مكمم، والفقر والجوع يؤديان للقمع والقمع للثورة، تلك متلازمات تاريخية لا مناص منها، وعن ذلك يتحدث بشكل رائع وأخاذ مفكرنا أبن خلدون.  والثورة تطيح بكل شيئ، أو قد تشهد أحداث مجزرة تنزف البلاد من جراءها عقود طويلة، وتطبع في أرشيفها صور وذكريات يصعب محوها كالحرب الأهلية الأسبانية (1936 ـ 1939)، وتساهل الغرب الرأسمالي مع فرانكو الفاشي بانتهازية ليست نادرة، لأنه كان مفيداً في جبهة معاداة الاتحاد السوفيتي والاشتراكية في أسبانيا، وتواصل حكمه حتى وفاته، لتنال أسبانيا أخيراً الديمقراطية، وليدخل الطاغية وعهده في نفق النسيان والإدانة التاريخية.

الديكتاتورية والطغيان ليست شيئاً حضارياً راقياً لتفرز معطيات راقية أو لتخلق مقدمات الانطلاق لعملية حضارية راقية، ففي ظل أنظمة الطغيان لا يمكنك أن تقرأ وتسمع إلا تهريجاً يؤدي لخدمة النظام، وتصفيق وهتاف يثير الاشمئزاز، وانحطاط خلقي عام تتمثل أبرز مظاهره في تشجيع الوشايات والتملق وإهانة الذات من أجل المنافع، ويكتسب النظام من خلاله الاحترام المزيف بدواعي الخوف والإرهاب. الدكتاتوريات معادية للثقافة لأن الثقافة نور يشق ظلمات الليل، ينغرس في أعماق النفس الإنسانية فيمنحها الثقة بالنفس والشجاعة، والقدرة الأفضل على فهم الحاضر وقراءة الغد، لذلك تخشاها الديكتاتوريات لأنها لا تستطيع ألقاء القبض على وهج النور، الثقافة ترتفع عن مستوى المناطقية والجهوية والطائفية، المشتتة لوحدة الجماهير، التي تعتبرها الديكتاتوريات سلاحها السري كالغاز السام الذي لا يشاهد بالعين ولكنه قاتل ...! 

فكيف نريد من مجتمعاتنا أن تنطلق صوب النمو وهي ما تزال في الأطوار الابتدائية من مرحلة التحرر الوطني، رغم مرور نصف قرن فصاعداً على نيلها الاستقلال الحديث. دعونا لا نطمح كثيراً، فلنعمل على تقليص تبعيتنا الاقتصادية، وتعزيز وحدتنا الوطنية التي تمزقها الديكتاتوريات وتضحي بها على ذبح شهواتها، دعونا نحافظ على استقلالنا الوطني، الطائفية والمناطقية والجهوية، هذه كلها سموم وكمائن استعمارية يروجها أعداء أقطارنا، والأنظمة الطغيانية الديكتاتورية. لننهي هذه الأنظمة كشرط ومقدمة للتقدم، ولنعلم أن عملية التنمية تتعطل آلياتها جزئياً أو كلياً بدون حشد شامل للقوى، وهي بهذا المعنى شبه مستحيلة في ظل أنظمة الطغيان ومافيا العائلات.

ـــــــــــــــــــــــ

ملاحظة: هذه المقالة جزء من مقابلة تلفازية مع إحدى الفضائيات العربية بتاريخ 18/ تموز / 2011