عسكرة الثورة
احتمالات ومخاطر !.
محمد علي – دمشق
قريباً من مئة يوم وشلال الدم السوري لم يتوقف . المتظاهرون يهتفون : ( سلمية ... سلمية .. بدنا حرية !) ، فإذا أمطرهم شبيحة النظام وعصابات أمنه بالرصاص الحي ، صرخ رجل منهم بأعلى صوته ، لعلهم يسمعون : ( سلمية ... سلمية .... وِلْكُمْ سلمية يا ولاد الـ .......!. ) لكن شبيحة النظام صمٌّ بكمٌ عمْيٌ ، لا يسمعون ، وإذا سمعوا لا يستجيبون . في بعض اللوحات الجميلة للثورة ترى المتظاهرين قد خرجوا بصدور عارية ، يحملون أغصان الزيتون وكل ما يرمز إلى السلم ، لم يحملوا حجراً ولا عصاً فضلاً عن سلاح !. بعض اللافتات التي يحملها المتظاهرون كُتِبَ عليها : { لئن بسطت إليَّ يدكَ لتقتلني ما أنا بباسطٍ يديَ إليك لِأَقْتُلَك !} لكن هذا الخطاب المسالم جداً يغري الآخر بالإسراف في القتل وإنهار مزيد من الدم كما أغرى ابن آدم الأول بقتل أخيه ، فأصبح من النادمين . مطالب السوريين بالحرية والكرامة والعدالة مشروعة باعتراف النظام نفسه وعلى لسان الرئيس بعينه ، غير أن الدولة منذ الأيام الأولى للثورة اعتمدت الحل الأمني ( القتل العمد طبعاً ) ، لإرعاب الناس وإسكاتهم لكن النتائج جاءت عكس حساباته وقراءته الخاطئة للشعب ، فقد ضعفت هيبة الدولة وسقطت شرعيتها الأخلاقية ، وارتفع سقف المطالب الشعبية إلى إسقاط النظام ومحاكمته !. ثم بالغت الدولة في الإيغال في دماء الشعب بلا حساب ؛ يقتلون المتظاهرين يوم الجمعة ، ويقتلون مشيعي جنازاتهم يوم السبت ، ويقتلون مشيعي المشيعين يوم الأحد ، وهكذا دواليك . قتل بلا تمييز للشيوخ والنساء والأطفال ، وحملات اعتقالات واسعة ، وممارسات تعذيب وحشي لم تعرفها محاكم التفتيش السيئة السمعة ، مما صنع قطيعة كاملة بين النظام والشعب ، وأدى إلى انهيار مصداقية الحكم وفقدان الثقة في أشخاصه ومؤسساته وخطابه ووعوده .
وهنا أريد أن أؤكد على حقيقة أصبحت مسلَّمة وبديهية ، وهي أن كلا طرفي الصراع : النظام والشعب وصلا نقطة ( اللاعودة ) ، فالنظام يمعن في القتل العمد والبطش والتنكيل أي الحل الذي اختاره منذ البداية عاطف نجيب مع أطفال درعا الذين قدحوا شرارة الثورة ، ولا يبدو أن النظام يرى له بديلاً ، وهو ما أكده بشار الأسد في خطابه الثالث والأخير !. والشعب أيضاً لن يتراجع عن مطالبه ، بعد كل هذه التضحيات الجسام والدماء العزيزة ، ليست المطالب اليوم طبعاً مجرد إصلاحات ؛ وهمية كانت أو حقيقية لكن مطالبه أصبحت إسقاط النظام ومحاكمته ، وهي مطالب لا يختلف عليها اثنان من درعا إلى القامشلي . إذا سلمنا بهذه الحقيقة ، فهي تسلمنا إلى حقيقة أخرى وهي أن النظام المسعور سيزداد شراسة وعنفاً ، وهو قد وصل إلى هذه الحالة فعلاً ، بعد استخدامه للدبابات والمدافع والطائرات وقيامه بالمجازر البشعة المروعة والمقابر الجماعية والتمثيل بالجثث ، وبلغ أقصى مدى في مقتل الطفل حمزة الخطيب وقهقهة الجنود ورقصهم على جثث وأشلاء ضحاياهم ، فماذا بعد ؟. وهنا نجد أن النظام يضغط على الشعب ، ويدفع به دفعاً عن عمد وقصد إلى حمل السلاح في وجه الجيش والأجهزة الأمنية ، وتحويل الاحتجاجات إلى عصيان مسلح !.
ومن الضروري أن نشير إلى أن الشعب ما يزال يملك نفسه ، رغم حجم القتل والبطش الذي فاق التصور ، أما ما وقع من حوادث عنف فهي حوادث فردية وقعت في سياق الدفاع عن النفس أو العرض ، وهي على العموم لا تشكل خطراً ، ولا تخدش سلمية الثورة ولا تحرفها عن خيارها السلمي في المقاومة ، ولا تعكِّر عليها . ثم إن الثورة ليست تنظيماً حزبياً يمكن ضبطه بل هي ثورة شعبية واسعة ممتدة الأطراف لا يمكن التحكم بتصرفات جميع أفرادها .
المنعطف الأهم والأخطر الذي حدث في الآونة الأخيرة ، وكان متوقعاً من قبل ، وهو وقوع انشقاقات في أوساط المؤسسة العسكرية السورية ، والأنباء آخذة بالاتساع عن حالة فرار في الجيش السوري وعن وحدات كاملة تنظم نفسها للدفاع عن المتظاهرين في سورية ، وليس من الواضح بعد حجم الانشقاق والرفض ، ولكن المؤكد أن ظاهرة الانشقاقات هذه إذا اتسع نطاقها ، وستتوسع لا محالة ، لأن الجيش لا يستطيع الصمود طويلاً أمام تضحيات الشعب وآلامه واستغاثات الشيوخ والنساء ودموع الأطفال وهم أهله وإخوانه ، وعندئذ سيشكل الانشقاق في صفوف الجيش شرخاً كبيراً وخطراً مؤكداً ، وقد يفضي إذا ما التحم مع الشعب إلى ما لا تحمد عقباه ، من حرب أهلية مضرجة بالدماء أو حالة من الاقتتال تشبه تلك الحرب الدائرة في ليبيا .
استخدام الشعب للسلاح أو ما يتوفر لديه من سلاح ، فيه مخاطر عدة ، وهو أنه غير مكافئ لسلاح وقوة ومهارة خصمه ، وهو مقيد بضوابط أخلاقية وإنسانية ووطنية لا يتمتع بها النظام الفاجر ، ولذلك ستكون الغلبة في الحسابات المادية في هذه الحالة للنظام ، خاصة مع احتمال تدخل إيران بشكل مباشر ومؤازرة الميليشيات التابعة لها في المنطقة ( لبنان والعراق ) . وهنا لا بأس أن نتذكر أن الثوار الليبيين الذين اختاروا الحل العسكري طريقاً منذ بداية الثورة ، لم يستطيعوا أن يحققوا تفوقاً على قوات القذافي إلا من خلال التدخل الخارجي في لحظة حرجة كانت كتائب القذافي على أبواب بنغازي ، والآن ورغم مرور أكثر من شهرين لم يستطع حلف الناتو حسم المعركة ، وهو أقوى حلف عسكري في العالم !. وعليه فإن تدخلاً مسلحاً خارجياً في سوريا احتمالاته بعيدة أولاً ، لأنه ليس للغرب مصالح ومطامع في سوريا مثل تلك التي سال لعابه لها في ليبيا . أضف إلى ذلك أن مخاطر التدخل كثيرة والشعب السوري نفسه لا يريده وينأى بنفسه عنه ، لأن روحه الوطنية المقاومة تأبى عليه أي تدخل أجنبي يشم منه رائحة الاستعمار أو النيل من استقلال البلاد ، وهو يأبى أن يستبدل الاستبداد بالتبعية والاستعمار بأي لونٍ أو شكلٍ كان ، وهذا هو موقف المعارضة السورية أيضاً !.
لكن هؤلاء الناس الذين يخرجون للتظاهر وهم ألوف ، فيقتلون ويعتقلون ويعذبون وتهان كرامتهم ويداسون بالنعال على الهيئة التي رأينا ، ويقتل منهم كل يوم ، مع أنهم يهتفون : سلمية ... سلمية... لكن إلى متى ؟. لست أنا الذي أطرح السؤال لكن الذي يطرحه الشعب السوري نفسه ، وتلمسه من خلال متابعة شريط الرسائل على شاشات الفضائيات ومن خلال حديث الناس في مجالسهم وفي مداخلات كثيرٍ من المواطنين السوريين على كثير من البرامج المفتوحة ومن خلال مناشداتهم للعلماء والشيوخ بإصدار فتوى شرعية بالإذن بالقتال....إلخ . ولا أنكر هذا على الناس فالنظام يضغط عليهم ضغطاً يتجاوز حدود الطاقة ، ويدفع بهم دفعاً شديداً بهذا الاتجاه ، من خلال سياسة القمع التي لا مثيل لها والتي لا تتورع عن استخدام أي أسلوب أو وسيلة مهما كانت دنيئة حتى اغتصاب الرجال واغتصاب النساء أمام أزواجهم وأبنائهم ، بحسب شهادات جنود منشقين والتهجير الجماعي وحرق المحاصيل الزراعية وتسميم موارد المياه وإتلاف الزرع والضرع وهدم المساجد وإهانة المصحف الشريف.....إلخ .
ومع ذلك كله فإن ضبط النفس من قبل السوريين واحتمال هذه الضغوط بالغاً ما بلغت ودفع التكاليف الباهظة من دمائهم أمرٌ مطلوب ، إذا كان في النتيجة النهائية يفضي إلى تحقيق أهدافهم وإسقاط النظام ونيل الحريات .
نعم ، ما تزال الثورة السلمية خيارنا وطريقنا ، لأنها لا تترك فرصة للنظام ولا ذريعة لإبادة السكان على النحو الذي حدث في حماة أيام الثمانينات ، أضف إلى أن الثورة السلمية تكسبها التعاطف الشعبي وتأييد الرأي العام المحلي والعربي والعالمي لكن البعض يقول محقاً : لكن النظام يقوم بالإبادة فعلاً ، وما كنا نرجوه من مكاسب الثورة السلمية لا حقيقة له أو لم نلمسه حتى الآن ، وإذا كان " غاندي " استطاع أن يغلب الإنجليز بالمقاومة السلمية لكن نظام آل الأسد مختلف على ما يبدو!. أما التعاطف الدولي فهو ما يزال بطيئاً وشكلياً ولا يتجاوز حدود التنديد والاستنكار للدعاية فقط ، ولم ينزع حتى اللحظة الشرعية عن نظام بشار الأسد رغم أنه فقد رشده وقصف شعبه بالطيران والصواريخ .
أنا كاتب هذه السطور لا أملك بصراحة الإجابة المقنعة على التساؤلات التي سقتها ، وأنا نفسي لا أتصور إذا ما دخل الشبيحة عليَّ بيتي – عياذاً بالله - إلا أن أقاوم بكل ما أملك من قوة وما أجد من سلاح ، وهو دفاع أراه واجباً ومشروعاً في هذه الحدود ، والأمور تقدر بقدرها !. لكنَّ فتح معركة مسلحة أو ما يسمى عسكرة الثورة ليس مناسباً الآن ولا مجدياً أيضاً ومخاطره جسيمة وعواقبه وخيمة ، وأمضى سلاح في هذه المرحلة هو المواجهة السلمية ونبذ العنف إلا ما لا بدَّ منه ، وفي نطاق الدفاع عن النفس وحماية العرض ، لكن لا بد من تصعيد وتنويع أشكال وأساليب الثورة السلمية ضد النظام ، وتكثيف المظاهرات والاعتصامات والمهرجانات والإضرابات ، وللسوريين تجربة ناجحة في استخدام سلاح العصيان المدني أيام الاحتلال الفرنسي ، حيث بدأ الشعب إضراباً عاماً شاملاً عن جميع الأعمال التجارية والصناعية ، وسجل التاريخ الوطني للتجار دوراً وطنياً مشهوداً ، بدأ الإضراب من حلب وشمل المدن السورية وقراها ، واستمر ستين يوماً فاضطر المفوض السامي الفرنسي " دومارتيل " إلى عزل الحكومة الصنيعة والرضوخ لمطالب الوطنيين والتفاوض معهم ، وذلك في سنة 1936م .
معركة الشعب السوري مع النظام الأسدي ، لأسباب كثيرة وخاصة جداً ، ربما تكون طويلة وتكاليفها باهظة ، إلا أنها ستغسل رجس أكثر من أربعين عاماً ، ونتيجتها أكيدة لا ينبغي أن نرتاب فيها طرفة عين . والنظام سقط أخلاقياً وإعلامياً وسياسياً ، وبات لا يتمتع بأية شرعية ، أما سقوطه الفعلي فهو يتطلب مزيداً من الوقت والتضحيات ، لكن الحرية سلعة غالية غالية !.