خزانة هدايا المسؤولين
خزانة هدايا المسؤولين
م. باسل قس نصر الله
في عام 1974 ، قام وزير الخارجية الاميركي هنري كيسنجر بزيارة الى دمشق ترافقه فيها زوجته نانسي ، وأراد وزير الدفاع السوري آنذاك ، اللواء مصطفى طلاس أن يقدم للسيدة كيسنجر هدية ، وقد سبق لها أن رأت سوارا لدى الصائغ اسطفان في سوق الحميدية وأعجبها ، فقدمه اللواء طلاس لها، ولكنها اعتذرت عن قبوله ، لأن القانون الاميركي الصادر عام 1906 والذي يحرم على المسؤولين الأميركان قبول أي هدية تزيد قيمتها عن (50 دولار) .وقياسا على ذلك ، أصدر مجلس النواب السوري قرار عام 1953 ، بناء على اقتراح من نواب حزب البعث ، بأن الهدايا التي تقدم الى المسؤولين السوريين يجب أن تحفظ في خزانة في مجلس النواب ، نظرا لأنها قدمت لهم بصفتهم الرسمية لا بصفتهم الشخصية .
لن أشك مطلقا بأن خزانة هدايا المسؤولين في مجلس الشعب موجودة ، لا بل إنني ذهبت بعيدا ،فأنا أتصورها وقد أصبحت مبنى قائما بذاته ، أين منه مبنى الأرشيف القومي الأميركي ، وقد جال بي الخاطر أنها مقسمة الى أقسام رئيسية ، فقسم للألبسة مثل الأطقم الرجالية الفاخرة والأحذية وغيرها ، وقسم للقطع الذهبية ، قدمتها بملىء الخاطر زوجات المسؤولين ، وقسم آخر حديث نسبيا ، للسيارات الفارهة وغيرها . ولا أعرف اين تندرج عمليات تدريس اولاد المسؤولين ، وهل تعتبر من ضمن الهدايا الفنية أم الثقافية . علما بأنني تساءلت فيما لو تم تقديم الهدية على دفعات ، فمثلا الجاكيت لوحده (وقد يكون سعره اقل مما هو الحد المسموح) ، ثم البنطال لوحده ، او فردة حذاء يمنى لوحدها ، وبعد أيام الفردة اليسرى ، وهكذا ، لكي لا نتجاوز الحد المسموح لسعر الهدية التي يستطيع قبولها المسؤول حتى ولو كان من الدرجة العاشرة ، وقد تستغربون ، وتستهجنون ، لا بل أنني لن أزعل منكم إذا أتهمتموني بالجنون ، ولكن رويدا علي قليلا ، فمنذ زمن نذكره تماما ، صدر قرار بمنع بيع السيارات والتازل عنها الا بين الاقارب من الدرجة الاولى ، أتذكرون ماذا فعلنا ، لقد تزوج البعض لكي يبيع سيارته للزوجة ثم يطلقها .
أسأل نفسي أحيانا ، كيف تأخذ الرشوة، ( التي هي إحدى أوجه الفساد ) ، إسما جديدا هو هدية بسيطة ( ثمن فنجان قهوة ) ، لتنتقل هذه الهدية الى ( ما بيحرزو ، قيمتك أكبر ) . وكيف نريد أن نقنع أنفسنا ، بأن الهدايا مقبولة حتى ولو تجاوزت الملايين ، المهم أنها ليست مالا سائلا .
ومع ذلك ، أعتقد أن عدم الوضوح في القوانين، ناهيك عن القوانين المتضاربة، هي من أسباب الفساد، وسير المعاملات في الدوائر الحكومية - مع أن لوحات كبيرة - وبخط جميل توضح بأدق التفاصيل خطوات العمل الواجبة للأنتهاء من المعاملة ، كما أن بعض الجهات بدأت تضع مددا زمنية لكل مرحلة من خطوات العمل ، ولن أبالغ إذا قلت أنهم بدأوا بدقة الدقائق ، فإحدى المراحل مثلا خمسة عشر دقيقة ، وغيرها ثلاثون ، الخ ...
إن أناسا يُعينون لوظائف لا يستطيعون القيام بأعبائها ، أو لا يريدون القيام بشكل صحيح بالأعباء المنوط بهم القيام بها ، ولغايات متعددة تتدرج من حب الشعور أنهم يمارسون السلطة ، أو رغبة في الكثرة من الهدايا الواردة ، هؤلاء الناس الذين يتسلقون سلم المسؤوليات ، والذين قلما يُحاسبون ، والذين يصبح الفساد طريقة حياة عند بعضهم ، هؤلاء الناس الذين لا تكشف الاضواء تجاوزاتهم وانحرافاتهم ، وينقلون الى وسائل الاعلام تقدم خططهم الوهمية ، وتطور عملهم الأعرج ، واندحار الفقر والأمية والتخلف والمخالفات والمخلفات وغيرها . أولئك هم الذين يسهلون سبل الفساد ، تحت مسميات متعددة ، منها الهدايا .
كيف السبيل الى مجتمع تنخفض فيه عملية الفساد الى درجة بسيطة لا تتجاوز نسبتها النسب الموجودة في كل البقاع ، وكيف السبيل أن تنتفي الحاجة الى تجمع بيروقراطي من اجهزة الرقابة والتفتيش والتمحيص في النواحي المالية والمركزية والادارية ، واجهزة الرقابة المنبثقة عنها ، والمتفرعة منها ، وغيرها الكثير .
أعتقد أن الصحافة الحرة هي سبيل واضح ومحدد لكبح كل ما تم ذكره من تجاوزات وفساد ، وذلك بتوجيه اقلام الصحافة الى نقاط الخلل في مرافق الدولة ، اينما كان ودون خطوط ملونة بشتى الالوان ، آخذين بعين الاعتبار أن حرية الصحافة تحافظ على حق الرأي العام في اسقاط وتعرية كل من تسول له نفسه بالسير في طرق لم توصل البلاد الى التطور المرجو ، بل أوصلت بعض الأشخاص الى مرافق ادارية عليا ، وبعد سنوات أكتشفنا أن الكثير منهم فاسدين مرتشين ، وقد كانوا جالسين سعداء على كراس وثيرة ، نكتشف الفساد والرشوة من خلال نسب العمولات للصفقات أو المبالغ والأرصدة الموجودة في بقع عديدة من العالم ، إضافة الى المنازل والقصور التي بدأوا يطلون منها علينا اخيرا .
أقول أن الصحافة في لحظة الحدث او الموضوع ، هي سبيل مهم ، وخاصة اذا كان لها قوة التأثير الموجودة في دول عديدة من العالم ، فالرأي العام في الدولة الذي يتشكل من خلال معطيات الصحف ، عندما يظن ان مسؤوليه تنزلق اقدامهم في منحدر الفساد وعدم تحمل المسؤولية ، فإنه يجد في وقت قصير البديل الذي يحترم مصالحه ويحافظ عليها ويكون مسؤولا مسؤولية صريحة عن الاموال العامة .
وأقول الرأي العام وليس الجهات العامة .
اللهم اشهد اني بلغت.