الذين ماتوا همساً
باكثير وعبد الحليم والسحار
زغلول عبد الحليم
لقد نجح نجيب محفوظ في كتابة الرواية طبقاً للرؤية الغربية فحقق المتعة العالية وأهمل الرسالة التي يجب أن يحملها الأدب، كان على احمد باكثير يكتب من خلال عقيدتنا عن (الله – الكون – الحياة) فجمع بين المتعة والرسالة وأيضاً كتب عبد الحميد السحار رائعته محمد رسول الله والذين معه فجمع أيضاً بين المتعة والرسالة، انتبه إليهما اليسار وأعلن الحرب على أدبها وحاول الانتقاص من قدرتهما على الإبداع وأحكم عليهما الحصار بصفة شخصية وعلى أدبها أيضاً. أنها الكراهية الشديدة لكل ما هو إسلامي حتى ضاقت الدنيا على باكثير وقرر العودة إلى بلاده حضر موت إلا أن حبه لمصر أمسك به فزار بلاده وعاد إلى مصر ومات فيها 1969 مات مهموماً، قتله اليسار، رحل باكثير وترك الدنيا بما فيها ومن فيها. وقد نعاه الأستاذ عبد الحليم عبد الله في مجلة الهلال / يناير / 1970 ورحل بعده في 30/6/70 بعد أن سدد له اليسار ضربات متعددة هي هي الضربات التي وجهها الى باكثير من ذات اليد وبنفس القوة !! مأساة كاملة.
إن موت باكثير وعبد الحليم عبد الله إثر الضربات المتتالية جعل الأستاذ إبراهيم الورداني يتساءل في الجمهورية قائلاً:
- عبد الحليم عبد الله ومن القاتل !؟
يبد أن التاريخ الأسود للثقافة لم يجب حتى الآن على سؤال إبراهيم الورداني!!
فمن هو القاتل من قتل علي أحمد باكثير وعبد الحميد جودة السحار، ومحمد عبد الحليم عبد الله ؟؟؟
إنه التجاهل، فرض العزلة، الحكم على الأعمال الأدبية بالسماع، الإقصاء لمجرد الاختلاف في الرأي .. الخ من القضايا التي لا تزال تعمل في واقعنا بكل قوة ولا حول ولا قوة إلا بالله. لقد افسد اليسار كل حياتنا وانظر إلى ما قاله الأستاذ يوسف الشاروني وهو يعرض لرواية "للزمن بقية" لعبد الحليم عبد الله حيث قال: عن البطلة المتهتكة أسرار: "أنها تمثل عذرية الروح. لأن مفهوم العذرية كما نعرفه مفهوم قديم يصلح للمجتمع الزراعي أما الآن فهو قيمة من قيم المجتمع الصناعي الجديد" ذلك هو الأستاذ الناقد يوسف الشاروني ! وهو قول ردده الكاتب يوسف إدريس في معظم أعماله كما ردده الأستاذ نجيب محفوظ وكان يمثل ركيزة أساسية في البناء الروائي للمؤلف من أول رواياته حتى أخرها حتى يشعرك برفضه لمنظومة القيم التي تحكم المجتمع والتي بسقوطها يسقط المجتمع، ومن يقرأ رواية "الطريق" يدرك هذا الأمر جيداً وقد أنصف الناقد الكبير الدكتور حلمي القاعود نجيب محفوظ وقال بأنه كتب الرواية بالمفهوم الغربي وهو فعلاً ما حدث أن الأستاذ نجيب أجاد كتابة الرواية بالمفهوم الغربي ولذا كانت رواياته محل إعجاب الغرب بالإضافة إلى عوامل أخرى، فهو ينظر إلى الدين كعلاقة بين الإنسان وربه وهي نفس النظرة عند الغربيين !! وقد سيطرت تلكم النظرة على قطاع كبير من الناس على مختلف طبقاتها كنتيجة للغزو الثقافي للأمة الذي امتد طويلاً والأفكار الكنسية التي ملأت كتب معظم كـُـتاب الشام الذين استقروا في مصر واحتلوا بعض المناصب في الصحافة وفرضوا تصوراتهم على الواقع المشحون بالتخلف والعجز والتبعية وانتشرت المصطلحات الأربعة (الخطيئة والصلب والفداء والغفران) في أعمال معظم الكتاب، لقد شوهت تلك المفاهيم أعمال الأدباء الكبار وقللت من أهميتها في نظر بعض النقاد الذين التزموا التصور الإسلامي عن الله – الكون – الإنسان.
استطاع كُتاب الشام أن يفرضوا تصوراتهم على الحياة الأدبية في مصر، فعاشت البلاد الثقافات الوافدة وانتصر إلى حد بعيد الفكر الانشطاري الذي يفصل بين القيم المتكاملة وأصبح للمجتمع الزراعي قيماً لابد من نسيانها على أساس أنها لا تصلح للمجتمعات الصناعية المعاصرة !! واحتلت المفاهيم الغربية محل المفاهيم الإسلامية بل حاولت محاصرها والقضاء عليها في العقول والأفهام !!
ومن هنا جاءت قضية عزل أعمال الكتاب علي أحمد وباكثير وعبد الحميد جودة السحار ومحمد عبد الحليم عبد الله، بل وصل العزل إلى المحاربة في الرزق وكان تزوير كتبهم في بيروت وانخفاض دخلهم إضافة جديدة إلى همومهم الداخلية.
لم يترك التيار اليساري طريقاً يمكن أن يتحرك فيه باكثير أو عبد الحليم أو السحار إلا وأغلقه خاصة فيما يخص التناول النقدي لأعمالهم، فقد أطلقوا على أعمالهم أنها سلبية لا تعالج أمراض المجتمع وقضاياه، قدرية تحط من قدرة الإنسان على تحدي القدر !!
هذا هو رأي معظم النقاد الذين تناولوا أدب باكثير والسحار وعبد الحليم عبد الله !! هكذا بالنقل أو السماع كما بين ذلك بوضوح شديد الأستاذ الدكتور نوفل في رسالته للدكتوراه عن محمد عبد الحليم عبد الله عام 1973 وقد نشرت في كتاب بعنوان (محمد عبد الحليم عبد الله حياته وأدبه) وأذكر أن لجنة المناقشة حينذاك كانت برئاسة الدكتور عبد الحكيم بلبع وعضوية الدكتور عبد القادر القط والدكتور احمد هيكل. كانت مناقشة جادة حادة خاصة من جانب الدكتور عبد القادر القط وملاحظاته على سلبية الشخصيات في رواية (بعد الغروب) وارتفاع مستوى الحوار الذي جاء تفصيلاً في كتابه المشهور (في الأدب العربي المعاصر) ورد الأستاذ عبد الحليم عليه بمقاله أكثر حدة بعنوان (في مخالب القط) نشرت في مجلة الرسالة مع رد للدكتور القط حينذاك. وقبل إن يدير ظهره إلى اليسار ويخرج من دائرته. رحمهم الله جميعاً.
لم ينم محمد عبد الحليم عبد الله ملئ جفونه ! كما قال الأستاذ يوسف السباعي عنه. وكذلك عاش باكثير معزولاً إلا من زيارة الشاعر عبده بدوي، وعبد الحليم عبد الله الذي كان يسكن قريباً منه.
صارع باكثير اليسار بكل قوة ولكن استطاع اليسار أن يفرض عليه عزله وإصابته بالاكتئاب والرغبة في الرحيل إلى وطنه حضر موت وحاصر اليسار عبد الحليم عبد الله أيضاً ولكنه أي عبد الحليم استطاع أن يحتفظ بعلاقة طيبة مع رجاء النقاش ومع محمود أمين العالم ووطيدة مع يوسف الشاروني ! يوسف الشاروني الذي استطاع أن يفرض على عبد الحليم عبد الله رؤيته النقدية بأن أدبه يعالج الحياة الاجتماعية من خلال منطق إرسال خطاب لمن يهمه الأمر بعلم الوصول وينتهي دوره! إلا أن الرجل أدرك بعد فوات الأوان أن القضية أكبر من تصورات يوسف الشاروني النقدية وبدأ يكتب رواية (الباحث عن الحقيقة) بعد زيارة للكاتب الكبير خالد محمد خالد الذي جلس يستمع إليه طويلاً وهو يتحدث عن سيدنا سلمان الفارسي فكتب رائعته (الباحث عن الحقيقة) حوالي 1966 بعد وفاة والده، وقد اعتبر الشاروني أن قصة (الباحث عن الحقيقة) فقط رحلة سيدنا سلمان من الوثنية إلى الإسلام فقط لم يكتب عنها حرفاً واحداً ! حتى فطن عبد الحليم عبد الله إلى دور يوسف الشاروني الذي أوصاه بقراءة (نشيد الانشاد) فصل من فصول الكتاب المقدس لدى الكنيسة. الذي يأنف أي قارئ من قراءة كلمة واحدة منه ! سبحان الله . وكتب عبد الحليم عبد الله رواية أخيرة كاملة قبل وفاته هي (للزمن بقية) وأنا شخصياً اعتبرها الرواية التي أتم بها عبد الحليم عبد الله تناوله لقضية الأرض في الرواية العربية والتي بدأها برواية (بعد الغروب) ثم (الجنة العذراء) وأخيراً (للزمن بقية) انه الصراع الحقيقي والواقع الحقيقي لا المزور عن تاريخ الأرض في أدب عبد الحليم عبد الله، لم يكن صراعاً دموياً كما إرادة اليسار ولكنه الصراع القائم على الحق والذي رأيناه بدأ بالحلم في رواية "بعد الغروب" ثم كانت صراعات أسرية منخفضة الحدة حتى وصلت إلى نهاية المأساة بمحاولة قتل "طه النجومي" "لصلاح النجومي" بأي وسيلة: صراع بعيد عن المفاهيم اليسارية الدموية التي كانت قد أفسدت عقولنا بعد محاولات إزاحة المفاهيم العقدية من القلوب والنفوس.
إن واقعية الأستاذ عبد الحليم عبد الله هي الواقعية الحقيقية لا المزورة! إنه الصراع دون دماء أو هتك الأعراض كما عرضته روايات أخرى وصلت بالصراع إلى أحط مستويات الصراع.
قد يقول قائل إنه الصراع السلبي لأنه يخلو من القتل وسفك الدماء أقول : نعم يخلو من الدماء لأن الدماء ليست شرطاً لحدوث الصراع إلا في نظر اليسار! وهل تنسى الذاكرة قتل البلاشفة للملايين من المسلمين الروس بعد أن ساندوهم في ثورتهم الحمراء طلباً للاستقلال فبادلوهم الصدق بالخيانة!! البلاشفة وما أدراك ما البلاشفة!! وأود أن أوضح أن الانحراف ليس له علاقة بالواقعية الحقيقية أنه يمثل الواقعية المزورة أو المنحرفة وإلا اعتبرنا أن (زوبه) العالمة في أدب الأستاذ نجيب محفوظ هي واقع المرأة المصرية، لا ... أنها ليست المرأة المصرية إنها امرأة مصرية منحرفة داخل المجتمع فالمرأة والرجل كل له خصائصه الذاتية وله دوره في المجتمع ويسقط المجتمع بسقوط الخصائص المميزة لكل منهما فلا يمكن قبول تبادل الأدوار لأنها ببساطة شديدة مخالفة لأمر الله. إن تصوير لحظات الهبوط في الأعمال الفنية ينبغي أن تظل في دائرتها ولا تخرج منها لدائرة التمجيد فيتحول العمل الأدبي إلى قصة جنسية فاضحة كما أن تصوير لحظات التسامي في الأعمال الأدبية ينبغي أيضاً أن تكون في دائرتها وألا تخرج عنها حتى لا يتحول العمل الأدبي إلى موعظة!
وبين هذا بوضوح الدكتور عماد الدين خليل في كتابه الأشهر (فوضى العالم في المسرح الغربي) "كما أوضح الدكتور حلمي محمد القاعود في كتابه (الواقعية الإسلامية في روايات نجيب الكيلاني) الفرق بين الواقعية الأدبية والواقعية الإسلامية فذكر أن الأولى واقعية نقدية تعني بوصف التجربة كما هي حتى ولو كانت تدعو إلى تشاؤم عميق لا أمل فيه، في حين تحتم الواقعية الاشتراكية أن يثبت الكاتب في تصويره للشر دواعي الأمل في التخلص منه فتحاً لمنافذ التفاؤل حتى في أحلك المواقف، ولو أدي إلى تزييف الموقف بعض الشيء) ص 15 وعن الواقعية الإسلامية فيقول (فإنها ـ أي الواقعية الإسلامية ـ مع انتقادها للواقع ـ تنطلق في انتقادها من التصور الإسلامي الذي يكون دائماً منصفاً فلا يبالغ ولا يهول، أيضاً لا يتجاهل بسبب المغايرة في الانتماء ولا يحبذ الصراع بين الطبقات.. الخ) ص 15 أيضاً.
ويقول الدكتور القاعود أيضاً:
.. والواقعية الإسلامية ـ فيما اتصور ـ تحرص على الأسلوب وتعني به لأنه يمثل ـ بطريقة ما ـ عناية باللغة وارتقاء بها، وسمواً ببيانها وهو ما يعني في حقيقة الأمر الحرص على قيمة جمالية كبرى من قيم البيان العربي ولعل التفوق الأسلوبي لدى بعض المشاهير كان سبب شهرتهم في المجال الروائي .. ويبقى أن نشير إلى أن الواقعية الإسلامية تظل وفية للقضايا الإنسانية الكبرى التي تعني بالإنسان المسلم في حاضره ومستقبله وتترفع في الوقت ذاته عن القضايا المبتذلة والرخيصة التي تتسافل به أو تهبط به إلى درك الحيوانية حيث تبحث عن الإشباع الغريزي وحسب) ص 19.
وقد انتهى الدكتور حلمي القاعود إلى تأكيد ما قاله لي الدكتور عبد السلام العجيلي عام 1976 في رسالة طويلة عن ضرورة أن يكون للأدب رسالة تفيد المجتمع.
وبهذا المنطق أخرج الدكتور عماد الدين خليل كل الأعمال الأدبية لكتاب الغرب من كونها تحمل رسالة مفيدة للمجتمع وذكر أنها ممتعة جداً من الناحية الفنية وتفقد في ذات الوقت قيمها كرسالة تفيد المجتمع فهي في أغلب الأحوال تهبط به إلى مستوى لا يليق ومن هنا كانت الواقعية الإسلامية هي التي تحقق نقطة التوازن وهي التي تقدم الإنسان في صورته الحقيقية الثنائية أي قبضة الطين ونفخة الروح. وعليه أيضاً أخرج كثير من الأعمال لمشاهير كتابنا وهو فقدها للرسالة التي تفيد المجتمع. أدب يقوم فقط على ساق المتعة! أدب يمجد لحظات الهبوط ويمجد أيضاً لحظات التسامي. ليس هذا هو الأدب.
إن الواقعية الإسلامية لا تمجد لحظات الهبوط كما أنها لا تمجد لحظات التسامي أنها تذكرها فقط وهنا تكمن المشكلة الحقيقية بين كاتب يمجد لحظة الانحراف والهبوط وآخر يذكرها ويتجاوزها في عبقرية ويقول لك لا تجعل خيالك يجمح بك كما ويمكن الرجوع إلى رواية (شجرة اللبلاب) للأستاذ عبد الحليم عبد الله عام 1947.
لنرى الموقف الذي صوره الكاتب موقف لقاء الفتى والفتاة، فانظر كيف عالجه قبل أكثر من نصف قرن من الزمان! ولكن غالي شكري الذي أتاحت له الدولة ـ حينذاك ـ أن يعبث بمنظومة القيم العليا للمجتمع لا تعجبه هذه المعالجة لأنها سلبية!! إنه يريد التجربة على التفصيل! أن تفاصيل التجربة على تفصيلها ليس محلها الأدب! كما أنها لا تفيد بل على العكس تهدم قيم المجتمع.
وبوضح أكثر ذكر الدكتور حلمي القاعود في كتابه (النثر الفني) إن الأستاذ نجيب محفوظ كتب الرواية بالمفهوم الغربي كما قلنا قبل قليل أي أنه انطلق من مفاهيم لا علاقة لها بخصائصها الحضارية التي تشكل منظومة قيمنا العليا والتي بدونها تفقد الأمة روحها بل ودينها وهو الصحيح. إن تاريخ العوالم ليس هو تاريخ مصر كما أن تاريخ الفتوات لا يمثل تاريخ مصر. العوالم والفتوات نماذج بشرية تحيا داخل مجتمعها وهو بالتأكيد يرفضها في أغلب الأحوال لأنها تشكل انحرافاً لا يرضاه المجتمع ولكن أن يعرف المجتمع المصري بأنه مجتمع العوالم والفتوات فهذا ما لا تقبله العقول الواعية والضمائر الحية.
لقد أهتم الأستاذ نجيب محفوظ بالأسئلة الغامضة فجاءت إجاباته عليها أشد غموضاً كنتيجة طبيعية لدراسته الجامعية. وقد تأثر بمناهجها خاصة الغربية الشديدة التعقيد كما تأثر بالدجل الذي قدمه وقتذاك الأستاذ سلامه موسى في كتابه (هؤلاء علموني) لقد تأثر الأستاذ نجيب محفوظ بالفلسفة وكتاب الغرب تأثراً شديداً رأيناه في طرحه للتساؤلات على لسان أبطاله. ولقد حسم الدكتور حلمي القاعود القضية وقال مالا يجرؤ ناقد أن يتناوله.