حكاية ضَيْعَة
مجاهد مأمون ديرانية
أعلم أنكم في شغل عن قراءة حكاياتي، لكنّ رغبةً استبدَّتْ بي لحكايتها اليوم لم أجد لها دافعاً، فاسمعوها مني فإنها لن تستغرق من الوقت الكثير.
سأحكي لكم حكاية ضيعة وُلدَت في هذه الدنيا قبل أن أولد أنا بعشر سنين، ضيعة اسمها... لا، دعونا نبدأ الحكاية من أولها. ولا بد أنكم ستسألون: وهل تولد ضيعةٌ من العدم؟ لا يحصل هذا بالتأكيد، بل إن لهذه الضيعة أصلاً في التاريخ يعرفه العارفون، فقد كانت جزءاً من إقليم كبير ساحر عامر بالخيرات والبركات، ثم عَدَتْ عليه -ذات ليلة- عصاباتٌ من قُطّاع الطرق فاستَلَبَتْه من أهله بقوّة المدفع والبارود، ولم يكفِها ما فعلت حتى راحت تَخُطّ على الأرض خُطوطاً ثم تبني فوقها أسْيِجَة تفصل القطعةَ منها عن القطع الأخريات، فصار الإقليم الواحد -منذ تلك اللحظة- ضِيَعاً متناثرات.
ثم هَبَّ أهل ضيعتنا أولَ ما هَبَّ أهلُ ضعة قَطّ، فقاتلوا قاطع الطريق وأجْلَوه عن ضيعتهم، ثم اختاروا من بينهم مختاراً يدير ضيعتهم على المنهج الذي يرتضون. فلما رأى جيرانهم من أهل الضِّيَع ما صنعوا هَبّوا على إثْرهم واقتَدَوا بفعلهم، فأجلى أهلُ كل ضيعة عن ضيعتهم قاطعَ الطريق، وصار لكل ضيعة مختارٌ كما صار لضيعتنا مختار.
ثم إن أهل ضيعتنا ومختارَها اختاروا من بينهم نواطيرَ يحرسون مداخل الضيعة من جنوب وشمال وشرق وغرب، على راتب يصرفونه لكل واحد منهم في آخر كل شهر كما هو شأن النواطير في كل الضيع، وعلى أن يكون اختيارهم وتعيينهم وفصلهم بأمر من المختار ورضا من أهل الضيعة. وجرى الأمر على ذلك المنهج بضع سنين، إلى أن جاء يوم مشؤوم.
الجزء السابق من الحكاية لم أشهده ولكني رويته لكم بالسماع، أما الفصول التالية منها فإنّي عشتها وأرويها رواية الشاهد. في ذلك اليوم المشؤوم بيّتَ ناطورٌ من نواطير الضَّيعة الغدرَ بمختارها وأهلها وهم نائمون، فاتفق مع أصحاب له تنطوي قلوبهم على مثل الخبث والغدر اللذَين ينطوي عليهما قلبُه، فوثبوا على بقية النواطير وهم غافلون وأخذوا مواضعهم من الضيعة، ثم أوثقوا المختار وعزلوه، وقال الناطور الغادر: أنا مختاركم منذ اليوم وأصحابي هم النواطير.
وحَسِبَ أهل الضيعة أنه إنما استُبدل مختارٌ بمختار، وكانوا للأول محبّين وعنه راضين، لكنهم لم يقدروا على الاعتراض لمّا رأوا النواطير الجدد يحفّون بالناطور القديم -وقد نادوا به مختاراً على الضيعة- وفي عيونهم نُذُر الشر وفي أيديهم نافثات الشّرَر، فسكتوا وأذعنوا ورجَوا أن تأتيهم الأيام بما يرضيهم. لكن الناطور القديم لم يفعل ما فعله من غدر ومكر ليفوز بالمَخْترة على صورتها الأولى، بل كانت له أطماعه التي أجّل إعلانها حتى يطمئن إلى سكوت أهل الضيعة، فلما رآهم ساكتين (وإنما هو سكوت المضطرين المُستضعَفين) كشف خطته وأظهر سوء نيته، فأغلق بوابات الضيعة ووضع عليها نواطير يمنعون أحداً من الدخول إليها والخروج منها إلا بإذنه، ثم ظهر للناس من الغد فقال: لقد امتلكت هذه الضيعة بما فيها فهي لي منذ اللحظة، واسترققتكم وذراريكم فأنتم مماليكي منذ اليوم!
ولأنه عاش في الضيعة زماناً قبل أن يفعل فعلته التي فعل، فقد كان أخبرَ بأهل الضيعة من غيره ويعرف أنهم لا يسكتون على ضيم، فاستبق الغضب الآتي بأن جمع أخبث أهل الضيعة وأجرأهم على الإجرام (ولكل ضيعة في الدنيا حظها من مجرميها) فصنّفهم في عصابات سمّاها "أجهزة أمن" (يريد أمنه وأمن أسرته)، وعلّمهم من فنون القتل والإجرام ما لا يكاد إبليس نفسه يعرف نصفه ولا ربعه، ثم أطلقهم في أهل الضيعة كما يطلق الصيّادُ كلابَه في الطرائد، فعاثوا في الضيعة فساداً وساموا أهلَها خطة الذل والهوان، وصار أهل الضيعة يصبحون كل صباح فيفتقدون واحداً منهم، فيعلمون أنه صِيدَ بليل، ثم لا يجرؤ أن يسأل عنه أحد، لأنهم كانوا -لمّا بدأت المحنة- سأل بعضُهم عن بعض، فلحق السائلُ بالمسؤول عنه واختفَوا أجمعين! فعندئذ تعلّموا أن لا يسأل أحدٌ عن أحد، ومنذئذ اعتادوا أن يموتوا صامتين.
فلما انقضت عشرُ سنوات عِجاف واشتدّ الضيق برهط من أهل الضيعة قاموا ذات يوم يطلبون شيئاً من أصل حقهم الذي أكله المختار، فأطلق عليهم كلابه ومجرميه فنهشوا منهم مَن نهشوا وقتلوا مَن قتلوا، وغاب وراء الشمس رهط من الأخيار، ودُمِّر جزء من الضيعة وأُبيد ساكنوه، وسكت الناس، وامتدت المحنة دهراً آخر طويلاً لم يَبْدُ له من آخِر!
لقد سرق الناطور الخائن الضيعةَ واستَرَقَّ أهلها ثلاثين سنة، فلما مات ورث ابنُه الضيعةَ وأهلها كما يرث الحيُّ ملابسَ الميت وحذاءه! ذهب ناطور خائن كبير وجاء ناطور خائن صغير، فمضى على سيرة أبيه وأطلق لعصاباته اليدَ توغل في دماء أهل الضيعة وأموالهم كما صنع أبوه من قبل. واستمرّ على ذلك عشرَ سنين، يجوس هو وعصاباته في الضيعة آمنين غافلين عن كأس الصبر التي ما زالت تمتلئ عاماً بعد عام، فما بلغت السنةُ العاشرة آخرَها بقي في الكأس مقدارُ قطرة، حتى إذا دخلت السنة الحادية عشرة قَطَرت في الكأس قطرة الختام، وحين قطرت التي بعدها فاضت كأس الصبر!
في تلك اللحظة هَبَّ أهلُ الضيعة هبّةَ رجل واحد وقالوا للمختار الجديد: ارحل!
كانت تلك هي المرة الأولى التي تجتمع فيها هذه الحروف الأربعة في حلق رجل من أهل الضيعة ثم يلفظها في كلمة واحدة وبصوت مسموع! ولأنها سَبَحت في سماء الضيعة للمرة الأولى بعد غياب أربعين سنة فقد احتاج المختار إلى بعض الوقت ليفكّ رموزها ويفهم معناها، حتى إذا فعل وأفاق من دهشته قال لهم: لا أرحل حتى ترحلوا كلكم عن هذه الدنيا... ثم أطلق عليهم كلابه ومجرميه وقال لهم: اقتلوا منهم من تقتلون وعذِّبوا من تعذبون، فإني خيرتهم بين اثنتين: أبقى ويعيشون أو أرحل ويموتون!
لعل الفضول -في هذه النقطة تحديداً- يدفعكم إلى السؤال عمّا صنعه مخاتير الضِيَع المحيطة بضيعتنا؟ حسناً، سأخبركم: فأما مختار الضيعة الفَوْقا فاقترح أن يُمنَح مختارُ الضيعة عشرَ سنين أُخَر لعله يُصلح ما أفسده هو وأبوه في السنين الماضية الأربعين، وأما سائر المخاتير فصنعوا أفضل ما يمكنهم أن يصنعوه، لم يصنعوا أي شيء، وقالوا أفضل ما يمكنهم أن يقولوه، لم يقولوا أي شيء!
والآن ستسألون: ما اسم هذه الضيعة؟ وماذا حصل في آخر الحكاية؟
في حكايتنا هذه تحديداً اسمُ الضيعة هو "سوريا"، ولكن الحكاية تصلح لأن تُروى عن ضِيَع كثيرة، وسوف تتفق كلها في التفاصيل وتختلف الواحدة عن الأخرى في اسم المختار. ولكن متى كان اسم المختار هو الأهم؟ ألم تعلموا -مما قرأتم في دروس التاريخ- أن الضِّيَع تبقى، وأن المخاتير يأتون ويذهبون؟
أما نهاية حكايتنا فلن تختلف عن نهاية كل حكاية مشابهة: أطلق المختارُ الخائن الصغير ابنُ المختار الخائن الكبير كلابَه ومجرميه على أهل الضيعة، فروّعوها زماناً وفتكوا برهط من خيار أهلها، لكن الناس كانوا قد عزموا أمرهم ووطنوا أنفسهم على أسوأ ما يمكن أن يكون، فثَبَتوا بعزيمة أذهلت الدنيا، وقالوا للمختار: "لقد سرق أبوك الضيعة واسترقّ آباءنا واستذلهم فعاشوا صاغرين، وسكتوا، ثم وُلدنا نحن في الرِّق وعشنا صاغرين، وسكتنا حيناً، حتى إذا تحرك أولادُنا في أرحام نسائنا وأوشكوا أن يولدوا قررنا أن لا تنتقل العبودية من الأجداد إلى الأولاد إلى الأحفاد، وأقسمنا أنهم لا يولدون إلا ونحن أحرار"...
وتسألون عن خاتمة الحكاية؟ لقد أوفَوا بالقَسَم، فلم يولَد لهم ولدٌ إلا وهم أحرار.