وللوطنية والقومية -أيضاً- معايير
محاولة بحث في مفاهيم سياسية، ثقافيا
محمد قاسم "ابن الجزيرة "
بداية، لابد من التذكير بما للمسائل الاجتماعية – ومنها السياسية طبعا- من قابلية للاختلاف حولها .
فالناس،و باعتبارهم كائنات اجتماعية ، ومدنية وسياسية – بحسب تعبير أرسطو – تعيش في بيئات مختلة... ( سهلية- جبلية صحراوية – ساحلية ..الخ ) ومستويات ثقافية ( أو حضارية) مختلفة ومتداخلة: ( بداوة – ريف – مدينية ) و ( أمية أو متعلمة أو عالمة ...الخ ). وغير ذلك مما لم نشر إليها اختصارا..
فالناس-إذا- وبسبب هذه الأمور جميعا . يختلفون في التفكير, وفي نمط العيش , وفي نوعية القيم التي يعتنقونها او يؤمنون بها...وبالتالي نمط السلوك الذي يمارسونه.
إلا أن ذلك كله لا يمنع من القول بان عناصر مشتركة، -أو إذا شئنا الدقة أكثر- "معاني مشتركة" يعيشها الناس في وجداناتهم ، وفي صيغ عقلية عامة أيضا-مفاهيم- ..و في بعض الحالات الاجتماعية أيضا..
سنحاول الانطلاق من هذه ( المعاني المشتركة) لنتحرى عبرها - بنوع من البحث والاستقصاء السريع- مفاهيم تعد أساسية هنا، لعلها تصبح أكثر وضوحا في الذهن والفهم. مع التنبه إلى أن الوعي – المعرفة المتمَثلة في الذهنية والسيكولوجية- وحده لا يكفي لتكوين المواقف الصحيحة، بل لا بد من أساس تربوي –أخلاقي- لذلك.
نختار مفاهيم :
(الوطنية والقومية والأمة) أساسا ... ومن ثم بعض ما يتصل بها سريعا؛ و في حدود علاقتها بها...
من المعاني المشتركة على سبيل المثال لا الحصر: معاني ( الكرامة الإنسانية - الخير – الشر- الوطنية - القومية.. "الأنا" الشخصية -أو الذات الفردية الأنانية -الغيرية... الخ .
تسمى جميعا،مفاهيم في المنطق، فهي بكونها مشتركة تعني أنها عامة.
و المصطلحان الأخيران(الوطنية – القومية) تبلورا أكثر في القرنين الأخيرين .. (عصر القوميات الأول) في أوروبا في القرن التاسع عشر الميلادي و(عصر القوميات الثاني) في العالم الثالث- والشرق الأوسط خاصة- في مطلع القرن العشرين الميلادي.
وإذا عدنا إلى علم السياسة .. نجد محاولات لتأطير هذين المصطلحين، بتعريفهما كالتالي :
أولاً- (( الوطنية هي: حب المرء لبلده الذي يستلزم الاستعداد للدفاع عنه وتفضيله (....).
والوطنية: شعور أكثر منها فكرة سياسية، ولكنها يمكن أن تدفع إلى العمل بصور مختلفة ، بصور أخص في زمن الحرب (.....). ويمكن للوطنية أن تستخدم في سياسات خاصة أسماء الأحزاب ،كما حدث في انجلترا في القرن الثامن عشر حين وصل الأمر بكلمة((وطني )) إلى الدلالة على أيدلوجية قومية، ولكن ما مثل هذه الترابطات غير قابلة للدوام كثيرا)).
(من قاموس الفكر السياسي تأليف مجموعة من المختصين
ترجمة : د.أنطون حمصي .منشورات وزارة الثقافة السورية)
ثانياً:
1- (( القومية هي حب الأمة والاعتزاز بها .
الوطنية هي: حب الأرض التي تسكنها الأمة وتقوم عليها الدولة. غير أن الارتباط بين مفهوم القومية والوطنية ليس واحدا دائما ))
2- ((الأمة جماعة ثابتة من الناس تكونت تاريخيا، وتقوم وحدتها على أساس من وحدة اللغة والتاريخ والثقافة والأرض والمصالح المادية والمشيئة المشتركة. ويلعب الدين –أحيانا- دورا هاما في بناء الأمم، كما كان عليه الأمر في الماضي؛ حين كانت الرابطة الدينية تمثل أقوى الروابط الاجتماعية)).
3- ((القومية هي :الأمة حين تدرك ذاتها، وتعي حقيقتها، وتتحفز للدفاع عن وجودها ضد ما يتهددها من أخطار، وما يقوم في وجهها من تحديات، وما يعترض سبيلها من عوائق)).
(من كتاب علم الاجتماع العربي (السياسة ) ثالث ثانوي11983/1984-
تأليف أحمد القادري –فوزي كيالي –يسار عسكري).
4- ((القومية: أيدلوجية بقدر ما تعرف الأيديولوجية بأنها نموذج من الفكر حول العالم، له متضمناته في السياسة "[i] ". وهي تركز على أهمية الأمم، في تطور التاريخ، والحياة السياسية، بمناداتها بأن الطابع القومي عامل أساسي في التفريق بين الكائنات البشرية، والقومية مدفوعة إلى الحد الأقصى.
تتضمن أن الأفراد يحسون بأنفسهم أعضاء امة واحدة قبل أن يكونوا أعضاء أية مجموعة أضيق وبأنهم مستعدون لبذل التضحيات اللازمة للدفاع عن مصالح أمتهم)).
(القاموس السياسي د. أنطون حمصي.منشورات وزارة الثقافة السورية).
وإنما أوردت ذلك، كمحاولة لإيجاد إطار لفهم مشترك حول هذين المفهومين..ذلك لأن الحوار كثيرا ما يتحول إلى جدال غير مثمر، إذا لم يوجد مثل هذا الإطار للفهم المشترك.
وقد أدرك الفلاسفة والعلماء هذا الأمر – ومنذ القديم-. ولعل فولتير يلخص ذلك بقوله الذي كان يبدأ حواراته به : ((حدد ألفاظك)).فضلا عن إنشاء أرسطو المنطق الصوري-أو اكتشاف مبادئه...ومن ثم المنطق التطبيقي على يد مجموعة فلاسفة تبلورت فيه مراحل العلم التجريبي..في تفاعل و تكامل بين العقل والواقع.
وتبرز مشكلة أخرى هي: هل كل أطراف الحوار يتمتعون بخاصية ضبط الأفكار (تحديد الألفاظ المعبرة عنها بدقة-توضيح دلالتها )..؟
وفي بعض الحالات ..هل يرغب أطراف الحوار حقا في ضبط الأفكار؟!
خاصة في قضايا الحياة السياسية والاجتماعية..!
بهذه المناسبة، لعل تعريف مفهوم السياسة يكون مفيدا، ومستكملا لما بدأناه، وسنستعين بـ"القاموس السياسي" مرة أخرى:
(( يمكن تعريف السياسة بإيجاز على أنها، السيرورة التي تتوصل بها جماعة من الناس المتبايني الآراء، والمصالح أوليا، إلى قرارات، وخيارات جماعية، تفرض على الجماعة، وترمز إلى سياسة مشتركة)).
((السياسة تتضمن، تفترض مسبقا، تنوع الآراء بصدد وسائل بلوغ الأهداف على الأقل، إن لم يكن بصدد الأهداف نفسها ، فهي تقتضي المناقشة. فعندما يكون الناس متفقين تلقائيا على صيغ فعل ما، أو إذا كانوا- وهذا أفضل أيضا- يستطيعون التوصل إلى الإجماع من خلال سيرورات مناقشة غير مطبوعة بالإكراه ، فإنهم لا يحتاجون إلى السياسة أبدا.
ويمكن لجماعات الأصدقاء أو لجماعة علماء أن تقترب من هذا المثل الأعلى للإجماع اللاسياسي .
فالسياسة ضرورية عندما لا يستخلص مثل هذا الإجماع، وتحتاج الجماعة إلى أن تتصرف جماعيا.
ولكن ما تستبعده السياسة هو حل المنازعات بالقوة.
فالإنسان إذا يصوّب بندقيته إلى رفاقه لإكراههم على إتباع رأيه غير منخرط في علاقة سياسية معهم)).
أما إذا حاولنا أن نستزيد من معاني السياسة فلنلجأ إلى مصدر آخر وليكن مثلا: كتاب "علم الاجتماع العربي(السياسة) والمقرر لطلبة الثالث الثانوي في المدارس السورية عام 1983/1984 " نجد ما يلي:
(( السياسة هي فن حكم المجتمعات)) أو (( علم حكم الدول.موضوعها الإنسان والمجتمعات الإنسانية في أنظمتها المختلفة، وعلاقتها الداخلية والخارجية، وقوانين حركتها من حضارة إلى حضارة، أو من مرحلة إلى مرحلة.
((السياسة هي هذه الوظيفة القيادية في المجتمع التي تربط بين مختلف وظائف، وتنسق بينها، وتساعد على تطويرها من شكلها المادي إلى شكلها العقلي)).
بتحليلنا للمفاهيم السابقة (التعريفات) سريعا، يمكننا إعادة ترتيب الأفكار كالتالي:
- المفاهيم الأساسية هي:القومية-الوطنية- الأمة- السياسة. وهي كما سنراها متداخلة ومتكاملة.
- الـ(القومية) هي"حب الأمة...والاعتزاز بها".
- الـ(الوطنية) هي "حب الأرض"...التي تسكنها الأمة.
- الـ(أمة) هي "جماعة ثابتة من الناس تكونت تاريخيا.
وهكذا فهي مفاهيم تتعانق في علاقة جدلية...يؤثر كل منها على الأخرى.
ولكن لابد من أن نتساءل:
هل هذا التحديد يكفي لتحديد وتوضيح معاني مفاهيم اجتماعية هي -بطبيعتها إشكالية؟!
وتأتي إشكاليتها من حالة التداخل الحاصل فيما بينها كمعاني – أو مفاهيم-، ومن طبيعة ومراحل نموّها، وتطورها خلال الزمن؛ كنتيجة طبيعية لنمو الإنسان، وتطوره فردا ونوعا..!
الإنسان، هذا الكائن الذي اختص -خلافا لغيره من الكائنات الأخرى- بقوة مميزة (واعية) هي العقل (والتفكير) الذي يزداد بالتجربة..
"العقل عقلان=فمطبوع ومسموع" المطبوع مشترك بشري عام،والمسموع ما يزداد بالتجربة.
هذه الميزة التي وفرت له – في آن واحد- خاصتين:
· الأولى: أنه فرد مستقل بخواص تميزه عن أمثاله من البشر في مجموعة صفات تجعله متميزا(شعور خاص به"ذاتيته الخاصة" أو ما يمكن تسميته بالـ(أنا) الدالة على تميزه ووحدانيته، وتفرده، باختصار : شخصيته.
· الثانية: أنه – على الرغم من فرديته هذه- ذا بعد اجتماعي (ربما كان هذا البعد الاجتماعي هو ذاته مصدر خصوصيته بمعنى ما) أو ربما العكس-(وفق المدرسة الاجتماعية الفرنسية التي يتزعمها "دور كهايم").
المهم لنأخذ ما هو محل اتفاق، ونؤجل ما اختلف فيه.
ما هو متفق عليه هو أن الإنسان له بُعدين في الوقت نفسه (بعد فردي من جهة، وبعد اجتماعي من جهة أخرى).
وهذا الجانب هو ما يهمنا،فكونه ذا بعدين(البعد الفردي و البعد الاجتماعي) في تكوين شخصيته، فإن ذلك منشأ تكوين الجماعة، ولأن خاصة التوالد(التكاثر) وعامل الوراثة..إضافة إلى مدى استجابة البيئة بتوفير معطيات المعيشة والحياة عموما..هي مصدر التكتل البشري، مصدر تكوين الجماعة الثابتة والتي تجعلها ضمن سيرورة تاريخية،في عيشها على أرض واحدة،يفترض العيش عليها تعاونا وتكاملا، ومن ثم تآلفا ورغبة في الاستمرار في العيش معا، تتكون خلال ذلك حالة ثقافية مشتركة (لغة تفاهم، عادات وتقاليد تذوب فيها الفوارق الشاذة شديدة التباين كما هو حاصل في عادات الأفراح والأتراح وأساليب الحياة المختلفة .. وأنماط المعيشة..ومختلف أنشطة الإنسان ضمن المجتمع..!
وهنا تكون ما يسميه هيجل"روح الأمة" وهي:
قوة الشعور بالانتماء بعمق إلى إطار ثقافي في تجليات مفاهيمية مثل: وطن او وطنية،- قوم او قومية- امة...الخ.
وإدارة سياسية للوظائف القيادية العليا في المجتمع في تشارك وتناسق... فتكتمل أركان الدولة التي تتجاوز الخصوصيات الى الإطار الأوسع الضامن لحياة الجميع في عملية تعاقدية وفقا لآخر النظريات الاجتماعية/السياسية التي لا تزال مهيمنة على ثقافة البشر السياسية، والممارسة واقعيا على الأرض.
ومن مفرزاتها، الديمقراطية والحرية...اللتان تضمنان الاختيارات ومنها حق تقرير المصير في نمط العيش وهيكل الدولة.... والتي هي حق طبيعي للناس في مختلف مظاهر وجودهم الاجتماعي/ السياسي.
-واضح هنا اتجاه أيديولوجي في تعريف القومية لصالح نظريات تدرجت إلى الانفلاق القومي والتعصب كما في حالة البعث مثلا.