المسيحيون في الشرق
هل هم المشكلة أو الغطاء لمشكلة الأنظمة الفاسدة؟!
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
تمتلئ الصحافة العربية بكل إشكالها بعشرات المقالات الجريئة الرافضة لهذا للأسلوب الهمجي في التعامل مع الأقليات المسيحية العربية وغير العربية ، ومع الأقليات الإثنية او الدينية الأخرى. وللأسف رغم ثورة التغيير في مصر ، والروح الثورية التي انتشرت في العالم العربي ، يتواصل التعامل مع المسيحيين العرب كجسم غريب ، وتتواصل الاعتداءات التي لا تصد بما تستحقه من حزم ، وما زال الخوف يسيطر على الطوائف العربية المسيحية رغم الأصوات العقلانية، ولكن الصوت لا يملك اسنانا قادرة على الفعل الدفاعي، وهنا لابد من دور فعال وحازم للنظام .
الموضوع ليس جديداً، والاضطهاد الذي يعاني منه مسيحيو الشرق، لا يقع بعيداً عن الواقع الأسود للعالم العربي الذي يدفع ثمنه الجميع، مسلمون ومسيحيون.
ولكن حان الوقت لتحرك جديد، ولعدم الاستهتار بما تفرزه العقول المريضة، تحت غطاء كاذب من الدين والتدين.
اللوحة التي تفرض نفسها اليوم شديدة الكآبة، وتثير غضب الأوساط المتنورة جميعها، بدون علاقة للانتماء الديني او الاثني.
لا شك ان للهوية الدينية مكانها في تشكيل الوعي الوطني والثقافي والأخلاقي، اذا ما أُحسن استعمالها. ولكن الظاهرة السائدة في عالمنا العربي في العقود الأخيرة هي ظاهرة مقيتة جداً، ومأساوية للجميع، وبعيدة عن المنطق السليم، تجعل من الدين رافعة لشق المجتمع العربي وتفريق صفوفه.
هناك آلاف الفتاوى التي تحرض على المسيحيين وتدعو لمعاداتهم وعدم المشاركة بأعيادهم ونبذهم ومما هبّ ودبّ من أوصاف سوقية تنطلق من رؤوس مريضة وعقليات متخلفة بدائية.
وهناك آلاف الخطب الدينية شكلاً والعنصرية مضموناً، يضجّ فيها الفضاء العربي دون رقيب، ودون ان تشعل الأضوية الحمراء لما يريد للمجتمعات العربية ان تقبر مستقبلها فيه.
وآلاف الشعارات المقيتة التي لا تعبر إلا عن عقول موبوءة ومصابة بالشلل الفكري والانغلاق، الذي هو أخطر على الإنسان والمجتمع من أكثر الأمراض فتكا..
المسيحيون العرب بما فيهم أبناء العراق من المسيحيين (العرب أو غير العرب) أفرزت لهم خانة وكأنهم عنصر دخيل على الفسيفساء الاجتماعية للمجتمعات العربية متناسين أنهم كانوا من المحركات الأساسية لتطور الحضارة العربية الإسلامية، وما زالوا يشكلون العناصر الأكثر التزاماً بالفكر الوطني والتقدم الاقتصادي وإحلال الديمقراطية بدل الاستبداد.
مواد التعليم مليئة بنصوص تعمق ظاهرة العداء والرفض للمختلفين دينيا، بل والتحريض على كل من يدعي انه وطني عربي، لان الوطنية، حسب الفكر الموبوء المريض هي "ظاهرة صليبية"، او انحراف معاد للاسلام، كما يدعي صغار العقل، متجاهلين ان الاسلام كان يعني انطلاقة للقومية العربية أيضا.اي تحضر جيلا جديدا لمواصلة السلوكيات المريضة المدمرة ليس للمسيحيين فقط ، بل للمجتمع العربي بكل طوائفه وبكل أقلياته الدينية والاثنية.
العديد من المفكرين العرب طرحوا هذا الموضوع بكل خطورته، ولكن الانظمة التي لا يعنيها الا أمنها وتوريث النظام لا تتحرك، ما دام الشعب ينشغل بالصراع الديني، ويبعد عنها الغضب الشعبي من غياب الديمقراطية، ونهب ثروات البلاد بيد العصابات الحاكمة، وانتشار الأمية والفقر بمقاييس مرعبة. وربما ترعى مؤسسات هذه الدول توجيه انفجار الغضب في وجه الاقليات الدينية او الاثنية في مجتمعاتها، ونعرف من التاريخ نماذج كثيرة لمثل هذه الممارسات، مما يساهم في ضمان استمرار سلطانها الفاسد وحمايته من غضب الشعب. المسيحيون الأقباط محكومون حتى اليوم حسب قانون عثماني مضت عليه قرون طويلة، لدرجة ان أي عملية إصلاح بسيطة في كنيسة كانت تحتاج الى مصادقة من المحافظ او من رئيس الجمهورية. ان استمرار ربط هذا المجال الحيوي للأقباط في مصر وغيرهم من الأقليات الدينية، مثل البهائيين وغيرهم من الأقليات، بقرارات رئاسة الجمهورية، هو امر مرفوض بسبب الرائحة التمييزية العفنة التي تنضح منه وفي جذورها انكم غرباء وتشكلون ظاهرة غريبة في المجتمع المصري، او المجتمع العربي عامة.... وان الدولة لا تتعامل معهم كمواطنين متساوي الحقوق. وآمل ان الثورة المصرية تملك العقل الواعي لقبر تلك الظاهرة المسيئة والمعيقة لتحرر المجتمع المصري نفسه من الماضي الفاسد.
الأمن في مصر لم يكن يخص المواطن المصري، وعلى هذا المقياس يمكن فهم ان الواقع الاجتماعي المتدهور لأبناء مصر ايضا، لم يكن يخص النظام الساقط، والنظام لا يبالي بالصراع المصري مصري، ولا اقول المصري- القبطي لاني لا أرى تبريراً أخلاقياً او سياسياً او اجتماعياً او اقتصادياً او دينياً لصراع مصري إسلامي مع أقباط مصر المسيحيين.
في وطننا( فلسطين 48) شهدنا ايضا ظواهر مقلقة جداً والمأساة حين نكون أقلية قومية تجزء نفسها لأقليات دينية بغباء كامل عن فهم ان هذه التجزئة تحرمنا جميعا ولا تخدم الا سياسة التنكر لحقوقنا، واستمرار التمييز ضدنا، ومعاملتنا كسكان غير مرغوب فيهم، بل وتخدم سياسة تقسيمنا الى طوائف التي تمارسها السلطة العنصرية باصرار، رافضة اعتبارنا أقلية قومية لها حقوق قومية وليس حقوق شخصية فقط ، مثل الزواج والطلاق، هذا نقوم به بدون دولة وقوانين أيضا!!.
صحيح ان مستوى وعينا تعالى فوق الظواهر الطائفية المعادية لكل فكر ديني انساني، ونجح بحصر الظاهرة واطفاء الحرائق التي ولدتها.
ورغم ذلك، ما زلنا نسمع ونشاهد ما يثير قلقنا وامتعاضنا.
عندما نعبر في الشارع الرئيسي في الناصرة، ونقرأ: "الله مولانا ولا مولى لهم"، يرتفع السؤال: من يخدم هذا الشعار؟ وعندما تزور شخصيه مسيحية عالمية، مثل بابا الفاتيكان البلاد المقدسة، ساحباً وراءه ملايين السياح المسيحيين، مما يعتبر تنشيط للحياة الاقتصادية في الناصرة العربية خاصة،التي انتشرت فيها الفنادق والمحلات التجارية التي تتخصص بالسياح، ونشطت حركة المطاعم وتطورت شركات النقل وتوفرت الاف الوظائف الجديدة . نجد ان عناصر مريضة، توزع مناشير وتلقى خطب مليئة بالتحريض، من أسوأ الأنواع وأكثرها دموية، يرتفع سؤال: من يخدم هذا الإنفلات ( لا اريد وصفه بالديني لأن الدين منه براء)؟
بالطبع هناك ظواهر اكثر خطورة، ان لم تسارع كل القوى العقلانية، من أحزاب وجمعيات وتنظيمات الى احتوائها، ستقودنا الى انفجار ليس ضد المغتصب لحقوقنا، انما ضد بعضنا البعض.
انا على قناعه كاملة، ان تنامي وتعمق الظاهرة الطائفية في العالم العربي هي جانب صغير من مشكلة مرضية كبرى، مشكلة النمو الاجتماعي والاقتصادي، مشكلة الأمية والفقر، مشكلة البطالة، مشكلة التخلف العربي في مواجهة التحديات على الساحة الشرق اوسطية والدولية، وهي بالاساس مشكلة الدمقراطية الغائبة. مشكلة اجتماعية واقتصادية.
فليوجه الغضب اذن ضد سالبي حقوق جميع المواطنين بدون تمييز.