الإنابَةُ عنْ شتْمِ الصَّحابة
"بين السُّنَّة والشِّيعة"
د. محمد عناد سليمان
إنَّ الحديث عن المرحلة التَّاريخيَّة الأولى التي عاشها «صحابة» رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخطورة بمكان؛ وهي قضيَّة يتهيِّب ركوب متنها كبار العلماء؛ خوفًا من الوقوع في الطَّعن في أحدٍ منهم، أو عدم الإنصاف الذي قد يعتورُ الباحث، يزيد في خطورتها الحذر الملازم للخاصَّة قبل العامَّة مما سرى في أذهانهم من مقولات العلماء المتأخِّرين، الذين ما فتؤوا يخوِّفون طلبة العلم من البحث فيها، أو النَّظر في الكتب التي رَوَت أحداثها، وقد كنتُ لعَهْد ليس بالبَعيد أعيش في دائرة الجبْنِ والهلع إذا ما مال العقل والفكر إلى ضرورة دراستها، أو العودة إليها.
وقد كنتُ ألزمتُ نفسي بالكتابة فيما أراه صوابًا، بعد بحث ودراسة، وقد أصيبُ فيها، وقد أخطئ، خاصَّة في ظلِّ المتناقضات التي نراها في «أمَّات» الكتب سواء أكانت في «التَّفسير»، أم في «الحديث»؛ أم في «التَّاريخ»، أم في غيرها مما نعتزُّ به من تراثنا الأصيل، الذي فيه الغثُّ والسَّمين، وقد صرَّح «الطَّبريُّ» بذلك في مقدمة كتابه في «التَّاريخ» حيث قال: «وليعلم النَّاظر في كتابي هذا أنَّ اعتمادي في كلّ ما أحضرتُ ذاكره فيه، إنَّما هو على ما رويتُ من الأخبار التي أنا ذكرها فيه، والآثار التي أنا مسندُها إلى رواتها فيه، فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرتُه عن بعض الماضين، ممَّا يستنكره قارئه، أو يستشنعهُ سامعُه، من أجل أنَّه لم يعرف له وجْهًا في الصِّحَّة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنَّه لم يؤتَ ذلك من قِبَلِنَا، وإنَّما أُتيَ من قِبَلِ ناقليه إلينا، وأنَّا إنَّما أدِّينا ذلك على نحو ما أُدِّيَ إلينا»؛ ونحن نسير على منهجه في هذا البحث، وننقلُ ما رأينا واجبًا ذكرُه، لتبيان مواضع الخلط فيما نعلم منه ذلك، ولا ننزِّه أحدًا في الوقوع في الخطأ، فـ«العصمة» لا تكون إلا لـ«لأنبياء»، ولم تكن لبشر غيرهم قط.
إضافة إلى ما حصل في عصرنا من الاقتتال الواقع بين أبناء «الأمَّة» الواحدة، وهو بلا شكِّ كما نبَّهنا عليه غير مرَّة «اقتتال فكريِّ تاريخيِّ» تحوَّل مع طول الفترة الزَّمنيَّة إلى اقتتال بـ«السِّلاح» يذهب ضحيَّته مئات من النَّاس يوميًّا؛ بل إنَّنا نرى الهوة بين أبناء «الأمَّة» الواحدة تتَّسع، والاقتتال يكثر، ولا نجدُ لأهل العلم الذين لولا صمتهم السَّابق لما كنَّا على ما نحن عليه اليوم، لا نجدُ لهم رِكْزًا، أو همْسًا؛ بل وقعوا في «الفتنة» وانجرُّوا خلفَ العاطفة «الطَّائفيَّة»، و«المذهبيَّة» ليزيدوا من تعصُّبهم وضلالهم وبُعْدهم عن جادَّة الصَّواب.
ولعلَّ السَّبب في ضياعهم ما ذكرناه آنفًا من الخوف في البحث فيما حدث في المراحل التَّاريخيَّة الأولى، والنَّظر إلى ما قيل فيها من بعض السَّابقين بعينِ القداسة والنَّزاهة، والغلو في تحصيل المناقب، وتنزيه الرِّجال، والتّراخي في معالجة الأصول التي كانت سببًا في تداعيات «الفتنة» لتصل إلى مرحلة «القتل» لمجرَّد الانتماء إلى «الطَّائفة» ولا سبب سواه.
ولا شكَّ أنَّ هذا المقال لن يحيط بما نريده منه؛ لكنَّنا سنحاول التَّنبيه على بعض الأمور التي درج عليها النَّاس، عامَّتهم، وخاصَّتهم، وأنَّها من البديهيَّات والمسلَّمات، إلا أنَّها في حقيقة الأمر خطأ كبير، وقعوا فيه، وما ذلك إلا بسبب جهلهم، واعتمادهم على سماع ما يصلهم، دون النَّظر في صحَّته من عدمه، ولا نتهيَّب من البحث فيها؛ لأنَّها ليست من أصول «الإيمان»، أو «الإسلام»، أو «العقائد»، ولو كانت كذلك لما نثرها العلماء السَّابقون بين ثنايا كتبهم، ولما تطرَّقوا إليها في «مصنَّفاتهم»، ولأهملوها حتى لا تكون سببًا في انتشار الفرقة والانقسام الذي حصل وبدأ منذ أن دخلَ عيونَ الرِّجال حبُّ المناصب وشهوتها، ونشوة التَّسلُّط وزهوتها، ونعلمُ أنَّ هناك من يرسل سهام الاتِّهام بـ«الكفر» حينًا، وبـ«الزَّندقة» حينًا أخرى، وما هذا بجديد، إذ وجدناه عند سابقيهم، فقد أورد «ابن عساكر» في «تاريخ دمشق» قول «أبي زرعة الرَّازي»: «إذا رأيتَ الرَّجلَ ينتقصُ أحدًا من أصحاب رسول الله فاعلم أنَّه زنديق، وذلك أنَّ الرَّسول عندنا حقّ، والقرآن حقّ، وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآن والسُّنن أصحاب رسول الله، وإنَّما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ لبطلوا الكتاب والسُّنَّة، والجرح أولى بهم وهم زنادقة»، وهو كلام عاطفيّ مبالغ فيه، لا يثبتُ عند التَّحقيق؛ لأنَّ ممَّن انتقص بعض «الصَّحابة» هم من «الصَّحابة» أنفسهم فهل هم «زنادقة»؟!
وحتى لا يتَّهمنا القارئ بأنَّنا نورد القول من دون دليل، فحسبنا في ذلك ما أورده «مسلم» /2404/، و«التِّرمذيّ» /3808/، من أنَّ «معاوية بن أبي سفيان» قد أمر «سعد بن أبي وقَّاص» أن يسبَّ «عليَّا» رضي الله عنه، وفي موضع آخر من «صحيح مسلم» /2409/ عن «سهل بن سعد» قال: «سْتُعْمِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ آلِ مَرْوَانَ بن الحكم، فَدَعَا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتِمَ عَلِيًّا! فَأَبَى سَهْلٌ!فَقَالَ لَهُ: أَمَّا إِذْ أَبَيْتَ؛ فَقُلْ: لَعَنَ اللَّهُ أَبَا التُّرَابِ! فَقَالَ سَهْلٌ: مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي التُّرَابِ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ إِذَا دُعِيَ بِهَا».
ونظيره ما أخرجه «مسلم» أيضًا برقم /1063/ من حديث «أبي الزُّبير» قال: «أتى رجل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها، ويعطي النَّاس، فقال: يا محمد اعدل. قال: ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق!
فقال: معاذ الله أن يتحدَّث الناس أني أقتل أصحابي».
هذه أمثلة يسيرة من دون ما أوردته كتب «التَّفسير»، و«التَّاريخ» و«التَّراجم» في ذلك، ويظهر من «الأحاديث»، وهي في «الصِّحاح» أنَّ المذكورين من «الصَّحابة»، فهل ينطبق عليهم قول «أبي زرعة» السَّابق؟ أو هل تنطبق عليهم الأحكام «الفقهيَّة» التي صدرت عن «الأئمَّة» فيما بعد من «تكفير» من يسبُّ «صحابيًّا»؟! إذ قال «السُّبْكِيُّ»، وَ«الزَّرْكَشِيُّ» مِنَ «الشَّافِعِيَّةِ»: «وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِلاَفُ فِيمَا إذَا سَبَّهُ لأِمْرٍ خَاصٍّ بِه. أَمَّا لَوْ سَبَّهُ لِكَوْنِهِ صَحَابِيًّا؛ فَيَنْبَغِي الْقَطْعُ بِتَكْفِيرِهِ؛ لأِنَّ ذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ الصُّحْبَةِ ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
ولا نؤيِّدُ ذلك الفعلَ من أيِّ طرفٍ كان، معاذ الله، وإنَّما الغاية التَّنبيه على الخلط الذي يقع فيه كثيرٌ من أهل العلم، ويحاولون طمس بعض الحقائق التَّاريخيَّة التي مرَّت بها «الأمَّة» في عصورها الماضية، و«الصَّحابة» رحمهم الله جميعًا؛ هم المعنيُّون في هذه المرحلة التَّاريخيَّة، إلا أنَّ العلماء قد أحاطوهم بهالة من التَّقديس، والقول بعدالتهم جميعًا، وإن كانت «العدالة» كما يرون حسنَ الظَّنِّ بهم، وأنَّه ما من أحدٍ منهم إلا قد مات على حسن الخاتمة، وتوبة نصوح مكفِّره لذنوبه، ولا شكَّ أنَّ مثل هذا الكلام لا يصحُّ، والأدلَّة على ذلك كثيرة، من «القرآن» الكريم نفسه، ومن «الأحاديث» التي صحَّ نسبتها إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأكاد أجزم أنَّ قضية «العدالة» المطلقة التي نعتوا بها «الصَّحابة» هي السَّبب في وجود «أحاديث» متناقضة؛ إذ أنّ «الصُّحبة» سبب كافٍ عندهم لقبول «الحديث»، سواء أكان قد رأى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أم لم يره، وهي مسألة أخرى تتعلَّق في عدم تحديد تعريف صحيح لـ«الصَّحابيّ».
ونحن اليوم نسمع من متطرِّفي «الشِّيعة» من يسبُّ «أبا بكر»، و«عمر»، والسِّيِّدة «عائشة» رضي الله عنهم أجمعين، معتمدين على إرثٍ تاريخيٍّ أسَّسته «السِّياسة» وعملت عملها المشين في أمور «الدِّين»، حتى أصبح «السَّبُّ» و«الشَّتم» وسيلة من وسائل التقرُّب إلى الله تعالى، وقد سبق ما أوردناه من أمْر «معاوية» بعض «الصَّحابة»، يدفعهم لسبِّ «عليّ بن أبي طالب» رضي الله عنه، ولا ننكرُ بعض الجمل التي يردِّدها أصحابها عن جهل أو علمٍ يمكنُ إجمالها في هذا الباب، كقول بعضهم: «أبناء المتعة»، و«أبناء القردة»، و«أبناء الخنازير» وغيرها ممَّا يشير إلى استمرار حالة النَّزاع السِّياسي القديم الجديد، وكنتُ قد حذَّرت سابقًا من العصر الذي سيأتي، ونسمع فيه قولهم: « يا لثارات محمّد»، و«يا لثارات عائشة» وغيرها في ردِّهم على قولهم: «يا لثارات الحسين»، و«يا لثارات عليّ» وسواها، ويزيد الطِّين بلَّة، والأمر علَّة أنَّ بعض العلماء ممَّن لا يُدرك حقيقة الأمر وعاقتبه قد جعل من «منابر» المسلمين مواطنَ لبثِّ «الفتن»، و«الفرقة» بين أبناء «الأمَّة»، وترسيخ أسباب النّزاع والصِّراع القائم حول أحقيَّة الأطراف في «السُّلطة»، لذلك كان لزامًا علينا أن ننادي بفصل «الدِّين» عن «السُّلطة»، وأن تكون دور «العبادة» من «مساجد»، و«كنائس»، و«صوامع» من أجل «العبادة» فقط، لا أن تكون مراكز فساد «سياسيّ» ترى في «الإنسان» أرخص سلعة يمكن بيعها والمزاودة عليها، وإنَّني أبرأ إلى الله سبحانه وتعالى من هذا «الاقتتال» الحاصل بدعوة الأخذ بثأر «الحسين» عليه السَّلام، أو الرَّد عليه، ولا شكَّ أنَّ «الحكَّام» هم من يتحمَّل وزْر ذلك إلى يوم «القيامة».