ثقافتنا تغير شكلها
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
حادث إعلامي ثقافي صغير، ولكنه يحمل مضامين هامة عن حالة الثقافة في المجتمع العربي داخل إسرائيل.
حقاً لفت الخبر- الحادث الذي وزعه الإعلامي نادر أبو تامر عن حديث ضيفه " أوراق"، برنامجه في راديو إسرائيل بالعربية ، الكاتبة والشاعرة ركاز فاعور من شعب، انتباهي حول ما قالته في برنامجه بوضوح نادر في ثقافتنا، قالت: "الأدباء والشعراء والكتاب كاذبون".
هذه الجملة لم ترق للعديد من المبدعين فاتصلوا يحتجون، والأجمل أنها قرأت في نفس البرنامج الذي ألقت فيه قنبلتها قصيدة ترثي فيها نفسها.
خبر عادي قد يتجاوزه القارئ، أو المستمع ، ولكنه خبر يعبر عن واقعنا المأزوم ثقافياً.
ركاز فاعور، قد تكون عبرت بشكل مباشر وبسيط عما نعيشه من أجواء مرضية تحبط ثقافتنا المحلية.
ركاز لم تلجأ إلى الأسلوب "الدبلوماسي الثقافي" وهذا يشير إلى عمق الظاهرة المرضية، التي تجعل مثقفة شابة تفجر السكون بهذا العنف.
لم أتردد حين قررت أن أجعل من حملتها موضوعاً لمقالتي، وليس من طبيعتي أن أخفي آرائي حول حال الإبداع في مجتمعنا.. رغم ما سببته لي صراحتي من مشاكل وتهجمات شخصية.
حقاً، قد تجد ركاز نقاداً جاهزبن شخصياً، وبنصوص جاهزة على رفوفهم، لنقد ما تكتبه،ومسبقاً أعرف صيغة المقدمة النقدية، وكلمات المديح وربما تجد "خيمة ثقافية" تنظم لها أمسية بمشاركة عدد معروف ومحدد مسبقاً من الأسماء، ومعروف نوع الجمل سلفاً أيضاً.
لم أقرأ كتابات ركاز للأسف، ولا أكتب لأقلل من شان ابداعها، فانا لا يمكن ان أحكم على ابداع لم أقرأه،كما يفعل الشاطرين- المخربين في ثقافتنا. إنما أكتب لأدعم موقفها وألمها الذي عبرت عنه بمصداقية كبيرة وبكلمات مباشرة بسيطة.
أبناء جيلي تجاوزوا أزمة التجاهل، التي كادت أن تشل نشاطنا الإبداعي، واليوم، لا أحمل السلم بالعرض بالصدفة، بل بسبب معرفة عميقة للبضاعة النقدية على وجه الخصوص، وحالة الإبداع بشكل عام، وما يسود ثقافتنا اليوم من أجواء ثقافية مريضة .
أحدهم ينتفخ وراء ألقاب مضحكة تجاوزها الزمن. آخر يتربع بعناد على حمار النقد ، يسقط الحمار أرضاً من ثقل أوراق النقد الجاهزة للكتب التي ستصدر خلال القرن الحادي والعشرين كله، وهذه ظاهرة سبقنا فيها كل الآداب العالمية، وكل حركات النقد من مختلف مدارسها. ثالث صمت وهراً، خوفاً من الحكم العسكري في البداية، ثم خوفاً على وظيفته المدرسية، وعندما تقاعد صار شيخ الوطنية، ولا يقلي بيضة إلا بالشعر الوطني!! مؤسسات تقام، تجني الأموال باسم الثقافة، والثقافة تنعي نفسها، تماماً كما نعت ركاز فاعور نفسها قبل أن ترمي قنبلتها الثقافية: "الأدباء والشعراء والكتاب كاذبون" .
حتى الندوات أضحت حلقات مغلقة، لكل مؤسسة زبائنها. لا يا ركاز، ليسوا كاذبون، الكذب أكبر منهم، أخالفك فقط بأنك لم تضيفي أنهم "أميون" أي لا يقرأون. ولا تصابي بالمفاجأة أنهم "يكتبون". الكتابة لم تعد رد فعل على القراءة!!
وأذكرك أن أحد التافهين تساءل إذا كنت سأنجح بامتحان الإملاء، محاولا الرد غير المباشر على توصيفي للحالة المرضية التي يشكل حضرته صورة كئيبة منها!!
واقع ثقافتنا يذكرني بحكاية ذلك الإنسان الذي وصل جيل التقاعد (منتهى الإبداع) وقرر أن الوقت قد حان لمرحلة التمتع بما أبدع في حياته العملية، فها هم الزرازير الثقافية،التي توهمت انها صارت شواهين الثقافة، تتناوله كتابة وخطابه، حتى كارهيه صاروا يتحذلقون ويربطون أنفسهم بما أبدعه، لعل ذلك يكسبهم الشرف الضائع.
وهو إنسان عاش بالظل وسره أن آلاف المتحذلقين وجدوا به ضالتهم، وصاروا يفسرون ما لا يفهم من طلاسمة لذا قرر أن يبدأ مرحلة جديدة في حياته، بتمتع بما أنجزه، يعطي صياغة جديدة لحياته، وصياغة جديدة لشكله.
أولا ذهب إلى الحلاق وطالبه بقصة شعر شبابية، ثانياً ذهب إلى الخياط، وأصر على بدلات ذات تفصيلات رياضية تظهره أصغر بعقد أو عقدين من السنين. ثالثاً قفز في طريقه إلى محل العطور باحثاً عن عطر يكثر استعماله الشباب ويترك أثره على الأديبات. رابعاً نظاراته الطبية باتت مزعجة وتثقل على أرنبة أنفه فسارع الى استبدالها بعدسات لاصقة، خامساً رأى أن بطنه بدأت تميل للانتفاخ بسبب الراحة من العمل، والأكل الطيب، فانضم إلى نادي رياضي، وبدأت عضلاته تقوى وبطنه تنخفض ثم تختفي تماماً مما أسعده وطمأنه أن حياته الجديدة باتت قاب قوسين أو أدنى من الانجاز، ولكنه أخيراً انتبه أن أحذيته التي يستعملها تختلف عن موديلات الشباب وذات "البوز" الرفيع، فأسرع إلى محل الأحذية، ليتخلص فوراً من الحذاء الثقيل، محلياً قدميه بنوعية فاخرة من صناعة الأحذية الايطالية، مما يجعل كتبة النقد يضيفون إلى شعره صفة الحداثة ، وما بعد الحداثة!!
ماذا تبقى لتكتمل المعادلة؟!
سأل نفسه مفكراً متأملاً شكلة المنعكس في المرآة.
وفجأة انتبه الى أنه ما زال يحمل نفس قلم الحبر القديم فسارع الى قذفه بسلة المهملات، وطار راكضاً الى أقرب مكتبة يبحث عن قلم حديث ملائم لمرحلة حياته الجديدة، لأن للقلم قيمة ثقافية، تضفي نفسها على حامله حين يظهر في الندوات.
وهكذا أيقن أنه أنجز كل التغيير المرجو في حياته، وأصبح نجماً للمنابر والمجلات، أسوة بجميلات لبنان... مما يضفي سحراً على مظهره الثقافي الجديد من بوز حذائه حتى شعرات رأسه المصبوغة بالأسود تأكيداً على شبابه. ولكن الفرحة انقطعت في ساعة سوء نادرة.
كان خارجاً لتوه من محل تصفيف للشعر، حيث انتبه أن شعر حاجبيه يحتاج إلى قص للشعرات النافرة، حتى بدون إذن من وزارة الزراعة.
وهو يخطو بسعادة وثقة في الشارع، شعر بصدمة قوية وآلام شديدة عنيفة تخترق جسده وتحيله كومة دامية أمام عجلات سيارة، لم تنتبه إليه وهو يقطع الشارع ..
عاد إليه وعيه للحظة فنظر إلى السماء متسائلاً:
- لماذا يا الله... الآن تقتلني وأنا في قمة سعادتي؟!
وجاءه صوت من السماء... لم يسمعه ألا هو:
- آسف يا عزيزي، لم أعرفك بشكلك الجديد!!
أجل يا ركاز أنا أيضاً لا أعرف ثقافتنا بشكلها الجديد!!