الجامعة.. والمستقبل
أ.د. حلمي محمد القاعود
لم أر نظاما في العالم يحرص أن يزيد عدد خصومه وأعدائه مع مطلع كل صباح ؛ إلا النظام المصري العتيد .. ! فهو حريص على أن يضيف إلى مشكلاته المتراكمة مزيدا من المشكلات ، ويحول المشكلات البسيطة إلى مشكلات كبيرة ، وفي الوقت ذاته يصر أن يظهر بمظهر الكاره لشعبه ، المحتقر له ، الذي لا يعبأ به ، بل لا يجد غضاضة في المنّ عليه كلما لاح له أن يزيد من كراهيته واحتقاره !
آية ذلك أنه فضّل التعامل مع الشعب المصري على أنه قاصر جاهل لا يعرف مصلحته ولا مستقبله ، ولذا أقحم الأمن في كل صغيرة وكبيرة في شئون المجتمع . ولم يتورّع من وضعوه رئيسا للحكومة أن يقول ذات يوم : إن الشعب المصري قاصر عن التعامل مع الديمقراطية ، وأن مصر علمانية ، وأن مشكلات الغذاء من لحوم وخضراوات وأزمة الطماطم ونحوها لا تستحق منه الاهتمام ، لأنها مشكلات لا تليق بالوزراء والعظماء !
في الفترة الماضية صدرت أحكام قضائية لصالح الشعب المصري البائس منها ما يتعلق بتصدير الغاز إلى الكيان النازي اليهودي الغاصب في فلسطين المحتلة ، وقضية مدينتي التي منحت أرضها بمبالغ تافهة لمن استثمروها وكسبوا منها المليارات ، وقضية تحديد الحد الأدنى للأجور ، وقضية الحرس الجامعي وطرده من الجامعة حفاظا على استقلالها .. وتواجه الحكومة هذه الأحكام بأسلوب عجيب يؤكد كراهيتها للشعب واحتقارها له ، ووصايتها عليه بدلا من أن تكون خادمة له ، منفذة لإرادته ، حريصة على ثروته وحقوقه وكرامته .
فقد استشكلت على هذه الأحكام أو طعنت فيها أو فكرت في كيفية الالتفاف عليها وإفراغها من مضمونها ، إصرارا على موقفها من الشعب البائس ، بوصفها ترى الصواب المطلق والحق المطلق ، ولو صدرت أحكام القضاء تؤيد الشعب وتقف إلى جانبه .. ولعل اهتمامها بتفويض الأمن في حل معضلاتها بكل مرافق الدولة ومؤسساتها ، ومنحه كل الإمكانات والاستثناءات والوسائل التي تقهر الشعب ، وترغمه على الصمت والقبول برأيها ؛ يفسر نزعتها الشريرة في تحقير الشعب وإهانته .
لا أفهم أن يصدر القضاء الإداري في مستواه الأعلى حكما نهائيا باتا بطرد الحرس الجامعي من المدرجات والمكاتب ومباني الجامعة ، وتصر الحكومة أن تبحث عن بدائل للحكم الذي هو عنوان الحقيقة ، من قبيل الطعن أمام المحكمة الدستورية العليا ، أو ارتداء الحرس زيا مدنيا بدلا من الكاكي ، أو المرابطة باللوريات والمدرعات حول المباني الجامعية وبالقرب من أبوابها !
هل الطلاب والأساتذة أعداؤكم أيها الحكام ؟ هل هم أشد خطرا من العدو النازي اليهودي الغاصب الذي يفرض إرادته عليكم ويخضعكم لإرادته ؟ هل الجامعة جيوش مدربة ومسلحة توشك أن تغير عليكم وتحتل أرضكم ودياركم ؟ الجامعة وكلياتها مجرد مدارس مثل آلاف المدارس الثانوية المنتشرة في أرجاء البلاد ، ولا يوجد فيها حرس جامعي أو غير جامعي !
إن جامعات العالم التي زرتها ، والكليات التي دعيت إليها ، حتى تلك التي توجد في أعتى الديكتاتوريات ، لا يوجد بها عسكري واحد ، ولا حارس من خارجها . هناك بوابة للاستقبال بها موظف مدني واحد يرشد الزوار – وليس الطلاب أو الأساتذة أو الموظفين أو العمال – إلى المكان الذي يريدون الذهاب إليه داخل الجامعة أو الكلية .
أما عندنا فالسيد العقيد أو السيد النقيب يتربع داخل أفخم غرفة في الجامعة أو الكلية ، وتحت يديه أكثر من هاتف ، وأكثر من عامل ، ناهيك عن العصافير من الطلاب والأساتذة والموظفين الذين يتقاطرون عليه على امتداد النهار لتقديم التقارير الشفوية أو التحريرية حول العناصر التي يشتم منها أدني معارضة للنظام ، وتتجلى عبقرية سيادته البوليسية عند اختيار العمداء أو الوكلاء أو رؤساء الجامعات أو نوابهم ، أو ترشح الطلاب لانتخابات الاتحاد أو إجراء هذه الانتخابات أو إقامة الندوات ، أو غير ذلك من أمور تخص العملية التعليمية ، أو الإدارية !
ثم انظر ما يجري على بوابات الجامعة والكليات ، وما يحدث عندها من انتهاكات لن يكون آخرها ما جرى لفتاة الأزهر بالزقازيق التي ضُربت و أهينت وحرمت من الإسعاف ، وصوّر المشهد الإجرامي ونقلته الشاشات الفضائية ، ثم وجدت الجريمة من يدافع عنها من الأبواق المأجورة والأساتذة العملاء !
المسألة ليست حماية المباني أو حتى حماية الطلاب كما يدعي المرتزقة من كتاب لاظوغلي أو خدام النظام وكل نظام .. المسألة إدارة التعليم بالطريقة البوليسية التي لا علاقة لها بالعلم أو البحث أو طرق التفكير أو الحوار العلمي والفكري .. وهو ما جعل الجامعة المصرية على مدى ثلاثين عاما تهبط إلى أحط دركات الانهيار العلمي ، منذ أعلن الجلاد إياه عن إنشاء الحرس الجامعي !
هل أجهزة الأمن مشغولة حقا بأمن المجتمع والناس ؟ لو كان ذلك صحيحا ما فقد الوطن في العام الماضي وحده – على سبيل المثال - أكثر من سبعة آلاف قتيل في حوادث الطرق وحدها ، ناهيك عن الجرحى والذين صاروا معوقين بسبب حوادث المقطورات والتريلات .. هل يمكن لأجهزة الأمن أن تخضع أصحاب المقطورات والتريلات للقانون ؟ إنهم يتحدون أجهزة الأمن علنا ! ولكن أجهزة الأمن لا تتحداهم ـ بل تتودد إليهم وترجوهم ، لدرجة أن يعلن رئيس الدولة للمعنيين أنه لن يقبل تمديد المهلة المعطاة لأصحاب المقطورات عام 2012 !
إن الجامعة محراب مقدس مثل المساجد تماما لا يجوز لأحد أن يستبيحها أو يقترب منها إلا زائرا أو متعلما أو باحثا ، أما أن تكون ميدانا لتصفية حسابات بين النظام الحكم وخصومه ، فهذا هو الشذوذ الذي لا يمكن لأحد من الأسوياء أن يقبله أو يرضى به ، بل إن جامعات العدو في فلسطين المحتلة التي تفوقت على جامعاتنا بمراحل شاسعة ، لا يتحكم فيها جهاز الأمن أو الجيش أو الموساد نفسه .
إن تأمين النظام يجب أن يأتي من النظام نفسه ، وذلك بإقامته على أسس طبيعية تجعل المواطن قبل الجندي يخاف عليه ويحميه ، ويتحقق ذلك عندما يكون النظام خادما لشعبه وليس مسترقا أو مستعبدا لأفراده ، أو معتمدا على القبضة الفولاذية في قهره وإخضاعه . وأمامكم الدنيا كلها وانظروا ماذا يجري فيها بين الحكام والمحكومين لتروا أن النظام القائم على خدمة الناس يحميه الناس أجمعين حتى من يعارضونه . ولكن النظام الآخر يهرب منه أنصاره قبل خصومه عندما يجدون سفينته توشك على الغرق !
إن الجامعة هي المستقبل في البلاد الطبيعية ، وهي الأمل الذي تعقد عليه الشعوب الحية مصيرها ، وهي بعد ذلك منجم الإبداع لحل المشكلات وتذليل العقبات . ولكن بشرط أن تتمكن من ذلك ، فتوضع لها الإمكانات التي تحركها وتنشطها ، وتجعلها في حالة اليقظة الدائمة .
كيف تنشط جامعة أو تبدع وأستاذها قد صار في قاع المجتمع ؟ مرتبه الأصلي وفقا لقانون الجامعات رقم 49 لسنة 1972 هو 117 جنيها مصريا لا غير ؟ وكيف تنشط جامعة يتحكم في تعيين رئيسها وعمدائها والوظائف الأخرى مخبر أمي أو ضابط شاب تأتيه تقارير مزيفة وغير حقيقية ؟ وكيف تنشط جامعة وأساتذتها يعانون التمييز فيما بينهم ؛ هذا أستاذ عامل ، وذاك أستاذ متفرغ ، وذا أستاذ غير متفرغ ؟ كيف تنشط جامعة وعضو هيئة التدريس الشاب يتحكم في أستاذه العجوز ؟ كيف تنشط جامعة وميزانية البحث العلمي فيها أقل مما يصرف على مهرجان من مهارج الإسفاف والابتذال التي توصف بالفنية ؟ كيف .. كيف .. تظل الأسئلة تتلاحق لتشير إلى خلل كبير في احتقار السلطة وازدرائها للعلم والعلماء وتفضيلها لمن يسمون الفنانين ولاعبي الكرة ؟ ولا تكتفي بذلك بل تفرض عليهما قمعا شرسا يتمثل في القهر البوليسي والأمني ؟
إن إفساد الجامعة حدث بسبب التدخل الأمني ، وتخلفها المريع جاء نتيجة لاحتقار السلطة للعلم والعلماء ، وهو ما يشير إلى طبيعة المستقبل المظلم الذي تنتظره البلاد ويترقبه العباد . فهل من رجل رشيد يعيد الأمور إلى نصابها ، ولا يقطع ألسنة الطلاب والأساتذة الذين لا يعجبونه ؟ نتمنى .. والأماني سراب !!
هامش :
* إرسال أمين من رئاسة الجمهورية لزيارة الفريق سعد الدين الشاذلي القائد الميداني لحرب رمضان خطوة على طريق رد الاعتبار لقائد فذّ ، انبهر العالم بتخطيطه وذكائه في مواجهة العدو البشع . نأمل أن تتلوها خطوات لتكريمه رسميا فهذا يضيف للنظام ولا يخصم منه .
* * محافظة السويس تجاهلت قائد المقاومة الشعبية في حرب رمضان الشيخ حافظ سلامة . هذا لن يقلل من قدره ، بقدر ما يقلل من قدر من لا يحسنون التقدير !
* سأعود بمشيئة الله لملف التمرد الطائفي الخائن في الأسبوع القادم ، لو كان في العمر بقية .