القيادات والرموز بين المحاسبة والتقديس
القيادات والرموز بين المحاسبة والتقديس
د. ماهر الجعبري-الخليل-فلسطين
هل يعرف الحق بالرجال ؟ أم تعرف الرجال بالحق ؟ سؤال بسيط عند البحث الفكري صعب عند الممارسة، وخصوصا بعدما أصبح كثير من الأتباع في بعض الحركات والتنظيمات في حالة من "التقديس" السياسي أو الفكري للقادة والرموز الذين يمثلونهم، وكأنه يستحيل عليهم -عقلا وشرعا- أن يخطئوا، فكيف بهم أن ينجرّوا إلى مسارات سياسية ومتاهات فكرية باطلة، تصب في خدمة الغرب المعادي للأمة الإسلامية.
إن حالة التقديس هذه ليست جديدة على "ثقافة الاستسلام" أمام الغلبة السياسية والعسكرية للغرب خلال القرن الماضي، حيث تمثلت واضحة جلية في تقديس الزعامات العربية، حتى خرجت مصر للشارع تطالب المنهزم ألا يستقيل، وغنّت بغداد لسفّاحها، وحفظت ليبيا "آيات" الكتاب الأخضر، وقدّمت المشايخ التعازي فيمن ذبحها في سوريا.
عفا الزمان عن الخوالي ودار، وتعرّت القيادات وهي تهرول نحو الكيان اليهودي الغاصب فتمد له يد السلام بل وتعمل على حراسة أمنه وحدوده، بينما تحرّك جيوشها "لاجتثاث" جيوش العراق من الكويت، ولحماية الجنود الأمريكان من غضبة أمة وهي تشاهد امتهان الكرامة في "أبو غريب"، ولا زال في الدار من يقدّس:
إذ تطالعنا وكالة معا بمناشدة من رئيس تحريرها لرئيسه "لا تفعلها يا أبا مازن"، في مشهد تقديس يتكرر، وكأن "الرئيس" بطل قد خاض الحروب التحريرية حتى لم يبق شبر في جسده إلا وفيه طعنة من سيف أو رمية من رمح ! وكان رئيس التحرير قد ذكر أنه شاهد "الرئيس" يقرأ القرآن، ولكن يبدو انه لا يلاحظ أن طواف الرئيس على العواصم من أجل دويلة تدوسها أقدام جنود الاحتلال اليهودي وأن سعيه نحو المفاوضات هو تحد لمفاهيم الآيات التي يقرأ، وخصوصا عندما قال مخاطبا لليهود: أعطونا دولة وخذوا أمنا لم تحلموا به، فأي معنى لقراءة آية العداوة الشديدة لهؤلاء اليهود إذا كانت العين تقرأ بينما اليد ممدودة لحفظ أمنهم !
ورغم صعوبة هذا المشهد ومرارته، فالحقيقة أن هذا التقديس ليس مستغربا في بيئة سياسية تعلن أنها لا تحمل مشروعا إسلاميا، ولكنّ المستهجن هو ما يجري من تقديس لقيادات تقول أنها تحمل مشروعا إسلاميا، حيث يلاحظ المتابع للحوارات السياسية بين أتباع "المقاومة الإسلامية" حالة من التقديس أكثر فظاعة من تقديس الرؤساء، إذ أن معايير "الثقة بالقيادة وبحكمتها" قد جعلت تلك القيادة فوق الأفكار ... وفوق الأمة ... وفوق المحاسبة ... وفوق التاريخ ... بل وفوق المستقبل، في حالة غريبة من التقديس، لا يمكن أن تقبلها أمة منحطة في الفكر فكيف تقبلها أمة إسلامية راقية.
ولتصوير ذلك المشهد، لا بد من التساؤل:
هل يمكن لأنصار حكومة حماس أن يسألوا رئيس حكومتهم في غزة ما معنى "السلام العادل" الذي يتحدث عنه في نغمة تزداد تصاعدا ؟ هل هو مصطلح جديد يدخل قاموس المقاومة ويبطل ما أنشده السابقون من ألحان التنفير من الحلول السلمية والدعوة للنفير، من مثل "لا تحلم الحل السلمي إنس الأوهام" ؟ هل كانت تلك الدعوات هذيانا وجاءت ساعة الحق وصار للسلام العادل واقعا يتطلع إليه رئيس تلك الحكومة؟
وهل يمكن أن يسألوا رئيس المكتب السياسي عن قصده عندما يتحدث أن المفاوضات تحتاج إلى أوراق قوة ؟ وهل يدعو لأن تكون المقاومة ورقة ضغط على طاولة المفاوضات ؟ وهل قدّم الشهداء أرواحهم لكي يتمكّن المفاوض الفلسطيني من تحسين موقفه ؟
بل هل يمكن أن يسألوا وكيل وزارة الخارجية في حكومتهم عن قصده من "خطأ العمليات الاستشهادية" ؟
لا شك أنها أسئلة مرّة في حلوق من يقدّسون، وهي أسئلة لا تصح لأنها في سياق "التشكيك في حكمة القيادة" التي لا تخطئ !
ولا شك أنها أسئلة حرجة، وأن طرحها يستفز القائد والمقود، ولذلك فإن أفضل وسيلة للهروب من إجاباتها وهو بالتخندق خلف مفهوم "الثقة بالقيادة وبحكمتها"، مما بات معنى من معاني التقديس السياسي.
ثم إن هذا التقديس لم يقف عند حد السياسيين، بل وصل إلى ما يشبه "العصمة" لبعض مشايخ الفضائيات، حتى صار نقد تصريح لأحد أولئك المشايخ يمجّد فيه حكومة الشيشان ويجدّف فيه بعكس تيار من جاهد ضد تلك الحكومة، هو أمر غير لائق في حق شيخ جليل من شيوخ الأمة، وخصوصا أن نقده يخدم "الخصوم" في رام الله !
متى يمكن أن يسأل الأتباع قياداتهم وأي نقطة تلك التي تعتبر تجاوزا للخط الأحمر ؟
يمكن أن تتدحرج المفاهيم السياسية في هبوط بطيء حتى تلتقي مع ما طرحه من سقط أولا، وإذا لم يمتلك الأتباع الإرادة والجرأة السياسية للمسائلة، فليس ثمة من مستقبل إلا المزيد من السقوط، وتكون الطامة أكبر عندما يحرّم الأتباع على الآخرين مجرد المسائلة لقيادتهم!
إنها حالة خطيرة في ميزان الوعي السياسي، إذ هي تسليم وانقياد أعمى خلف قيادات تعلو لديها نبرة الغزل السياسي للأنظمة والقوى الدولية، وتزحف نحو منابر العلاقات الدولية، سيرا على خطى من سبقوها بغصن أخضر وبندقية، حتى غابت البندقية بل تحولت وجهة فوّهتها، ولم يبق إلا الغصن الأخضر للأعداء، والبندقية للرفقاء.
وهي حالة خطيرة وفي ميزان الحكم الشرعي، إذ هي على تناقض تام مع مفهوم المحاسبة الشرعية التي مارستها الأمة حتى مع خلفائها الراشدين المبشرين بالجنة. فلقد أصابت امرأة وأخطأ عمر، أما هؤلاء الرموز وأولئك القادة فإنهم مصيبون والأمة كلها بنسائها ورجالها مخطئة. ولقد رفع الرجل صوته في وجه عمر الخليفة وهدده، أجل هدده بالقوة والسيف إذا اعوجّ أمره، أما هؤلاء القادة والرموز فلا يجوز بحقهم إلا الخشوع والخضوع، ويجب تبرير كل قول أو فعل على محمل الحكمة التي لا تتكشف للبسطاء، لأنها مما لا يعلم تأويلها إلا المخضرمون في ساحات العلاقات الدولية.
ماذا لو وقف رجل أمام قائد فصيل أو أمام "رئيس بلدية غزة الإسلامية" –ولا أقول أمام قائد أمة- وقال له: لو وجدنا فيك اعوجاجا وقبولا بحل الدولتين لقاومناك سياسيا؟ كيف يمكن أن يكون حال أولئك المقدّسين لذلك القائد !
إن الناس عندما تكون مبدئية تلتف حول أفكارها وتحميها من السقوط، وتكون الرجال حارسة للأفكار والمبادئ.
أما عندما تهبط فهي تلتف حول رجالاتها، وتسخّر أفكارها لخدمة أولئك الرجال، وعندها يصير طبيعيا عليها أن تعرف الحق بالرجال الذين تقدّسهم، وتستمر في الهبوط.