مذكرة اعتقال الرئيس السوداني

أحمد مولود الطيار

لنبحث قبل التأييد أو الرفض

بمضمون الاتهامات نفسها

أحمد مولود الطيار

[email protected]

مما لا شك فيه أن لا مطلق الا المطلق . كذلك، ومما لا شك فيه أيضا، وتعلن عن نفسها صريحة وبلا مواربة " ازدواجية المعايير " ، نكاد نراها ونلمسها ونعاني منها دولا وبشرا . تلك اذن مسلمة أضحت تطبع العلاقات الأممية، المحرك الأساس : المصلحة،  تتقدم كافة الاعتبارات والمعايير الأخرى .

الطاغي في سجالاتنا وحواراتنا أمس واليوم، غلبة الضجيج وضياع البوصلة وتشوش الأهداف والاشتغال ضمن اسار معيار واحد ووحيد يمتح من سيكولوجية مهزومة، رسمت، ولا تكل عن رسم مستقبلنا، معلبة اياه في حدود ثقافة عنوانها الأبرز، اليأس، ومن ثم الحقد، وصولا الى نتيجة، تُبرأ الذات، وأن العالم كله يتأمر علينا .

مناسبة هذا المقال ، مذكرة الاعتقال الصادرة عن مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية والتي يطالب فيها باعتقال الرئيس السوداني، بتهمة ارتكاب مجازر جماعية وبأنه الرأس المدبر لعمليات اعتقال واغتصاب وتصفيات جسدية بحق أبناء جلدته شعب دارفور .

مصائب الثقافة المشار اليها أنها تعتمد " القياس " في محاكماتها دون أدنى اعتبار لانسانية البشر وكراماتهم (شعب دارفور الضحية، نموذجا يضحى به في سبيل الاخلاص للمنهج) وبسهولة يتم استصدار " فتاوى فقهية " لا تصدر عن إسلاميين، بل من قبل كتاب ومثقفين ومعارضين وصحفيين ونقابات وأحزاب كلها يقودها قائد اوركسترا واحد، لايصدر عنها إلا نغمة نشاز واحدة ووحيدة : "هنالك مؤامرة يقف خلفها الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني ".

صحافي عربي لايكاد ينقطع ظهوره على قناة فضائية مشهورة ،يطالب " بمحاكمات عربية شعبية " كيف ؟! وقبل ذلك يقر ويعترف " بأن الغالبية الساحقة من الزعماء العرب فاسدون وديكتاتوريون وقمعيون ووصلوا الى السلطة بطرق غير مشروعة أو بالانقلابات العسكرية أو عبر وراثة غير دستورية " ثم يتابع " من المؤسف أن حكومة الخرطوم المركزية انحازت الى طرف دون آخر أو قبيلة في مواجهة أخرى " .

نقابات وأحزاب في دولة عربية تقول " أمريكا واسرائيل تستهدف القائد العربي عمر حسن البشير" !!! (اشارات التعجب لي ). جزء من كثير .

أمريكا واسرائيل والردح ضدهما صبح مساء، هما المعيار الوحيد لوطنيتنا وقوميتنا، ولابأس ان كنا نمارس كل الموبقات الأخرى . والقياس، يتم على فلسطين والعراق والصومال ومقتل بنازير بوتو وجرائم الهوتي والتوتسي وكل الجرائم التي ارتكبت بحق الانسانية ولم تطولها يد العدالة .

صحيح . " ازدواجية معايير " و " الكيل بمكيالين " .... الخ . هل نؤبد الواقع كله ونجمده بانتظار ارساء العدالة الالهية ونقول حتى ذلك الحين للمجرم : اذهب فأنت تعيش في ظل التفلت من القانون وازدواجية المعايير .

المعيار هنا فائض عجز و ناتج ثقافة دون و" القياس " منهج مفوت يلغي الواقع والعقل، كليهما معا . وان كان هناك من يُصر على (قياساته) فليمتثل لآليات ذلك الابداع في حينه ويقايس على مثال سام أعلى، والمثال الأعلى هنا في موضوعنا " العدالة " ؛ هل فعلا ارتكب البشير ما يُتهم به أم القصة هي استهداف ومؤامرة ونفط .... الخ ؟   السؤال المحوري الذي يُغيبه البعض قصدا .

اذا كان الجواب بنعم ، فلتأخذ العدالة مجراها، ولن يصيب السودان أكثر مما أصابه ، والمتذرعين بأن هناك مؤمرة لتفتيت وتقسيم السودان من قبل " أمريكا والكيان الصهيوني "فليهنؤا بالا ، فالديكتاتور السوداني قسمها قبل ذلك، ويقدمها الآن على طبق من ذهب لكل من يود البيع والشراء وميليشيا " الجنجويد " أفصح دليل على سياسة الأمن الوطني المطبقة في السودان .

قد يحتج الكثير على " العدالة " القادمة عبر مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية وكل المؤسسات الأممية.  مصدر الاحتجاج ، أنها عدالة ناقصة أو مسيسة، تحركها مصالح الدول الكبرى وأجنداتها .

أيضا صحيح . ولكن من قال ، أن أمريكا أو فرنسا أو أي دول كبرى أخرى، بحاجة الى مجلس الأمن، أكثر منا نحن الشعوب المستلبة والمقهورة التي تسام يوميا شتى أنواع العذاب والقهر دون أي حام أو ظهر أو سند . هي عدالة ناقصة لاشك في ذلك، ولكن الى حين " الرمد أهون من العمى " .

ختاما، أخطر ما يواجهنا فيما يجري ودائما ضمن ثقافة الانحطاط التي نعيش (ازدهارها)أنها – تلك الثقافة – تُرفد برموز تحوّل الى تيمات وأيقونات، مع الأيام تخاف حتى مجرد نقدها في ظل انحدارنا المرعب، فأسامة بن لادن هو "المجاهد الأكبر" وصدام حسين هو "الرئيس الشهيد" واليوم حسن البشير هو "القائد العربي" وقبل قليل وفي استطلاع لمجلة أمريكية تتعرف فيه على أهم الرموز في كل أمة من الأمم، كان نصيبنا الشيخ القرضاوي والسيد عمرو خالد مقابل علماء فيزياء وكيمياء وأدب وفنون ومسرح وطب وذرة  نصيب الأمم الأخرى . اذا كانت هذه رموزنا فالمستقبل يُنذر بالكوارث.