من يوميات مدقق لغوي
د. نعيم محمد عبد الغني
منذ مئات السنين قال أحدهم: "ألا قاتل الله الوراقة، أكلت العمر وأفنت النظر"، وساعتها لم أكن أشعر بهذه الكلمة، فلعل صاحبها كاره لمهنته، أو كان في ساعة غضب.
ولكن عرفت أن هذه الكلمة نابعة من شعور عميق بالنصَب، وإحساس دفين بالتعب؛ فلقد كتب على المدقق أن يشقى ليراجع ما كتب؛ فيدقق ما يكتب تدقيقا لغويا؛ ليراعي صحة الكتابة وجمال الأسلوب...وإذا أخطأ في حرف فالويل والثبور له، وإذا خرج المقال في ثوب قشيب فللمحرر الرغد والحبور، والعبقرية وحسن الكتابة، فلقد كتب القتل والقتال علينا، وعلى المحررين جني الغنائم.
ورغم هذا التعب الذي تتجلى آثاره بعد مراجعة كم هائل من الوثائق إلا أن المدقق يجد متعة أحيانا عندما يقرأ عبارة جميلة، أو عندما يطالع فكرة جديدة أو تحليلا عميقا.
ويجد متعة خاصة إذا كان عمله بين أطياف متنوعة من الكتاب الذين أتوا من كل فج عميق، وأذكر من طرائف التحرير من مواد تكتب تأتي من محررين أو مراسلين أو متعاونين مثلا قال أحدهم: (الصحابي الجليل بشار بن برد)، وهو شاعر ولم يكن يوما ما صحابيا فضلا عن أنه شاعر لم يتسم بالصلاح، بل كان بذيء اللسان سيء القول إن لم يصبك في مالك أصابك في عرضك. ونجد مثلا اللهجات أثرت في بعض الذين يكتبون فمن يتأثرون بالفرنسية يكتبون مثلا الخارجية هكذا (الخاريجية)، ومن ينطقون الضاد ظاء قد يكتبون كلمة الأرض هكذا الأرظ ومن تعودوا على نطق الذال زايا تراهم يكتبون "الذين" الزين، ناهيك عن الخصام النكد بين الهمزات، وانعدام علامات الترقيم، والإسهاب دون داع...إلخ.
قل يا أيها المحررون تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نكتب إلا السهل الصحيح، والعربي الفصيح، وأن ننفض عنا غبار الغموض، وركاكة الأسلوب، ليكون الكلام جميلا والقول سديدا، وليسلم المدقق من بياض العين، وذهاب البصر، وليعلم الناس من بعد أننا أصحاب رسالة ترقى بفكرهم، وتحسن من لغتهم، فالعرب على كاهلها أمانة الأمة فكرا ومضمونا.